إسحق إبراهيم:
أعلنت الكنائس المصرية، إلغاء احتفالاتها بأسبوع الآلام وعيد القيامة، مع استمرار غلق الكنائس وتعليق جميع الأنشطة الدينية والروحية والخدمات بها، في إطار إجراءات مواجهة انتشار فيروس كورونا، وهو الأمر الذي تعرَّض البابا تواضروس بسببه لموجة من الانتقادات، لا سيما أنها المرة الأولى منذ عقود طويلة التي تغلق فيها الكنائس وبشكل كامل في هذا الوقت من العام بما يمثله من أهمية دينية. وبالتزامن مع هذه الإجراءات، تصاعد الجدل بين رجال الدين حول أسباب الوباء الحالي، وإمكانية أن يكون عقابًا إلهيًّا، وهو الجدل الذي قاد أحد أشهر القساوسة بالقاهرة إلى اتهام مخالفيه بالهرطقة والخروج على تعاليم الدين. هذه الكارثة الكونية لم تكن كاشفة فقط عن حجم تأثير المؤسسة الدينية الأقدم في مصر والتي تتصدى لأدوار اقتصادية واجتماعية محورية في حياة أتباعها، ولكنها كشفت كذلك عن أجواء الأزمة التي تعيشها الكنيسة منذ عدة سنوات والتي بدأ ظهورها للرأي العام بوضوح عقب وفاة البابا شنودة، سواء كانت أزمة ناتجة عن انقسامات عميقة في الرأي العام القبطي نفسه أو بينه وبين المؤسسة الكنسية أو داخل المؤسسة الكنسية نفسها بين تيارات متعددة تتراوح ما بين التطرف والاعتدال والانفتاح على الاتجاهات الجديدة في الجماعة القبطية. ونحاول في هذا التعليق المختصر رصد هذه الانقسامات وكيفية تعامل المؤسسة الكنسية معها ومستقبلها عقب انقشاع غمة الكورونا.
كورونا والإفخارستيا
مع الخطوات المتسارعة لمؤسسات الدولة نحو مزيد من الاحتياطات لمنع انتشار كورونا، قررت عدة كنائس عالمية اتخاذ بعض الخطوات، منها الغلق، أو تغيير بعض الممارسات التي تقوم بها خلال الصلوات الدينية. كما أعلنت الكنيسة السريانية الأرثوذكسية، وهى قريبة لاهوتيًّا وتاريخيًّا من الكنيسة القبطية، سلسلة من التدابير الاحترازية التي تمنع انتشار وباء كورونا بين رعاياها، كان أبرزها تغيير طريقة طقس التناول بدلًا من التناول بالماستير، أو ملعقة التناول، فقد قررت الكنيسة اللجوء إلى التناول باليد، وهي طريقة كانت تتبعها قديمًا.
وفقًا لإيمان الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، فإن التناول يعد أحد أسرار الكنيسة السبعة، والسر هنا يعني "نعمة غير منظورة"، يحصل عليها المؤمن بممارسة طقس ظاهر ذي علاقة بها على يد كاهن شرعي، وهذه الأسرار في جوهرها هي أيضًا بمثابة هبات، وممارسات مقدسة، تمنح النعمة الإلهية للمتقدمين إليها.
التناول إذن عمل مهم جدًّا وأساسي بالنسبة إلى المسيحي، إذ به تتم الشركة مع المسيح التي أوصى تلاميذه وأتباعه بها، وخلال القداس الإلهي تجري الصلوات الدينية على الخبز والخمر الذي يُعطى لجميع المتقدمين للتناول من ملعقة واحدة.
وطرح عدد من الباحثين والمعلقين الأقباط مسألة تغيير طريقة التناول باعتبارها أصبحت قضية ضرورية وليست ترفًا، تجنبًا لانتقال العدوى، وطالبوا المجمع المقدس بأن يبادر بمناقشة الموضوع ووضع طريقة أخرى اقتداءً بمعظم كنائس العالم.
على سبيل المثال، قدم المطالبون بتغيير طريقة التناول حججًا بأن المسيح لم يستخدم ملعقة، أو الأدوات التي تستعملها الكنيسة في وقتنا الحاضر، لكن بحسب ما هو مذكور في الكتاب المقدس: "أخذ خبزًا وشكر وكسر وأعطى"، كما أن التناول لا يمنع الموت أو يشفي أمراض الجسد، وهذا لا يقلل من قدسيته عند المؤمنين به، بل بحسب قول المسيح فإنه يُعطى لغفران الخطايا ولمنح حياة أبدية لمن يتناول منه.
طريقة التناول تعد طقسًا قبطيًّا ليس له علاقة بالعقيدة القبطية الأرثوذكسية أوالإيمان المسيحي بتناول الجسد والدم، فالعقيدة هي ما يؤمن به المسيحيون من فعل التناول نفسه وتحول الخبز والنبيذ إلى جسد الرب ودمه بالمفهوم المسيحي، أما الطقس فهو تعبير عن الإيمان بممارسة معينة، وهى تخضع لظروف الكنيسة واحتياجاتها عبر الزمن. وفي كتابه "الإفخارستيا ـ عشاء الرب" للأب متى المسكين يؤكد أن تتبعنا لتاريخ الليتورجية (كلمة يونانية يقصد بها عمل الشعب، وهي النصوص التي تتم بها الإفخارستيا في الكنيسة، وبالمعنى الدارج "القداس الإلهي") عبر القرون يكشف لنا أنها ليست مجرد نصوص جامدة استقرت عبر الزمن، بل هي خبرات تتراكم وتتجه ناحية النمو، وشهدت تحولات بالإضافة والحذف والتعديل.
وتعرضت هذه الدعوات بتغيير طريقة التناول للرفض والاستهجان من رجال دين وتيارات مناصرة لهم اعتبرت الأمر بمثابة ضعف إيمان وتشكيك في قداسة التناول. وفي تعليقات لقناة "سي تي في" التابعة للكنيسة القبطية الأرثوذكسية، قال الأنبا رافائيل، الأسقف العام لكنائس وسط القاهرة: "نؤمن أن سر التناول هو سر الحياة، وهو الشافي من مرض الخطية، وأمراض الجسد والنفس والروح، وأرجو أن نقترب إلى سر التناول بهيبة وليس بفحص علمي". كما أكد الأنبا تادرس، مطران بورسعيد والنائب البابوي لإيبارشية سيدني وتوابعها، إن "الكنيسة لن تقدم على أي تغيير يتعلق بسر التناول الذي هو حياة وشفاء للعالم."
جدل غلق الكنائس بشكل كامل
اتخذت الكنائس المصرية عدة إجراءات متلاحقة مع انتشار الفيروس، بدأت بوقف الاجتماعات الكنسية والأنشطة ومدارس الأحد. وفي حين التزم البابا تواضروس بها إذ ظهر يلقي عظته وحيدًا، اكتظت قاعات كنائس أخرى بمئات من جمهور عدد من الأساقفة في تجاهل تام لبيان الكنيسة القبطية، ووصل الأمر إلى أن الأنبا يؤانس أسقف أسيوط، وهو يحمل بكالوريوس الطب، خلال اجتماعه الأسبوعي بكاتدرائية رئيس الملائكة ميخائيل بمدينة أسيوط وبحضور مئات الأقباط قال: "لو فيه عدد قليل من أسيوط هيصلي من كل قلبهم كورونا مش هيقرب مننا"، مكررًا العبارة ومطالبًا الجموع بالترديد خلفه.
وفي 21 مارس الماضي، أصدرت اللجنة الدائمة بالمجمع المقدس قرارًا بغلق الكنائس ووقف القداسات والصلوات وكافة الأنشطة، وتبع ذلك قرار جديد باستمرار الغلق خلال أسبوع الآلام، وهو القرار الذي هوجم بعنف من قبل مجموعات مختلفة، بعضها مدعومة من أساقفة، وصل بعضها أن كتب على صفحته على موقع التواصل الاجتماعي عبارة محملة بتلميحات سياسية ظاهرة: "كنيسة بلا بطرك أفضل من بطرك بلا كنيسة"، وذهب البعض إلى ضرورة تحرك المجمع المقدس لإعادة النظر في القرار بحجة أن القرار فردي وأنه لا جدوى منه في ظل استمرار المواطنين في الذهاب إلى أعمالهم.
لا أحد يجادل في أهمية الاجتماعات الدينية، خصوصًا في هذا الوقت من العام، فهى وسيلة للرجاء عند قطاع كبير من الناس، لكن قرار غلق الكنائس لم يكن قرارًا سهلًا، أو اتخذ بارتياح وبدون مناقشات مطولة، بل هو قرار أملته الضرورة، خصوصًا مع التزام المساجد بعدم إقامة الشعائر الدينية، واعتبر قداسة البابا تواضروس الثاني أن قرار غلق الكنائس قرار صعب، ولكنه ضروري من أجل سلام الناس، مضيفًا: "لم يمكن أحد يتخيل أن يأتي يوم وتغلق فيه الكنائس، ولكن هذه الإجراءات التي تتخذها الكنيسة يجب أن تقابل بالصبر من أجل وقاية الجميع".
ناهيك عن أن غلق دور العبادة في إطار السيطرة على كورونا يعد قرار دولة قبل أن يكون قرارًا للبابا أو المجمع المقدس، وصدر لكل دور العبادة، مساجد وكنائس معًا. صحيح أن القرارات صدرت بشكل منفرد لكل مؤسسة دينية على حدة، من أجل تخفيف الحرج السياسي، وحتى لا يفسرها البعض بأنها قرارات فوقية أمليت على المؤسسات الدينية، ولكنها قرارات صدرت في النهاية بهدف الاحتراز من الفيروس وتطبيقًا للإرشادات الصحية من المسئولين والمتخصصين في مكافحة الفيروسات.
كورونا كعقوبة إلهية
قدم عدد من رجال الدين تفسيرًا غيبيًّا لانتشار الفيروس وتداعياته على الإنسانية، مجادلين بأن كورونا جاء تعبيرًا عن غضب الله، وعقوبة إلهية لانتشار الشرور. أكد البابا تواضروس نفسه في إحدى عظاته أن "وباء كورونا حركة من الله لكي يستيقظ الإنسان الذي عاش في حروب ومجاعات واستعراض قوة وتخزين أسلحة وصار جمع المال والثروات شهوة حتى انتشرت الحروب والعنف والإرهاب والضعف الأخلاقي والفساد مثل الإلحاد والشذوذ الجنسي." وبشكل واضح عبر الأنبا أغاثون أسقف مغاغة، وهو من التيار المتشدد بالكنيسة، عن هذه الرؤية قائلًا: "كورونا هو غضب الله وعقوبته للبشرية لشرورهم، بوباء فتاك غير مسبوق." أما الأنبا إنجيلوس الأسقف العام لشبرا الشمالية، فقال إن "المسيح أنبأهم بأن الأوبئة سوف تحدث قبل مجيئه"، مشيرًا إلى أن "الأمراض التي توقف زيادة ونمو البشر تأتي من الله لتبعد الإنسان عن فعل الشرور الحقيقية، والله يريد بها تهذيب البشر".
في المقابل، انتقد بعض الأساقفة الآخرين هذه الفكرة بشكل مستتر، ونفوا أن يكون الفيروس عقابًا إلهيًّا، أو أنه جاء نتيجة خطايا العالم، ومنهم الأنبا مرقس، أسقف شبرا الخيمة وتوابعها، حيث قال إن "هذا الوباء مثله مثل الطاعون والكوليرا وغيرهما من الأوبئة الفتاكة التى انتشرت عبر التاريخ، وفكرة ربطه بانتقام الله وعقابه هى فكرة غير مقبولة".
كان يمكن للأمر أن يكون خلافًا طبيعيًّا بين آراء رجال الدين حول الحكمة من انتشار الفيروس، وكيفية استخدام هذا الظرف في تعزيز الرجاء والإيمان، لولا أن أحد أشهر الوعاظ في مصر، وهو القس داود لمعي، ذهب إلى اتهام مخالفيه الرأي بالهرطقة (مفهوم مسيحي مماثل للتكفير لكن بدون وجود عقوبة دينية حدًّا أو تعزيرًا) والترويج لأنبياء كذبة، حيث قال:
"إحنا كنيسة قبطية أرثودكسية تؤمن بخوف الله، وتؤمن بعدل الله، وتؤمن بإنذار ودينونة الله، إزاي تجيء علينا أفكار غريبة، ونتناقلها بعدم حكمة، ونقول محدش يقول تأديب إلهي؟! إحنا وكأننا نروج لأنبياء كذبة... أستعجب من كاهن يقول: عهد قديم يا أبونا ده هرطقة إللي قدسك بتقوله ده! هرطقة؟! لما تقول إن ربنا اختلف من العهد القديم إلى العهد الجديد، ده بدعة مرقيون (مفادها وجود إله للعهد القديم مختلف عن إله العهد الجديد.) ساعات نتكلم كلام واخدينه من علم النفس والفلسفة ونخلطه باللاهوت.. أخطر من الوباء على الكنيسة دلوقتي التعاليم الغريبة، الوباء لو جاء لواحد واعترف لربنا داخل السماء يا بخته! وباء التعاليم الغريبة يجعل الناس متوبش."
دلالات تعامل الكنيسة مع وباء كورونا
ملامح الانقسامات التي رصدنا بعضها بدأت في الظهور على السطح كما أسلفنا بمجرد رحيل البابا شنودة، ثم أصبحت متداولة في الرأي العام الأوسع مع حادث قتل رئيس دير أبو مقار، الأنبا إبيفانيوس، خلال يوليو 2018، ثم تزايدت حدتها مع إدانة راهبين بقتله، ووقوع جريمة أخرى داخل إحدى كنائس محافظة القليوبية كان بطلها عامل قتل كاهن الكنيسة بداخلها.
للأزمة ملامح لا تخطئها عين، في مقدمتها اشتعال حدة الخلافات بين تيارين فكريين داخل الكنيسة، الأول محافظ وتقليدي شعبوي يقوده تلاميذ البابا شنودة، وهو تيار كان مسيطرًا ونافذًا أثناء حياة البابا السابق، ويميل أنصار هذا التيار إلى أحادية الرأي، وهو يخلط بين النص المقدس وتفسيراته، وله مواقف متشددة تجاه الطوائف المسيحية غير الأرثوذكسية، ومساحة التعاون بين الكنائس العالمية، بالإضافة إلى عدم إعمال العقل والتفكير.
أما التيار الثاني فهو أقل تشددًا، وأنصار هذا التيار مع حل الملفات المعلّقة من فترة بابوية البابا شنودة، مثل الكثير من مسائل الأحوال الشخصية، وعدم معاقبة الأقباط الذين يحجّون إلى القدس، كما أنهم منفتحون على الكنائس العالمية والتعاون معها.
كان يمكن لهذا التنوع أن يساهم في الثراء الفكري للكنيسة، لكنه تحول إلى نوع من الاستقطاب ويغلب على الحوار بين أطرافه نغمة من التحريض، وصولًا إلى اتهامات التبدع والهرطقة. في هذا السياق مثلًا، لا يخفى على أحد وجود لجان إلكترونية لديها حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي تقود محاكمات فكرية ضد المخالفين لها.
تفسير كورونا مثلًا بأنه ردّ إلهي على وجود الملحدين والمثليين وارتكاب الشرور، هو رسالة كراهية وتحريض ضد قطاع من المواطنين قد تعرض أمانهم للخطر، واتهام الآخرين بالهرطقة واتباع أنبياء كذبة هو إرهاب فكري داعم للتطرف، وكلا الأمرين خطران ولهما تداعياتهما المستقبلية السلبية، ولطالما اُنتقدت هذه الممارسات عندما جاءت من بعض رجال الدين المسلمين باعتبارها تهدد سلامة المجتمع، وتنتهك حقوق المواطنين وحرياتهم.
ثاني دلالات الأزمة أن عقودًا طويلة من دفع الأقباط إلى الانسحاب من المجال العام، بكافة مؤسساته، والانزواء داخل الكنائس، قد حولت الأخيرة إلى مؤسسة لا يقتصر دورها على تقديم الخدمة الروحية والدينية فقط إلى قطاع من المواطنين، بل أصبحت تؤدي خدمات اجتماعية واقتصادية وثقافية قد تفوق أدوارها الأساسية، وهو ما طبع العلاقة بين مقدمي الخدمات ومتلقيها بملامح سلطوية، يصعب تفكيكها، وكلا الطرفين حريصان على استمرار هذه العلاقة التي طبعت الجدل حول قرار الإغلاق بطابع متوتر وعصبي ومتطرف في مواقفه. فمن زاوية يتحسب كثير من رجال الدين من تداعيات القرار لأن غلق الكنائس يسحب من سيطرتهم على الأقباط ويحد من أدوارهم في حياتهم، ولو مؤقتًا، ومن زاوية أخرى يرفض كثير من الأقباط القرار بشكل غريزي لأن الكنيسة ببساطة هي مكان الصلاة وملعب الرياضة ونادي الثقافة وملتقى التعارف، مع الأخذ في الاعتبار الأهمية الدينية لهذه الفترة من السنة، حيث تكثر الاجتماعات والخدمات الروحية.
ثالث دلالات الأزمة أن عملية إصلاح الكنيسة ليست بالبساطة التي بدت عليها مع مجيء البابا تواضروس إلى الكرسي الباباوي، بل هي عملية معقدة جدًّا، وتحتاج إلى وقت، وضغوط من التيار العلماني، أي شعب الكنيسة من غير رجال الدين، لإنجاز خطوات إصلاحية متدرجة بالتعاون مع بعض رجال الدين من داخل الكنيسة.
نعم، اتخذت الكنائس قرارًا شجاعًا بإغلاق أبوابها وتعليق الاحتفالات الدينية خلال أسبوع الآلام، لكنها لم تتخذ من الأزمة فرصة لتطوير نقاش فعال على مستوى الإكليروس حول بعض الطقوس الدينية الموروثة، وعلاقة الأقباط برجال الدين وإعادة التوازن إلى أدوار الكنيسة الاجتماعية. فرصة أخرى مهدرة تنبه إلى عمق التشققات في جسد الكنيسة والتي تحتاج إلى مساهمة جموع الأقباط لرأبها.
المبادرة المصرية للحقوق الشخصية