كورونا والوباء الأخلاقي - مقالات
أحدث المقالات

كورونا والوباء الأخلاقي

كورونا والوباء الأخلاقي

محمد المحمود:

 

يقول الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد في معلقته الرائعة:

أرى قَبـرَ نَحّامٍ بَخيـلٍ بمالِهِ * كَقَبرِ غَـويٍّ في البَطالَةِ مُـفسـِدِ

تَرى جُثْوَتَينِ من تُرَابٍ عَلَيهِما * صَفائِحُ صُمٌّ مِن صَفيحٍ مُـنَضَّـدِ

والمعنى الإجمالي لهذين البيتين، أن الموت يتساوى عنده الجميع، الموت لا يحابي أحدا، لا في البداية ولا في النهاية؛ حتى مشاهد القبور تتشابه؛ ولا يستطيع القبر، من حيث هو مجرد تراب حاضن للجسد الفاني/ المعطوب بالموت، أن يُفرِّق بين قبر كبير وقبر صغير، بين قبر مقتصد/ بخيل وقبر مُبَذرّ مفسد، بين قبر مدبر ومثمر لماله، وبين قبر غوي مُضَيّع لماله في اللهو والاستمتاع العابر؛ فكلاهما ـ في النهاية ـ مجرد تراب وُضِعت عليه قِطعٌ من الصخور الصلبة حتى لا تَنْدَرس معالمهما؛ ولو إلى حين.

كما يقول المتنبي وهو يرثى فاتكا:

وَصَلَتْ إليكَ يَدٌ سَوَاءٌ عِندَها الـ * ـبازي الأُشَيْهِبُ وَالغُرابُ الأبقَـعُ

واليد التي وصلت إليه هي يد الموت التي تمارس مهمتها بلا محاباة من أي نوع، فإذا كان العرب ـ كما ينطق تراثهم/ ثقافتهم ـ يُفرِّقون بين "البازي الأشهب/ الأشيهب" الذي هو الطائر الأجمل والأرقى عندهم/ في ثقافتهم، وبين الغُراب ـ هو الطائر الأدنى/ الأرذل التي اتخذه رمزا للشؤم ـ؛ فإن يد الموت لا تفرق بينهما، ولا تعترف بما تعترف به الثقافة في مُصَنّماتها الرمزية، فكلاهما مجرد "كائن حي"؛ وجوده مرهون بالموت/ بالفناء المحتوم الذي تتساوى عنده الأحياء جميعا، والذي هو ـ في جوهره ـ الوجه الآخر المقابل للحياة، وبدونه لا معنى للحياة أصلا.

منح كورونا الفرصة لبعضهم لإظهار مكنونه العنصري تجاه المختلفين معه في العِرق أو الدين أو المذهب

يقول المثل الألماني: "من أراد المساواة التامة، فليذهب إلى المقبرة". فالمقبرة/ الموت ليس فقط لا يفرق بين الكائنات الحية في التجسيد الظاهري للنهاية المحتومة/ في معالم هذه النهاية بعد تحققها، بل النهاية/ الموت في حد ذاتها/ ذاته ربما هو العدالة الوحيدة التي تتحقق كاملة في مدى/ في مسافة الوعي الإنساني.

قد ينجو الإنسان من الفقر، وقد ينجو من الكوارث، بل قد ينجو من كثير من نصب الحياة ومصائبها، حتى الأمراض التي قد يكون نصيب أحدنا أقل/ أكثر من نصيب الآخر، وربما تبدو النجاة منها ممكنة ولو على سبيل الأمل؛ بدرجة ما. ولكن، في مقابل كل ذلك، يبقى الموت ولا أمل، حيث هو المستقبل الوحيد على وجه اليقين، وحيث هو القسمة العادلة على سبيل الكمال والإطلاق، وحيث هو القانون النافذ الذي لا أحد فوقه على سبيل الحقيقية؛ لا المجاز.

اليوم، يجتاح العالم وباء خطير لم تتضح معالم أبعاده بعد، ولا أحد يملك تصورا كاملا/ واضحا عن خارطة مساره ولا عن طبيعة نشاطه. وباء مرعب في سهولة انتقاله وسرعة انتشاره؛ أكثر مما هو مرعب في نسبة الوفيات منه. سهولة وسرعة فائقة، تجعل أخطاره تتجاوز نطاق المجال الصحي إلى مجالات أخرى، وفي مقدمتها الاقتصاد، بل وإلى كل صور النشاط ذات الطابع الجمعي، وفي مقدمتها: التعليم والتجارة/ الصناعة والتنقل بين المدن والمناطق داخليا، كما بين الدول خارجيا.

لا أحد، لا أحد ـ مطلقا ـ في مأمن من الموت والمرض. المرض/ الوباء لا يحابي أحدا على حساب أحد، ولا يختار ضحاياه من جنس أو عرق أو أتباع دين أو موطني دولة أو سكان مدينة أو قرية...إلخ صور التصنيف على وجه التحديد. قد ينتشر/ يستشري في دولة ما، أو مدينة ما، أكثر من غيرها؛ تبعا لعوامل متعددة، متداخلة، عوامل هي ـ في مجملها ـ خارج مجال الاختيارات الفردية للضحايا. وكل مصاب هو ضحية حتما، حتى بالنسبة لأولئك الضحايا من الدرجة الأولى، الذين قد يكون الجهل/ ضآلة الوعي الصحي (وخاصة في بدايات انتشار الوباء) هو ما جعلهم يمرون على خطوط انتشار الوباء، دون أن يكون لديهم علم بحجم الكارثة التي كانت تتمدد في الخفاء.

ثمة أمراض/ أوبئة تكون الإصابة فيها خاضعة ـ بدرجة كبيرة ـ لنمط سلوكي يختاره الفرد عن وعي، ومن ثم يتحمل المصاب به المسؤولية عن إصابته، أو يحمل الجزء الأكبر منها؛ طبقا للنسبة التي يحددها نمط السلوك الاختياري في رفع أو خفض نسبة الإصابة بالعدوى. غير أن هذا الوباء/ كورونا المستجد ينتقل بسهولة بالغة؛ بمجرد وجود المرء في فضاء واحد / بمسافة طبيعية مع مصاب، فضلا عن السلوكيات الطبيعية/ المعتادة، كالمصافحة وتبادل استخدام بعض الأدوات، بل هو وباء هجومي يقتحم كثيرا من الاحتياطات؛ حتى إنه لا يُعْفي من عدونه أفرادَ الطاقم الطبي المتخصص في مكافحته، من خلال الاضطلاع بمهمة إنقاذ المصابين وحماية الأصحاء.

لكل هذا/ لكل ما سبق، أستطيع القول بكل صراحة: لا معنى للتعليقات الغبِيّة/ التعليقات اللاأخلاقية التي تُدِين الضحايا لمجرد إصابتهم بهذا الفيروس. يغيب عن أصحاب هذه التعليقات اللاإنسانية أن لا أحد يُعرِّض نفسه لمثل هذا الخطر عن قصد/ عن وعي، وأن الجميع على خط الخطر بلا استثناء. لهذا، فمن الغباء ـ فضلا عن السقوط الأخلاقي ـ تَعْيير المصابين أو الشماتة بهم، أو الإحالة في تحديد السبب إلى عرق أو دين أو مذهب أو ودولة. وطبعا، ليس من قبيل "التعيير" أو "الشماتة" انتقاد أو لَوْم بعض الدول أو بعض المجتمعات لتأخرها أو تراخيها في اتخاذ الإجراءات الوقائية التي من شأنها ـ لو اتُخِذت في وقت مبكر ـ الحد من انتشار الوباء.

إذن، ثمة "وباء جسماني" تقف البشرية اليوم في مواجهة لأنه يَتَهدّدها في وجودها، فضلا عن تداعيته على صور/ على أنماط هذا الوجود، وأيضا، ثمة "وباء أخلاقي" مُسْتكين، كشف عنه/ أظهره للعلن هذا الوباء الجسماني. إذا كان هذا الفيروس/ كورونا المستجد يُشَكّل وَباءً مُرْعبا كشف هشاشة الحياة ذاتها ـ بكل أبعادها ـ، وجعل الجميع في مواجهة خطر جِدّي/ حقيقي، فإن "الوباء الأخلاقي" الذي كشف عنه هو ـ في تصوري ـ أشد منه خطرا، وأعظم منه فتكا، وأطول أمدا، وأكثر تكلفة في تدابير الوقاية والعلاج.

لقد رأينا كيف وصل الأمر ببعضهم (وهم إما: إعلاميون أو مُتَمَسِّحون بالثقافة، فضلا عن لسان الجماهير الناطق في وسائل التواصل) إلى أن يَتَمنى انتشار المرض في شعوب بأكملها، وأكثر من ذلك، وجدنا كثيرون يُفَاخرون بهذه الأماني الساقطة أخلاقيا. رأينا كيف منح هذا الوباء الفرصة لبعضهم لإظهار مكنونه العنصري تجاه المختلفين معه في العِرق أو الدين أو المذهب، فأعلن الشماتة صراحة، وسَبّبَ المرض ـ ظهورا وانتشارا ـ بسبب عرقي أو مذهبي، بل لقد جعله بعضهم فرصة لازدراء مقدسات الآخرين، على نحو صريح أو في لحن القول.

ثمة "وباء أخلاقي" مُسْتكين، كشف عنه/ أظهره للعلن هذا الوباء الجسماني

في هذا الظرف الحرج الذي لا يحتمل إلا التكاتف الإنساني المجرد، من الجميع مع الجميع، يحاول كثيرون في هذا العالم العربي/ في الشرق الأوسط استخدام حالة الهلع لتصفية الحسابات وتسجيل الأهداف في مرمى الخصوم الدينيين أو السياسيين أو الطائفيين أو الاقتصاديين.

هكذا يبدو الأمر في تصور شرائح عريضة من المجتمعات الشرق أوسطية وكأن "الإنسان" هو آخر اهتماماتها، بل يبدو وكأن قدراتها الذهنية عاجزة عن تصوّر أن الارتقاء بالإنسان كقيمة، هو مَسارٌ كُلّي، لا يتجزأ فيه الإنسان، ولا يتعدد في التصنيفات المضافة على الأصل الإنساني.

إذن، نحن أمام نوعين من الوباء الذي يجب علينا مكافحته لكونه خطرا يتهدد وجودنا. فإذا كنا نُواجه "الوباء الجسماني" بتصميم واضح، واستنفار عام، فيجب أن نواجه "الوباء الأخلاقي" المتمثل في العنصرية وإشاعة خطاب الكراهية بمثل ذاك التصميم والاستنفار، وأن نعي أن خطر الثاني على وجودنا لا يقل عن خطر الأول؛ إن لم يزد عليه في التداعيات والآثار على المدى البعيد.

الحرة

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث