نضال منصور:
يتراءى لي الرئيس التركي رجب طيب إردوغان بكامل زهوه بلباس السلاطين المزركش كلما شاهدته، أو استمعت لأي من خطاباته التي يصنع فيها نجوميته كقائد، لا بل كخليفة للمسلمين الباحثين عن مجد ضائع منذ قرون طويلة.
لست في معرض الذم أو المديح لزعيم يعشقه ويناصره الملايين ممن يرونه منقذا لهم بعد سنوات من الوهن والهزيمة، ولست من الخصوم الذين يُشيطنونه ويجدونه سارقا للشعبية، ومفجرا لكل الصراعات والأزمات ما دامت تصنع منه رمزا، وعنوانا للمسلمين الذين ضربتهم الانقسامات.
آيا صوفيا الكاتدرائية، فالمسجد ثم المتحف، العنوان الجديد للصراع الذي اشتعل حين انقض إردوغان على تراث مؤسس الدولة الحديثة أتاتورك، فنقض عهده وأعاد "آيا صوفيا" إلى زمن السلطان محمد الفاتح مسجدا بعد "فتح" القسطنطينية.
لا أعرف لماذا لا يزالون يسمونه فتحا؟ ولا يقولون حتى همسا إنه احتلال، فكل سيطرة على أرض الغير سواء بالقوة أو بغيرها أجده احتلالا، ولا أحب تجميله بأوصاف أخرى، فالهزيمة تُستغل لصناعة تاريخ مزورا.
لا يهم، وما يهم أن قرار إردوغان أشعل حربا في بلادنا المُقسمة والهشة، فهذا فريق ينتشي فرحا بأسلمة "آيا صوفيا"، وذاك فريق يلعن إردوغان ويعتبر ما قام به عصفا بالتقاليد السمحة للإسلام، وما بين كل هذا الهراء على السوشيل ميديا تتأجج النزاعات الطائفية، ويتعمق شرخ لا نحتاجه في جسد أنهكته حروب الطغاة، وتُكمل ما تبقى الحروبُ السياسية بلباس الأديان.
يتصدر المشهد زعماء الأزهر مُنددين بالخطيئة التي ارتكبها إردوغان، ويساندهم علماء السعودية متحدثين بصوت واحد، وبصراحة لم أسمعهم من قبل يتحدثون عن فضائل التسامح و"احترام دور العبادة لكل الديانات".
عشّاق إردوغان الذين يرونه الخليفة العادل يفتنهم جبروته وعنفوانه في التصدي للغرب، يحلمون أنّ دولة الخلافة بأمجادها باتت قاب قوسين أو أدنى.
وعلى الضفاف بين الفريقين من يدعي أنه يُعلي صوتا للعقل بالتذكير أن إسبانيا غيرت كل تراث المسلمين في غرناطة والأندلس، وأن التباكي على التراث المسيحي والإنساني لعبة سياسية ليست أكثر، والنماذج للسكوت الفاضح على الخروقات والانتهاكات يتجلى بكل الأفعال الإسرائيلية التي استباحت مساجد كثيرة، وانقضت على تراث ومنارات للإنسانية، وعاثت بها تزويرا دون أن يُسمع صوت احتجاج.
ربما أراد إردوغان تذكيرنا أن التاريخ يكتبه المنتصرون، وأنه قُبيل الذكرى الرابعة لمحاولة الانقلاب الفاشلة على سلطته يسعى لإعادة بناء شعبيته من جديد، وهذه المرة من بوابة إعلان العصيان والتمرد أولا على دولة أتاتورك العلمانية، وثانيا يُدير ظهره للغرب الذين أوصدوا في وجهه أبواب "جنة" الاتحاد الأوروبي، وعاقبوه، وتركوه كولدٍ شقي منبوذ.
يقرأ بعض الأتراك الرسائل المشفرة من إردوغان ويجيبون عليه فورا بأن ألاعيبه السياسية مكشوفة ولا تنطلي عليهم، ويُخاطبه رئيس وزرائه السابق وخصمه السياسي حاليا أحمد داوود أوغلو "توقف عن التعامل مع رموزنا المقدسة كبطاقة للخروج من السجن كلما واجهتك مشكلة، آيا صوفيا ليست أداة بين يديك ولا ورقة للمساومة".
لست مؤرخا، ولست مهووسا بأن أضيف للتاريخ قصصا مزورة يحفرها المنتصرين على أجساد المهزومين، ولكن الحقيقة التي لا يُنكرها حتى إردوغان أن "آيا صوفيا" كاتدرائية بناها الأمير جستنيان الأول في القسطنطينية التي أصبحت بعد احتلالها إسطنبول، واستمر بناؤها خمس سنوات وسميت "آيا صوفيا" وتعني باللغة اليونانية "الحكمة الإلهية"، أو "حكمة الرب"، وحين شاهدها الإمبراطور بعد أن شُيدت قال "يا سليمان تفوقت عليك" في إشارة للنبي سليمان الذي قيل إنه يُسخر الجن لإقامة الأبنية العظيمة وفق روايات دينية.
"آيا صوفيا" ظلت مركزا للكنيسة الأرثوذوكسية لأكثر من 900 عام، و"الصليبيون" خلال حملاتهم حولوها إلى كاتدرائية للروم الكاثوليك، وبعد سقوط القسطنطينية على يد السلطان محمد الفاتح أمر بتحويلها لمسجد، وأدى الصلاة بها بعد أن غطى الرسوم والنقوش المسيحية.
جاء أتاتورك للحكم فمنع إقامة الشعائر الدينية بها، وأصدر مرسوما بتحويلها إلى متحف فني للإنسانية ـ هكذا قيل.
بقيت "آيا صوفيا" ضحية بين رحى الحروب وانقلابات السياسية، ولم تسلم من شرورهما كتحفة معمارية، وتراث إنساني يستحق أن يُخلد، ويظل بمنأى عن الصراعات والاستقطابات السياسية والدينية.
تطمينات الرئيس إردوغان أن " آيا صوفيا" حتى لو أصبحت مسجدا فستبقى مفتوحة لكل الأديان ومتاحة للزوار لم توقف الغضب الدولي المتصاعد، بابا الفاتيكان فرانسيس الثاني حزين على قرار السلطات التركية ويقول "فكري مشغول بإسطنبول وأفكر بالقديسة صوفيا والألم يعتصرني"، ووزيرة الثقافة اليونانية لينا مندوني تُعلق "النزعة القومية التي يبديها إردوغان تُعيد بلاده ستة قرون إلى الوراء"، ومديرة اليونسكو أودري أزولاي تأسف لقرار السلطات التركية الذي اتخذ دون حوار مسبق، وتراه يُقوض القيمة العالمية لهذا الصرح التذكاري.
لم يُصغِ إردوغان لكل هذه الحملات الدولية وضرب بها عرض الحائط وخرج في "خطاب النصر" ليصف قرار أتاتورك قبل عقود بتحويل آيا صوفيا لمتحف بأنه ليس خيانة للتاريخ فحسب بل ضد القانون، ويعلن أن آيا صوفيا ليست ملكا للدولة، بل مُلك ووقف للسلطان محمد الفاتح، مقدما رواية جديدة للتاريخ مفادها أن السلطان محمد الفاتح عندما فتح إسطنبول حصل على لقب الإمبراطور الروماني، وبالتالي أصبح مالكا للعقارات المسجلة باسم الأسرة البيزنطية.
لم يلتفت إردوغان للمعارضة الدولية وكانت عينه تغازل المتظاهرين الأتراك الذين خرجوا فرحين رافعين شعار " كُسرت الأغلال" احتفاء بتحويل "آيا صوفيا" لمسجد بعد ما يُقارب ثمانية عقود، وكأنه يقول متباهيا الآن أعدت تحرير القسطنطينية، وفي خلفية المشهد خصمه رئيس بلدية اسطنبول أكرم أوغلو الذي أنزل به هزيمة لا تُنسى في الانتخابات ينتظره، ويقف له بالمرصاد.
على وقع الاستعداد للصلاة الأولى في مسجد "آيا صوفيا" في الرابع والعشرين من الشهر الجاري يظهر إردوغان ويقدم نفسه كخليفة للمسلمين، ويترك خلف ظهره إرث عقود لتركيا العلمانية، ويحرق سفنا كانت على الشاطئ مع الأوروبيين، ويكسر تابوهات في العلاقة كان يحرص على إبقائها حتى ولو باردة، ويخطو بقدمين ثابتتين نحو بناء تحالفات تُعينه على مواجهة خصومه داخل الحدود وخارجها.
تقول الأخبار الواردة من إسطنبول إن تكنولوجيا متطورة للإضاءة ستستخدم وقت الصلوات للتعتيم على اللوحات الجدارية المسيحية بالضوء الأسود، ولكن السؤال الموجه إلى إردوغان ما هي المُعينات التي سيلجأ لها لتساعده على مواجهة عتمة طريقه الطويل بعد أن تزايد الخصوم من حوله، والطامحين أن تزول مملكة خلافته وعرش سلطانه اليوم قبل الغد، فالفجور في الخصومة في عالم السياسة لا يعرف كذلك حدودا أخلاقية أو وطنية؟