كورونا في الغرب وشماتة المتخلفين - مقالات
أحدث المقالات

كورونا في الغرب وشماتة المتخلفين

كورونا في الغرب وشماتة المتخلفين

محمد المحمود:

 

ظهر فيروس كورونا المستجد/ كورونا 2019 في الصين أواخر العام الماضي، وبدأ في الانتشار السريع/ المتعولم بداية هذا العام، ليخلق له بُؤرا جديدة؛ في الوقت الذي كانت البؤرة الصينية/ مصدر الفيروس تتراجع فيها متواليات العدوى، وتبدأ بالانحسار التدريجي، وصولا إلى عودة الحياة لطبيعتها تقريبا؛ بعد أن أعلنت الحكومة الصينية سيطرتها التامة على الأوضاع؛ كما تقول البيانات الرسمية، مع أنه لا أحد يستطيع التأكّد/ التثبّت مما يجري هناك، وبالتالي، لا يمكن أخذ ما تقوله الحكومة الصينية الشمولية على محمل الجد؛ إلا في أضيق نطاق؛ وبشيء غير قليل من الحذر والارتياب.

هكذا، بينما كانت البؤرة الصينية (البؤرة الأم: مصدر "الفيروس الصيني" حسب تعبير الرئيس الأميركي) تتعرض للانكماش؛ بقوة الإجراءات الحاسمة/ القاسية التي اتخذتها الحكومة الصينية ذات الطابع الشمولي، كانت البؤرة الإيطالية تتفجر على نحو مأساوي/ كارثي، ثم تلتها فرنسا وألمانيا وإسبانيا، وأخيرا الولايات المتحدة الأميركية التي أصبحت الأولى في أعداد المصابين.

لقد استمر صعود المؤشر الوبائي في هذه "الدول الغربية"، واتخذ مسارات كارثية بشكل غير متوقع؛ جراء ردود أفعال لم تكن ـ في البدايات ـ على مستوى الحدث رسميا وشعبيا، بل كان التراخي ـ وخاصة على المستوى الرسمي/ الحكومي ـ هو سيد المشهد، مما يُوحي بقدر غير قليل من اللاّمبالاة بمصير الإنسان؛ قياسا بالاهتمام الهوسي بمصير الاقتصاد، وهو الاهتمام الذي حجب الرؤية عن كثير من أصحاب القرار الذين كان بإمكانهم تدارك الأمر في بداياته الأولى.

انفجر الوباء في الغرب على حين غفلة أو تغافل. هنا، بدا وكأن طوفان الوباء يجتاح المدن والقرى في أوروبا والولايات المتحدة دونما سدود تقف في طريقه أو تُحوّر مجراه. بدا وكأن ما يُسمّى بـ"الغرب" عُرفا، أصبح هو بؤرة الفيروس على مستوى العالم، ومنه يتم تصديره للجميع. الغرب (قلب الحضارة الغربية/ الحضارة الإنسانية المعاصرة) ظهر وكأنه يغرق، أو ينهار أمام هجوم "الفيروس الصيني" الذي اقتحم كل القلاع، ووصل رعبه إلى مقرّات القيادة العليا في كثير من دول العالم، والعالم الغربي منه على وجه خاص.

وَبَاء شرقي بات يُهدّد الغرب أكثر مما يهدد الشرق/ موطنه الأصلي. هذا عكس المتوقع بفعل عوامل كثيرة، فالمتوقع أن تفشل الصين أولا في محاصرة الفيروس؛ لأنه انتشر فيها ابتداء، حتى قبل أن تستطيع فَكّ كثيرٍ من شفراته؛ ولأنها ـ بمقاييس التحضر العلمي/ التقني، وبمقاييس الحساسية الإنسانية ـ تقف دون الغرب درجات ودرجات. كما أن المتوقع ـ ابتداء ـ أن تكون دُوَل الجِوَار الصيني (التي تتشابك مع الصين في علاقات تواصلية مباشرة ومكثّفة) هي البُؤر التالية للبؤرة/ للمصدر الصيني.

اليابان وتايوان وبقية دول الجنوب الشرق آسيوي، كانت هي المرشحة لتكون البُؤرَ الوبائية اللاحقة، لتكون بُؤرا أسبق وأوسع انتشارا. ولكن، هذا لم يحدث، بل ما حدث هو العكس تماما، إذ نجحت في الصدّ والمحاصرة والاحتواء منذ البداية؛ في صورة مملوءة بعلامات الاستفهام التي تمنح كثيرا من العناصر المساعدة لِمَنْ يُريد بناء مِعْمار نظرية مؤامراتيّة واسعة الخيال!

الآن، عشرات الألوف من حالات الإصابة بهذا الفيروس تُسجّل في الغرب كل يوم، يتبعها بضعة آلاف من توابيت الموتى الذين فتك بهم هذا الفيروس الشرس، أو ـ وفق تعبير الشامتين بالغرب ـ فتك بهم الفشل الغربي الذريع في التصدي لهذا الفيروس.

طبعا، هذا ظاهر الصورة/ المشهد في منطقه الساذج. وهو ـ وفق القراءة الساذجة المدفوع بحقد مضمر ـ يوحي بأن ثمة نجاحا شرقيا: صينيا، يابانيا، سنغافوريا...إلخ في مكافحة/ محاصرة الوباء؛ مقابل فشل غربي كبير يأخذ طابع الفضيحة الحضارية في سياق شماتة المتخلفين.

نعم، ظهرت كثير من حكومات الغرب ـ وبالتالي مجتمعاته/ ثقافة/ وعيه ـ وكأنها فاشلة، أو في طريقها لإعلان فشلها أمام تحدي هذا الوباء، وهو الفشل الذي يعني ـ فيما يُروّج له المتخلفون ـ فشلا للنمط الحضاري الغربي، بل هو أكثر من فشل، إنه إشعار أخير بقرب نهاية الحضارة الغربية في خطها الرأسمالي الليبرالي.

يغيب عن أذهان كثير من هؤلاء المستبشرين بما يسمونه "فشل الغرب"، أو قرب سقوط/ نهاية الغرب أن الغرب واجه ما هو أشد وأقسى من هذه الظروف الصعبة بعشرات المرات، وخرج منها كالمارد من تحت الرماد، خرج منها أكثر قوة وألقا واستشعارا للقيم/ المبادئ الإنسانية التي تأسست عليها حضارته منذ بداياته الأولى.

الغرب ليس مجرد كيانات عابرة، ليس مجرد حكومات تذهب وتجيء، بل ليس مجرد دول تنشأ وتزول، وأكثر من ذلك؛ الغرب ليس مجرد دورة حضارية سرعان ما تتلاشى، الغرب ليس عرقا يضعف أو يندثر، الغرب ليس تشكلا إرادويا قابلا للتفكك والاضمحلال عند أول أزمة عاصفة، بل إن حضارة الغرب ـ وفي سياق تاريخ الغرب ذاته ـ ليست نتوءا طارئا، ليست صدفة مجانية، الغرب/ حضارة الغرب هي تاريخ طويل من النمو المتعاضد ذي الجذور الراسخة التي يستحيل على العواصف انتزاعها/ اجتثاثها؛ مهما كانت قادرة على مشاكسة الأغصان، بل وعلى تكسير بعضها، إذ البقاء ـ قبل كل شيء، وبعد كل شيء، ـ هو لأصل الشجرة التي لن يضيرها مرور الخريف بها كفصل عابر في دورة حياة تمتد لآلاف السنين.

يبدو مشهدا كاريكاتوريا أن يشمت المُتخَلِّفون الموغلون في التخلف/ في الجمود/ في ضمور المعنى الحياتي/ الإنساني، بالمتقدمين/ المتحضرين الذين صنع آباؤهم وأجدادهم كلَّ مسارات هذه الحضارة المعاصرة، هذه الحضارة الباذخة جمالا وجلالا ووُعُودا للإنسان بما يسبق خيال الإنسان، هذه الحضارة التي يَتفيّأ العالمُ ظلالَها، وينعم بنعيمها، ويتمثّلها فِرْدَوسا أرضيا؛ قياسا بحياة آبائه الغابرين التي لم تكن أكثر من قطعة عذاب.

كوميديا ساخرة أن يتباشر أولئك المتخلفون الذين يزعمون ـ صراحة أو ضمنا، نصا بصريح اللفظ، أو كناية بظلال المعنى ـ أنهم أبناء الله وأحباؤه/ أنهم خير أمة...إلخ بالمتقدمين. والأكثر سخريا وبؤسا أن يتصور هؤلاء المتخلفون أن الله انتصر لهم بهذا الوباء على أعدائهم الغربيين/ أعدائهم التاريخيين الذين هم ـ في المِخْيَال المُتْخَم بالأوهام ـ سبب تخلف الأنا العربية ـ الإسلامية/ عِلّة تخلّف المتخلفين.

بل إن الخيال الجامح الشاطح المحلق بعيدا في متاهات تخلفه وانحطاطه، بدأ ـ على لسان "مُثقّفيه"! ـ يتحدث عن نهاية/ عن اندثار/ عن دمار الغرب، لصالح نهضة/ صعود الشرق، ويقصدون ـ بالدرجة الأولى ـ شرقهم، أو يقصدون ـ في أقل الأحوال/ في أدنى درجات الطموح ـ الشرقَ الصيني الذي يبدو وكأنه المقابل الضدي ـ أيديولوجيا وجغرافيا...إلخ ـ للغرب، هذا الغرب الذي كان ـ ولا زال حتى اليوم ـ يُمثّل الخنجرَ الوهمي الذي ينكأ الجرجَ النرجسي النازف؛ منذ بدأ الوعي بتخلف الذات؛ كوجه آخر ـ مقابل وحتمي ـ للوعي بتقدم الآخرين.

مقابل النموذج الغربي: الرأسمالي، الحرياتي، الفرداني، يطرح المتخلفون ـ بدافع الفرح/ الانتشاء الغبي بتفشي كرونا في الغرب ـ نموذجا آخر للنجاح، وهو النموذج الصيني. الحلم بانهيار الغرب، أو ـ على الأقل ـ بتضعضعه وتراجعه، وتواريه عن سيادة المشهد الإنساني، يُقابله الحلم بسيادة النموذج الصيني (الذي هو تمظهر لعناصر الروح الصينية/ الشرقية)، كنموذج آخر/ نموذج غير غربي يملك قدرة أكبر على الصمود، في الوقت الذي ينطوي فيه على عناصر روحية/ ثقافية تنتمي إلى عالم الشرق، الذي هو أيضا ـ وإنْ بِتَداخُلات نِسْبوية ـ عَالَمُ المتخلفين الشامتين ـ الآن ـ بالغرب.

إن الغرب إذ ينحاز إلى نموذجه: الرأسمالي، الفرداني، الحرياتي، يدرك ثمن هذا الانحياز في الأوقات الاستثنائية/ الطارئة؛ بقدر ما يدرك ثمن النموذج الصيني الكلياني الشمولي في كل الأوقات. ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية 1945، وإلى اليوم: 75 عاما، لم يُواجِه الغرب مثل هذا التحدي الذي يُوَاجِهُه اليوم. وهو يدرك ـ في تفاصيل ليس هنا مجال سردها ـ أنه مُصيبٌ عندما لم يَعِش كل هذه الـ 75 عاما في حالة طوارئ/ قوانين طوارئ من أجل التصدي لحالة عابرة، قد تأتي؛ وقد لا تأتي. فهي ـ في كل الأحوال ـ ستبقى حالة عابرة؛ مهما طال أمدها واتسع نطاق تأثيرها. بمعنى أن الغرب يُدرك خطأ وضع الاستثناء/ الطارئ، مكانَ الطبيعي/ الدائم، وأنه لا يُقاس بخطأ وضع الطبيعي/ الدائم، مكان الاستثناء. فالحياة باتساعها وعمقها هي ـ في النهاية ـ أكبر من طوفان، أكبر من زلزال، أكبر من موجة إرهاب، أكبر من تسونامي، بل وأكبر من حرب طاحنة، وبطبيعة الحال، هي أكبر من وباء.

الحرة

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث