آدم جابر:
باريس- “القدس العربي”: توقفت صحيفة لوموند الفرنسية عند الزيارة التاريخية للبابا فرانسيس للعراق ولقائه بالمرجع الشيعي الأعلى في العراق، موضحة أنها وضعت حداً لخمسة عشر شهرًا من الحجر، شعر خلالها البابا فرانسيس أنه “في قفص”، حيث إنه لم يسافر إلى الخارج منذ عودته من اليابان في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2019، بسبب جائحة كوفيد-19.
وصل البابا فرانسيس إلى مطار بغداد الجمعة ليبعث برسالة تضامن مع المجتمعات المسيحية الهشة للغاية ومواصلة حواره مع العالم الإسلامي، وهذه المرة عبر الجانب الشيعي. وتعد المرة الأولى التي يطأ فيها زعيم الكنيسة الكاثوليكية الأرض التي حدد فيها الكتاب المقدس ولادة النبي إبراهيم. وقد حاول البابا يوحنا بولس الذهاب إلى هناك في عام 2000، لكن دون جدوى. فخليفته الأرجنتيني الموجود في العراق حتى يوم الإثنين المقبل، بذل كل جهده لتحقيق هذا المقصد.
وقال المتحدث باسم الفاتيكان ماتيو بروني إنه انتهز هذه “اللحظة الأولى الممكنة” لهذه الرحلة التي كانت “عاجلة”. لكن كان على المنظمين أن يأخذوا في الاعتبار وضعًا أمنيًا معقدًا ومحفوفا بالمخاطر. إذ أودى هجوم مزدوج تبناه تنظيم الدولة الإسلامية بحياة 32 شخصًا في سوق ببغداد في 21 يناير/كانون الثاني، وهو الهجوم الأكثر دموية منذ ثلاث سنوات. كما استهدفت الهجمات الصاروخية المصالح الأمريكية في الأسابيع الأخيرة، على غرار ما حدث مع قاعدة عين الأسد الجوية في غرب البلاد التي تم استهدافها قبل يومين من قدوم البابا فرانسيس، مما أسفر عن مقتل متعاقد مدني أمريكي.
من جانب آخر، تواصل لوموند، اضطر الفاتيكان أن ينتظر وقتا أطول قبل برمجة زيارة البابا فرانسيس، ريثما تتضح الرؤية في أزمة الحكومة العراقية التي أعقبت الاحتجاجات الملطخة بالدماء (قرابة 600 قتيل) في خريف وشتاء 2019-2020.
البابا فرانسيس، الذي التقى رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي والرئيس العراقي برهم صالح، في وقت تستعد البلاد لانتخابات برلمانية مبكرة في أكتوبر/تشرين الأول، قرر المضي قدما في زيارته للعراق بالرغم من ارتفاع عدد حالات الإصابة بكوفيد 19 هناك. علما أنه وحاشيته تلقوا اللقاح ضد كوفيد-19، عكس العراقيين. ولحظة وصوله إلى مطار بغداد، حاول البابا أن يحافظ على الالتزام بالتدابير، إلا أن ذلك لم يستمر طويلا وانتهى به المطاف مصافحاً بعض المسؤولين العراقيين الذين كانوا بانتظاره.
“لوموند” أوضحت أن رغبة البابا فرانسيس في زيارة العراق تعود إلى سنوات مضت، وأراد تحقيق ذلك عام 2014 بعد أن بسط تنظيم الدولة الإسلامية سيطرته على الموصل ثم على سهل نينوى، حيث يعيش العديد من المسيحيين. فقد طرد نحو 120 ألفاً من هؤلاء إلى كردستان العراق، وأراد البابا فرانسيس أن يزور اللاجئين المسيحيين في أربيل، كإحدى الطوائف الموجودة في البلاد منذ العصور الأولى، كما قال الكاردينال لويس رافائيل ساكو، بطريرك الكلدان. لذلك أراد البابا فرانسيس خلال زيارته مقابلة الطوائف المسيحية المختلفة في البلاد (الكلدان، الآشوريون، السريان، الكاثوليك، الأرثوذكس، إلخ)، والذين تقلص عدهم هناك في غضون عشرين سنة.
وقرر البابا أن يلتقي رجال الدين والمتدينين في كاتدرائية السريان الكاثوليك ببغداد، وهي نفس الكاتدرائية التي دخل فيها، في 30 تشرين الأول/أكتوبر 2010، أحد أفراد القوات الخاصة التابع للقاعدة خلال قداس، مما أدى إلى وفاة 58 شخصًا. ومن المقرر أن يحتفل بالقداس في الكاتدرائية الكلدانية ببغداد السبت، قبل أن يتوجه الى شمال البلاد يوم الأحد. في الموصل، في المدينة القديمة التي ما زالت مدمرة، من المقرر أن يصلي من أجل “ضحايا الحرب”.
جهود تجاه العالم السني
زيارة البابا فرانسيس لم تقتصر على مخاطبة المسيحيين فقط، كما أشار إلى ذلك باسكال غولنيش، المدير العام لـ “مؤسسة عمل الشرق”، موضحا أن البابا لم يأت إلى العراق لتوحيد المسيحيين ضد المكونات الأخرى للمجتمع العراقي. ولعل أهم لفتة هي اللقاء الخاص، في النجف، مع آية الله علي السيستاني، أحد المراجع الروحية الرئيسية للشيعة. ويمثل هذا اللقاء أول تواصل على هذا المستوى بين الفاتيكان وهذه الأقلية في الإسلام.
واعتبرت “لوموند” أن الظروف التاريخية ساعدت البابا فرانسيس على تكريس جزء كبير من نشاطاته للحوار مع الفاعلين المسلمين، سواء من السياسيين أو رجال الدين، بهدف نزع فتيل أي فكرة للصراع بين الأديان. وبعد عام 2014، حث محاوريه لاتخاذ موقف ضد الإرهاب، وعلى نطاق أوسع ضد الاستخدام السياسي للدين. في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2014، صرح البابا فرانسيس خلال لقائه بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان، قائلا: “سيكون من الجميل أن يدين القادة المسلمون والسياسيون ورجال الدين الأعمال الإرهابية، لأن ذلك سيساعد غالبية المسلمين على قول لا للإرهاب”. وكانت جهوده موجهة بشكل رئيسي نحو العالم السني، وهو ما سمح له ببناء علاقات جيدة مع شيخ الأزهر المصري أحمد الطيب.
“زيارة مجاملة”
في فبراير/شباط عام 2019، وقع بابا الكنيسة الكاثوليكية، البابا فرنسيس، وشيخ الأزهر “وثيقة الأخوة الإنسانية” في أبو ظبي، وكان ذلك بمثابة دعوة للمشاركة “في نشر ثقافة التسامح والتعايش والسلام”.
واعتبرت “لوموند” أن التركيبة الدينية في العراق تمنح البابا فرانسيس فرصة للحوار مع المكون الشيعي، لذلك يسعى البابا فرانسيس إلى توقيع وثيقة مماثلة مع الشيعة. غير أن البطريرك ساكو، المنخرط بشدة في التحضير لزيارة البابا فرانسيس، غير متأكد من إمكانية القيام بذلك في أسرع وقت ممكن، مضيفًا أنها ستكون المرة الأولى التي يتحدث فيها الاثنان مع بعضهما البعض. ووصف الفاتيكان الاجتماع بأنه “زيارة مجاملة”.
العراقيون قبل كل شيء
ورأت الصحيفة أنه لا شك في أن السلطتين الدينيتين لن تجد صعوبة في الاتفاق على أحد المفاهيم السياسية التي طرحتها “وثيقة الأخوة الإنسانية”، ألا وهي “المواطنة” القائمة على المساواة في الحقوق والواجبات. ففي الأزمة السياسية التي يمر بها العراق منذ ثمانية عشر شهرًا، اتخذ آية الله السيستاني المعادي للطائفية السياسية موقفًا لصالح المتظاهرين، الذين طالبوا بالإضافة إلى التغييرات السياسية بإنهاء الانقسامات الطائفية. وأطلقوا على أنفسهم قبل كل شيء اسم عراقيين، واستهدفوا في الأساس الأحزاب الدينية الشيعية المرتبطة بإيران وميليشياتها.
البابا فرنسيس سيتحدث عن السلام والمصالحة، لأن المسيحيين يلعبون دورا مهما في المجتمع العراقي، كما صرح بذلك البطريرك ساكو. خلال زيارته إلى العراق سينقل البابا فرانسيس رسالة مفادها أننا جميعًا إخوة، كلنا أبناء إبراهيم. علاوة على ذلك، بعد الاجتماع مباشرة مع آية الله السيستاني، من المقرر أن يعقد البابا فرانسيس لقاء بين الأديان بالقرب من الناصرية، في سهل مدينة أور القديمة، مع وجود ممثلين من جميع الأديان في البلاد، تحت رعاية إبراهيم الذي ولد هناك.