مالك العثامنة:
القضية ليست محصورة في كنيسة "آيا صوفيا" التي تحولت إلى مسجد بقرار من الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، المساجد تملأ إسطنبول والأرقام تقول إنها أكثر من حاجة سكان إسطنبول فعليا، وآيا صوفيا ليست ملكا للكنيسة الأرثوذكسية كذلك لتطالب بها، وقد أورد ذلك الدكتور خيري جانبك بملاحظة لافتة وهو من المتخصصين في التاريخ العثماني بأن السلطان محمد الفاتح حين احتل القسطنطينية دخلها معتبرا نفسه وريث أباطرة الروم، فكل ممتلكات إمبراطور بيزنطي اعتبرها السلطان ممتلكاته هو وآيا صوفيا كانت من ممتلكات الإمبراطور البيزنطي وليس من ممتلكات الكنيسة الأرثوذكسية.
السلطان وبقناعة أنها من ممتلكاته قام بتحويلها إلى جامع، وبقي هذا الأمر طوال فترة السلطة العثمانية بأن يتوارث ملكية "آيا صوفيا" سلاطين بني عثمان، وفي عام 1923 تأسست الجمهورية على أنقاض الإمبراطورية، ورفض مؤسس الجمهورية كمال أتاتورك من موقف عدائي للدين وإصراره على فرض العلمانية بالقوة أن يتم الإنفاق على آيا صوفيا كجامع من خزينة الدولة، كما أنه لم يستجب لطلب الكنيسة الأرثوذكسية بمنح المبنى لها لأنه لم تكن من ممتلكاتها، ولم يعتبر نفسه ولا الجمهورية وارثين لسلاطين آل عثمان، فحولها إلى متحف برعاية الدولة.
ثم يقول خيري جانبك: معاهدة لوزان عام 1924، ألزمت تركيا أن تبقى داخل حدودها وعدم التدخل خارج هذه الحدود وألزمتها بالتخلي عن أي إرث عثماني، واليوم تقوم سياسات إردوغان على الخروج عن كل أطر المعاهدة بمغامراته ما بعد الحدودية وإعادة آيا صوفيا إلى مسجد هو فعليا إعادة إرث العثمانيين، وهنا تكمن خطورته.
قراءة الدكتور خيري جانبك أرغمتني أن أغرق نفسي بقراءة ما تيسر لي خلال الأيام الماضية في التاريخ والتاريخ السياسي للجمهورية التركية، التي بدأت بمصطفى كمال أتاتورك، مؤسس الجمهورية والذي رغم أن كثيرا من الأتراك يكنون له احتراما شديدا، إلا أن هذا لا ينفي أنه كان مستبدا بالسلطة طوال فترة حكمه التي انتهت بوفاته.
كان أتاتورك يكن عداءً شديدا للعثمانيين، وهو شعور عام حينها ساد في معظم أرجاء الإمبراطورية المتفسخة والمتخلفة والمستبدة، الإمبراطورية التي دشنت سلطتها الدينية بزعامة المسلمين حين ادعى السلطان سليم الأول عام 1517، أن آخر الخلفاء العباسيين أوصى السلطان نفسه بالأماكن المقدسة في مكة والمدينة، فنجحت الحيلة بإثارة المشاعر الدينية رغم الشك التاريخي الكبير بمصداقية قصة التوصية، واعترف ملايين المسلمين بالشرق الأوسط وغيره بالسلطان خليفة للمسلمين.
السلطان سليمان القانوني والذي توسعت إمبراطوريته إلى أوسع حدود لها أعلن بنفسه أكثر من زعامة المسلمين بقوله:
"أنا زعيم أمة محمد، تصحبني قدرة الله ومعجزات رسوله، أنا سليمان الذي يرفع اسمه في الخطبة في مكة والمدينة، أنا الشاه في بغداد والقيصر في الأراضي البيزنطية والسلطان في مصر".
تلك كانت روح "الإمبراطورية" العثمانية المرتبطة بما يفكر ويؤمن به أباطرتها، زعامة روحية واستبداد إمبراطوري ورغبة إمبريالية مستمرة بالتوسع، كانت تلك هي شهوة السلطة المطلقة بأقصى تجلياتها التاريخية.
لقد تخلص أتاتورك المؤسس من كل إرث عثماني، ربما هذا ما اعتقده هو وكل محبيه، لكنه بلا شك ورث الشهوة المطلقة للسلطة.
تلك الشهوة المطلقة للسلطة التي ورثها أتاتورك، كانت محدودة وخالية من الأطماع التوسعية، فبعد نضاله للتخلص من معاهدة سيفر عام 1920، وهي المعاهدة التي وضعها الحلفاء المنتصرون وأشاروا فيها إلى قبول إنشاء دولة كردية وأخرى أرمنية في الهضبة الأناضولية، استطاع مؤسس الجمهورية أن يستبدلها بمعاهدة لوزان، التي حققت الوحدة القومية التركية على كامل الأناضول، وأنهت تماما الإمبراطورية متعددة القوميات، وما أن انتهت حرب الاستقلال التي كرست أتاتورك بطلا أسطوريا، حتى بات جليا أنه لن يسمح بعد ذلك بتنوع الأناضول الديني والعرقي، مقابل بروز الهوية التركية، تلك الهوية التي شقت طريقها ـ قبل تأسيس الجمهورية ـ من خلال الصراعات العرقية وكان أكثر ظهور لها في الصراع التركي ـ الأرمني والذي لقي فيه نصف مليون أرمني مصرعهم بين نفي وإبادة بالمذابح عام 1915.
تلك الصراعات ـ مع الأرمن والأكراد ـ أورثت أتراك الدولة الأتاتوركية تلك النظرة نحو الأرمن والمسيحيين عموما بأنهم خونة (وهو ما انسحب على كل ما هو غير تركي أيضا)، وهو ما شكل انطباعا لدى المسيحيين في المقابل بأن الأتراك طغاة.
على هذه الهوية التركية "المتشظية" أقام أتاتورك جمهوريته.
بقيت تلك الأحقاد تغذيها سياسة أتاتورك الانعزالية، ففي عام 1925 انتهج أتاتورك سياسة تبادل للسكان، فتم إرسال أكثر من مليون أناضولي أرثوذكسي إلى اليونان، وفي المقابل قطع الرحلة نفسها 380 ألف تركي في الاتجاه المعاكس.
كان دافع أتاتورك هو توحيد الأتراك في هوية قومية جامعة لهم دون سواهم، وكان دوما يتهم الأسرة العثمانية بالاستيلاء على سيادة وسلطة الأمة التركية.
ما فعله أتاتورك ـ الذي ولد عثمانيا ـ ببساطة أنه اتخذ قرارا بالقطيعة التامة مع التاريخ العثماني لتقوم جمهوريته، كان قرارا سياسيا شموليا وطاغيا بأن لا تستمد دولته الجديدة أي شرعية من الشرعية القديمة.
توجه أتاتورك بعد القطيعة التامة مع تاريخ الجغرافيا التي يحكمها، إلى الغرب الذي كان مبهورا به، وبدأت عملية "علمنة" تركيا بالقوة على الطريقة الأتاتوركية، التي أراد لها أتاتورك أن تكون علمانية تركية صافية، وهذا ما كان مستحيلا عمليا، فأتاتورك يريد وطنية تركية تكاد تقارب العصبية حد التطرف القومي، ويريد بنفس الوقت أن تكون جمهوريته مثل أوروبا أو جزءا منها على أبعد تقدير.
المؤرخ البريطاني برنارد لويس التقط السياسة الأتاتوركية في كتابه "ظهور الدولة التركية" وحلل فشل المعادلة الأتاتوركية بقوله: "لا يمكن أن يكون اقتراض حضارة ما لممارسات حضارة أخرى اقتراضا محدودا أو معزلا. فكل عنصر يؤتى به من الخارج يأتي معه سلسلة من التبعات".
وعليه وبناءً على نظرية لويس، فإن ما يحدث في تركيا منذ ذلك التاريخ حتى اليوم، هو حاصل جمع كل تلك السلاسل من التبعات.
تم انتخاب رجب طيب إردوغان رئيسا للوزراء ثم رئيسا للجمهورية بناء على قواعد تلك الدولة الأتاتوركية وسلاسل التبعات فيها.
تلك السلاسل التاريخية المتعاقبة والتي تراوحت بين سلطة منتخبة بصناديق اقتراع وأحزاب تتداول الحكم، أو سلطات عسكرية تنقلب على قرار صناديق الاقتراع وتحكم بالحديد والنار بقناعة أنها تحمي الدولة وروح العلمانية الأتاتوركية، بل ووصل الأمر إلى أن علق جنرالات الجيش التركي في انقلاب عام 1960 رئيس وزراء تركيا المنتخب عدنان مندريس على حبل المشنقة، فقط لأنه خفف من قبضة "العلمانية الأتاتوركية" قليلا وكان الراحل ذا ميول ليبرالية.
جاء إردوغان للسلطة منتخبا هو وحزبه في صراع انتخابي أسس له من سبقه من سياسيين، ضمن ذات سياق الأسس الأتاتوركية للجمهورية، مع كافة سلاسل التبعات التي تحدث عنها برنارد لويس.
إردوغان الذي بدأ السلطة منتخبا كأنجح عمدة عرفته مدينة اسطنبول، وانتهى منتخبا كرئيس جمهورية يدير الدولة كإدارة أحياء إسطنبول.
وقد أشرت إلى ذلك في مقال سابق على موقع الحرة في تعليق على انتخابات إسطنبول الأخيرة عام 2019 التي خسرها حزب إردوغان.
في العالم العربي.. حيث دوما البحث عن غودو البطل المنتظر من أي "زاوية" على هذه الكرة، فإن التاريخ التركي كله يبدأ من عند إردوغان، تماما مثلما تمت "أيقنة" صدام حسين قبله، وعبدالناصر قبلهما.
لا يريد أحد أن يقرأ مثلا أن إردوغان كان حليفا فاعلا في إسقاط صدام حسين وبشكل عملي جدا.
لا يريد أحد أن يعرف بوجود سياسيين أتراك بنوا وأسسوا للاقتصاد التركي الذي نراه اليوم قبل إردوغان، مثل يولاند أجاويد الذي مات وحيدا بين ذراعي زوجته، أو تورغوت أوزال الذي ترأس الحكومة ثم الجمهورية ومهد بسياساته الاقتصادية لكل نجاحات قطاع المقاولات التركي.
إردوغان يعرف ذلك، ويقرأه جيدا، وكل تلك الجماهيرية الشعبوية التي التقطها مبكرا غذت عنده طموحاته "التوسعية" على الصعيدين الشخصي والقومي، ولأنه قرأ تاريخ بلاده جيدا، فقد أدرك خطورة "الجيش" وتلمس ضيق الأتراك العام من العسكرتاريا التي سيطرت كثيرا على مفاصل الدولة وخنقت الحريات في عقود مضت.
إردوغان الذي اعتقلته العسكرتاريا لأنه ألقى قصيدة وهو عمدة إسطنبول تفاخر فيها بالمآذن والقباب، كان يحمل منذ ذاك الوقت برنامجه للحكم، برنامج براغماتي يوظف فيه قواعد الجمهورية الأتاتوركية لإحياء الإرث العثماني، كان يبني جسرا غير مرئي بين أتاتورك وعبد الحميد، كان الجسر طريقه لقصر الرئاسة.
في داخل إردوغان، مثل كثير من الأتراك، شيء من أتاتورك، وشيء من عبدالحميد.
واليوم، يظهر العثماني التوسعي في سلطة إردوغان أكثر وأكثر، لا بالاستفزاز المجنون بتحويل آيا صوفيا إلى مسجد، بل بهذا التوسع الإمبريالي في حوض البحر المتوسط للسيطرة على أهم مصدر للطاقة في العالم: الغاز.
إردوغان، له طموحاته الشخصية التوسعية، وهي التي تتقاطع مع الأخوية العالمية للتيار الإسلامي الممثل بالإخوان المسلمين، وقد اختطفوا السلطة في عاصمة الغاز وتملكوا القدرة غير المسبوقة على التمويل الخرافي لأي مشروع توسعي ممكن.
إردوغان، نموذج لتلك البراغماتية المضللة ببراعة التي ينتهجها التيار الإسلامي المعاصر، هو نفسه الذي جمع النقائض في كل خطاباته ورسائله، وحين دافع عن إرسال قوات إلى ليبيا وإقحام تركيا في حرب الليبيين، خاطب مريديه باستحضار القبطان العثماني الأكثر إمبريالية خير الدين بربروس وشبه إرسال القوات إلى هناك بحملات بربروس في مواجهة أعداء الدولة العثمانية (بل إن السفن والفرقاطات البحرية التركية تحمل أسماء بربروس وغيره من قادة البحر العثمانيين)، لكنه حين واجه المعارضة القومية في بلاده التي انتقدت تدخل تركيا في مغامرة توسعية استحضر مؤسس الدولة التركية نفسه، مصطفى أتاتورك بقوله: "إذا كانت ليبيا لا تعنينا فماذا كان يفعل أتاتورك هناك؟". حتى انه وبلا تردد جمع النقائض في جملة واحدة حين قال في خطابه آخر عام 2019: "إن ليبيا أمانة العثمانيين ومصطفى كمال أتاتورك".
في المحصلة...
إننا أمام مستبد من نوع جديد، حالة فريدة فعلا من البراغماتية الانتهازية ذات الأطماع التوسعية، شخصية تسعى إلى فرض نفسها كأسطورة بديلة عن أتاتورك، تشبه في الفيزياء التاريخية رد فعل تاريخي لكل ما يمثله أتاتورك، مشابهة له في القوة "والسطوة"، ومعاكسة في الاتجاه.