نضال منصور:
في المؤتمر الدولي عن "وسائل التواصل الاجتماعي وسبل دعم الحريات ودعم النشطاء" سألتني الجهات المُنظمة عن عنوان الورقة التي سأقدمها؛ فأجبتهم دون تردد "حين تصبح التشريعات حقول ألغام تُهدر حرية التعبير والإعلام في العالم العربي".
هذا العنوان ليس صيغة مبالغة، فطوال أكثر من 35 عاما كنت أشعر وما زلت أن التشريعات فُصلت في عالمنا العربي لتكون "حقل ألغام" يمكن أن ينفجر بك، أو مصيدة توقعك وتذهب بك إلى السجن.
قبل السوشيل ميديا، وخلال زمنها وبعده، ظلت حرية التعبير والإعلام في بلدان العالم العربي في خطر، ولم يكن هذا الحق موضع تسليم من السلطات العربية، بل ظلت تُضيق عليه، وتخترع الأساليب والأعذار لتعصف به، ولهذا كان هذا المؤتمر الدولي الذي نظمته المفوضية السامية لحقوق الإنسان بالأمم المتحدة بالشراكة مع اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان في قطر وبالتعاون مع الاتحاد الدولي للصحفيين، محطة مهمة لمعاينة التحديات التي تواجه الحريات في زمن الفضاء الإلكتروني الذي حد من قدرة الحكومات على التحكم والرقابة المُسبقة واللاحقة.
لا نكشف سرا حين نقول إن أكثر دساتير الدول العربية تنص على الحقوق والحريات وحمايتها، وبعض هذه الدول وقعت وصادقت على العديد من المعاهدات والاتفاقيات التي تُرتب التزامات عليها لصون هذه الحقوق والحريات، ولكن لا يُفاجئ أحدا أن الدساتير ليست أكثر من حبر على ورق لا يُلتفت لها ولا تُستخدم، وأن المعاهدات الدولية تُوظف للتباهي وحملات العلاقات العامة لتحسين الصورة الديمقراطية للبلدان حين تتعرض لانتقادات ويُفتح سجلها الحقوقي.
واقع الحال أن التشريعات في معظم بلدان العالم العربي تنتهك الحقوق الدستورية وتعصف بها، وتتحول إلى قيود وليس أدوات لتنظيم الحقوق.
تضع الحكومات العربية يدها على الزناد خوفا من حرية التعبير، وتُقدمها على اعتبارها رديفا للفوضى، ويجري الحديث عن الحريات الشخصية على أنها نقيض للأمن والأمان، وباختصار فإن الحكومات المُستبدة تُقايضك على حقك في الحرية.
أُدرك دون لبس أن العالم في زمن "السوشيل ميديا" تغير، وتغير جدا، وأعرف أن الشائعات تُثير الكثير من الفوضى والاضطرابات، والأخبار الزائفة والمُختلقة تحرف أنظار الناس عن الحقائق، وخطاب الكراهية يغزو منصات التواصل الاجتماعي، ويُغذي نزعات العنف، وأعرف أيضا أن منصات التواصل الاجتماعي أحيانا تكون بيئة خصبة وحاضنا للإرهاب والإرهابين، وأن "الخوارزميات" التي تُصممها منصات التواصل الاجتماعي لا تعمل بكفاءة كما نطمح للتخلص من كل هذه المظاهر والسلوكيات التي تضر بحرية التعبير، وتُعطي خصومها رصاصا للفتك بها، والنيل من قُدسية حرية التعبير.
أكثر من كل هذه الحقائق والاتهامات فإن الانطباع السائد أن خصوصيتنا أصبحت في مهب الريح، وأن المعلومات التي ننشرها طوعا ليست بأيدٍ أمينة كما يُروج ويُشاع، وأن الكثير منها يُقدم أو يُباع لشركات أو حكومات أو أجهزة أمن، وأن خصوصيتنا أصبحت مشاعا، وقد تُستخدم ضدنا في أي وقت.
كل هذا جليٌّ وواضح، ومعروف كذلك أن منصات التواصل الاجتماعي التي فتحت أفاقا غير محدودة لحرية التعبير أتاحت في الوقت ذاته لـ "الذباب الإلكتروني" فرصة النبش وتشويه سُمعة المدافعين والمدافعات عن حقوق الإنسان.
أعرف ذلك، وأعيش كل ذلك، ولكن لا أقايض على حريتي، ولا أرى أن القوانين المُقيدة تُقدم حلولا لهذه التحولات والتحديات.
أتفهم كل هذه المخاوف حتى وإن كانت مبالغات واتهامات غير موثوقة؛ غير أنني أعيد التأكيد على حقيقة ناصعة كالشمس: وسائل التواصل الاجتماعي ليست مُنشأة للظواهر، فهي لم تصنع خطاب الكراهية أو الحض على العنف، وإنما هي كاشفة للظواهر، وليست أكثر من أداة "مجهر" إن جاز التعبير يُسلط عليها الضوء ويكشفها.
علينا أن نرى الصورة بمنظار أوسع من رهاب المخاوف من حرية التعبير التي لم يعد سهلا إخضاعها في بيت السلطة، فرغم كل التشظي في العالم العربي ـ حروب أهلية، سُلطات مستبدة، تشريعات مقيدة، إرهاب ـ فإن السوشيل ميديا ترسخت باعتبارها بديلا مستقلا عن "أبواق السلطة"، وأول ما فعلته أنها كسرت احتكار السلطة للمنصات الإعلامية، وأتاحت تدفقا حرا للمعلومات.
رغم كل الزلات و الهنات فإن بركات السوشيل ميديا لا تُعد ولا تُحصى خاصة في حماية حرية التعبير للناس، ولهذا فإن الحكومات العربية لم تيأس ولم ترفع الرايات البيضاء استسلاما؛ بل ازدادت شراسة للسيطرة على هذه المنصات أو توظيفها أو الحد من دورها، فلجأت إلى أقصر وأسهل طريق عبر إقرار قوانين للجرائم الإلكترونية مُقيدة ومُغلظة للعقوبات لإشاعة ثقافة الخوف بين مستخدمي السوشيل ميديا، فإن لم تحقق مُرادها؛ تلجأ إلى حجب الشبكات، أو قرصنة الحسابات، أو تقديم البلاغات والشكاوى، أو استخدام الذباب الإلكتروني، والغاية أن لا تترك فضاءات حرية التعبير مُتاحة للاستخدام.
في كل دول العالم تُرتكب جرائم حرية التعبير، وهو أمر لا يُثير الرعب والفزع، إنما في العالم العربي الحال مختلف، فقضايا حرية التعبير تعتبر قضايا جزائية وليست مدنية، وقد تتسبب في التوقيف والسجن لمن يُتهم فيها، عدا عن الغرامات الباهظة التي تُعيدك إلى الحبس إن لم تلتزم بسدادها.
بالطبع لا يتوقف الأمر على قوانين الإعلام والجرائم الإلكترونية لملاحقة الصحفيين أو مستخدمي السوشيل ميديا؛ بل تُحشد الاتهامات باستخدام قوانين العقوبات، أو مكافحة الإرهاب، أو أمن الدولة، ولا يُعترف ولا يُأخذ بالقواعد القانونية المستقرة مثل مبدأ حسن النية، أو قرينة البراءة، أو شخصية العقوبة، وحتى النقد للمصلحة العامة، وبذات الوقت لا يتوفر حق الحصول على المعلومات، بل أكثر من ذلك تُمارس الرقابة المسبقة على المحتوى، وهو ما يعزز ظاهرة الرقابة الذاتية كسلوك؛ خوفا من التعرض للتضييق أو السجن.
لو تمادت الحكومات في ترسيخ منظومة معادية للحقوق والحريات فإن الأمر مُتوقع في عالمنا، ويبقى الملاذ الأخير قضاء مُستقل يضمن العدالة والإنصاف، ولكن الخوف أن ثقوب السلطة التنفيذية في جسد القضاء قد أوهنته.
حين تُسيطر حكومات مستبدة على الحكم فإن سيادة القانون تتراجع، وقيم المواطنة تتضعضع، وحقوق الإنسان عامة وحرية التعبير خاصة لا تُصبح أولوية، والتبريرات كثيرة.
حرية التعبير في طريقها "حقول ألغام" وهي ليست مهددة بتشريعات مقيدة فحسب، وإنما بسياسات غير داعمة وممارسات حافلة بالانتهاكات، ويكفي أن تعرفوا أن 99 في المئة من منتهكي حرية التعبير والإعلام يفلتون من العقاب.