محمد المحمود:
هل الدين حاضر ـ كفاعل حيويّ ـ في حياة العرب اليوم؟ وإن كانت الإجابة بالإيجاب؛ فهل هو يمارس أدواره في دعم الرؤى/ المشاريع التقدمية، وفي دعم قيم الحداثة المعاصرة المتمحورة حول الإنسان، أي التي تجعل الإنسان أعلى هرم اهتماماتها ـ حرية وحقوقا ـ، أم هو عائق أمام أي تقدّم لهذه الرؤى وهذه الحريات والحقوق في الفضاء العربي؟ وسواء أكان داعما أم عائقا، فهل هو مما يمكن الاستغناء عنه ببدائل أقدر على أداء المهام المنوطة به عُرفا، أم هو قدر العربي مكانا وزمانا، وعليه أن يتعامل مع واقعه من خلال الأقدار الملازمة لهذا الواقع؟
هذه أسئلة تخضع "أجوبتها الصريحة والمخاتلة" لما يُشْبه الإجماع في المقاربات التحليلية الثقافية. فالقوة الهائلة التي يمتلكها الدين من حيث دوره المحوري في تشكيل أنظمة الوعي في العالم العربي ليست محل خلاف. ودور التدين التقليدي في تعطيب الوعي العام بربطه بوعي قروسطي لا ينتمي لعصرنا (ومن ثم إعاقة كل حداثة وكل تحديث) هو دور كان ولا يزال في مرمى نقد الحراك الفكري التقدمي. أما من حيث إمكانية الاستغناء عن الدين (الدين بالمطلق/ أي دين) ببدائل تقوم بذات الأدوار الوظيفية، فهذا ـ في تصور المَعْنيين بالظاهرة الدينية وبالإجرائية التقدمية ـ في حكم المستحيل.
إذن، تبقى الحقيقة الماثلة التي لا يمكن القفز عليها، كما لا يمكن التلاعب بها، فضلا عن تجاهلها، هي أن الدين (الإسلام وغيره من أديان الأقليات) حاضر وبقوة، على نحو مباشر وصريح (كما نراه في الأقوال والافعال الصادرة بحكم الدين عن أفراد أو مؤسسات، إضافة إلى ردود الأفعال عليها إيجابا أو سلبا)، أو على نحو مضمر وضمني (كما يتجلى ذلك في التصرفات اللاّدينية، أو التي تبدو كذلك في الظاهر، بينما هي في العمق صادرة عن وعي ثقافي ديني عام).
يتوفر العالم العربي على ثراء/ تنوّع ديني ومذهبي/ طائفي. هذا العالم هو مهد الأديان الإبراهيمية الثلاثة، ومصنع ما تناسل عنها من مذاهب وطوائف وفرق وتيارات وأحزاب. ورغم كل الاختلافات بين هؤلاء، بل وكل الفروقات الواضحة في درجة الاستجابة لتحديات الحداثة، إلا أنها كلها تكاد تصدر عن وعي سلفي عتيق (بالمفهوم اللغوي الواسع للسلفية هنا) لا يزال يتأبّى على استحقاقات الواقع الذي بات بين خيارين مصيريين: إما أن يكون حداثيا، ومن ثم فاعلا/ منتجا/ مُمْتلِكا لمصيره حقا، وإما أن يَتنَكّر لكل فتوحات الحداثة، ويخلق أوهاما/ بدائل يعتاش عليها، ومن ثم يخرج بها من التاريخ.
الإشكالية الدينية في عالمنا العربي لا تتحدّد فقط في أن الدين يأخذ أدوارا متضخمة، تتجاوز ـ أو يتجاوز القيمون عليه/ رجال الدين ـ طبيعة مهام الدين الخاصة، بحيث تصل في كثير من الأحيان إلى ممارسة الدور الوصائي الصريح، بل الأهم والأخطر من كل ذلك كامن في أن الدين كان ـ ولا يزال كما كان! ـ يمارس ذات الأدوار التي كان يمارسها في تاريخه البعيد والقريب، وخاصة في العصر الإسلامي الوسيط. لا يوجد مُتَغيِّر نوعي طرأ على طبيعة الأدوار، ولا حتى على آليات ممارسة المهام الدينية. فالوظيفة، والأدوار، والآليات، وشبكة العلاقات ـ الناظمة لكل ذلك، والمنتظمة فيه ـ، كلها بقيت كما هي؛ رغم ما يبدو من مَدٍّ وجَزْرٍ ظرفي/ متغير؛ نتيجة التجاذبات التنافسية/ الصراعية بين فضاءات الديني وفضاءات المدني؛ في مسار السعي للاستئثار بمصادر القوة الخام: المصدر الجماهيري.
إذن، ما لم تحدث مُتغيّرات/ تحولات نوعية كبرى في الدين ـ أفكارا ووظائف وأدوارا وآليات ـ فلن يحدث تغيير حقيقي يقود إلى تطور/ تقدّم حقيقي. وهذا ما تنبّه له غوستاف لوبون على وجه العموم؛ عندما أكّد أن كل حضارة مشتقة من عدد صغير من "الأفكار الأساسية" التي نادرا ما تغيّرت، وأن المتغيرات الكبرى في حياة الأمم، التي تنقلها من حال إلى حال، هي متغيّرات تحدث في هذه الأفكار الأساسية التي تقدم لها البيئة والوراثة استقرارا/ استمرارا، بينما المتغيرات المتعلقة بـ"الأفكار الطارئة"، كالانبهار بفرد أو بفكرة، لا تُحْدِث تحولات حقيقية في حياة الأمم (سيكولوجية الجماهير ص81).
إن الدين في العالم العربي هو صانع الأفكار الأساسية، أو هو مُكَيّفها على ما هي عليه الآن، هو الصانع الحقيقي لنظام الوعي في محدداته الأعمق والأخفى، ولكن الأقوى والأبعد تأثيرا؛ رغم كل ادعاءات التجاوز والانفتاح والتصالح مع الحداثة. ما يحدث للعراق منذ أربعين عاما، ثم ما يحدث له منذ سبعة عشر عاما على نحو أخص؛ لم يكن ليكون على ما هو عليه الآن؛ لو كان ثمة متغيرات نوعية/ جذرية طالت الأديان/ المذاهب الفاعلة في أفكارها وتصوراتها الأساسية. وما يقال عن العراق يقال أيضا عن سوريا وعن لبنان وعن مصر وعن ليبيا...إلخ أقطار العالم العربي المنكوب بوعيه، بأفكاره الكبرى، وبأبنائه الذين هم نتاج هذه الأفكار/ هذا الوعي.
في عالمنا العربي، قد تبدو بعض المواقف/ بعض الأحداث الكبرى، ذات طبيعة غير دينية، أو أنها تتوسل الديني على نحو ذرائعي؛ بينما هي في الأساس مسلك دنيوي/ زمني خالص. لكن، حتى في مثل هذه الحال، يجب أن نستحضر حقيقية أن الفاعلين المؤثرين هنا لا يخوضون غمار خياراتهم بوعي فارغ، أو على نحو أدق: لا يخوضون غمار خياراتهم بوعي محايد تماما، بل هم ـ في الحقيقة ـ غير محايدين؛ لأن نظام الوعي العام هو ما يمنح الخيارات الدنيوية قيمتها في النهاية، ونظام الوعي العام هنا هو ـ في العمق ـ ديني، أو مطبوع ـ إلى حد كبير ـ بالديني.
على أي حال، الدين في هذا الفضاء العربي سيبقى ـ وإلى أمد ليس بالقصير ـ فاعلا ومؤثرا في مجمل صور الحراك، وفي المَرّات التي لا يفعل فيها بشكل مباشر، سيكون فاعلا من وراء ستار، وفي كل الأحوال سيضطر معظم المنخرطين في الفعل والتفاعل الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، بل والثقافي، إلى التقاطع الإيجابي معه؛ بغية الاستثمار في عناصر القوة التي يمتلكها لكونه قادرا على تحديد أو تلوين معظم الخيارات الجماهيرية التي يمكن أن تحسم انحيازاتها كثيرا من محاور الصراع.
وحيث أن الدين راسخ الجذور على هذا النحو، ومتوفر على هذا المستوى من القوة والتأثير المتعدي لفضاءاته الخاصة، فلا مناص من الرهان على إصلاحه/ تطويره؛ كشرط أولي/ كشرط مسبق لإصلاح المجتمع وتطويره؛ لأن استمرار الدين بذات القوة التأثيرية، وبذات الأدوار والمهام المتضخمة، وبنفس شبكة العلاقات الناظمة للفعل والتفاعل الاجتماعي، كل ذلك يعني استمرار نظام الوعي ذاته، وسريان الأفكار القديمة ذاتها، والتصورات الكلية ذاتها عن الله وعن العالم وعن الناس. ما يعني في النهاية ـ وكنتيجة طبيعية وحتمية ـ استمرار العالم العربي كما هو عليه بذات المآسي والكوارث والإحباطات والانتكاسات، بل وبذات الأحلام المحكوم عليها بالإجهاض سلفا؛ بحكم واقع الحال.
أخيرا، لا بد من التأكيد على أن محاولة تجاوز شرط "الإصلاح الديني" بالقفز عليه لا تجدي. فحتى في أقصى درجات العلمنة الإجرائية، لا يمكن تجاهل دور القناعات الدينية العميقة ـ المستترة أحيانا/ اللاشعورية في كثير من الأحيان ـ في دفع وإنجاح مسار العلمنة أو في تعطيبها وتفريغها من طاقتها الإيجابية؛ إن لم يصل الأمر لإقصائها بالكامل في نهاية المطاف، ثم استحضار البديل الديني ـ وربما الأصولي ـ على نحو صريح.