بابكر فيصل:
من أكبر الإشكاليات التي يواجهها تيار الإسلام النصوصي في تعاطيه مع المشاكل والقضايا المعاصرة، هي اللجوء الدائم والمنظم لخزانة التراث لاستلاف حلول يعتقد أنها سرمدية، عابرة للزمان وللمكان، ولا تتأثر بمعطيات الواقع.
إن الكثير من المصادر التي يتم اللجوء إليها لاستخلاص الأحكام تحتوي على نصوص ليست فقط غير قابلة للتطبيق في هذا العصر، ولكنها أيضا غير مؤكدة الثبوت من ناحية الرواية، كما أن هناك شكوكا كثيرة تعتري متونها لما تحتويه من تناقضات وتعارض مع الأصل القرآني.
بعد مرور مئات السنين، وبتراكم الزمن اكتسبت هذه المصادر نوعا من القداسة، بحيث صار من غير المقبول، بل من المحرَّم تناولها بالنقد والنقاش، مع أنها ليست سوى نتاج بشري جادت به عقول أصحابها بما يتماشى مع ظروف وأحوال العصور التي عاشوا فيها، وهي بالقطع تختلف عن أحوال زماننا الحاضر.
ومن ناحية أخرى، فإن الكثير من الأحكام التي يتم استدعاؤها من خزانة التراث، ويُراد تطبيقها لحل قضايا ومشاكل الوقت الحاضر لا تتضمن أمورا تتصل بقطعيات دينية متعلقة بموضوعات العقيدة أو العبادات بل ترتبطُ باجتهادات بشرية في قضايا متغيرة وبالتالي فإن من الضروري أن تتسع الساحة الفكرية للنقاش الحر حولها دون ترهيب أو تشكيك في نوايا أصحاب الرؤى المغايرة.
من بين المصادر التاريخية التي يتم الرجوع لأحكامها ما عُرف بـ "الشروط العمرية" أو عهد عمر (نسبة لعمر بن الخطاب) لنصارى الشام عندما فتحها المسلمون، وهي الشروط التي اتخذ منها الفقهاء مرجعية في تحديد علاقة المسلمين بأهل الذمة.
تبدت خطورة الاستناد إلى تلك الشروط حينما قامت بعض الجماعات الدينية قبل فترة بمطالبة الحكومة السودانية بإيقاف بناء إحدى الكنائس في أطراف العاصمة باعتبار أن الأمر يقع ضمن "مخطط متكامل للتنصير يستهدف الإسلام والمسلمين في السودان".
كما صدرت فتوى من "رابطة علماء المسلمين" توجب "منع قيام كنيسة في بلاد المسلمين بإجماع أهل العلم"، واستندت الأطراف المؤيدة للفتوى في حجتها إلى أن هذا الأمر "معروف ومُضمَّن في الشروط العمرية وهو منع استحداث كنائس في بلاد المسلمين، أو البلاد المفتوحة".
قبل أن نشرع في تفنيد وثيقة الشروط العمرية، نقول إن فتوى عدم استحداث بناء الكنائس في بلاد المسلمين أو البلاد المفتوحة تتجاهل أحوال العصر الذي نعيشه، وهو عصر يسود فيه مفهوم "الدولة ـ الأمة" الذي لم يكن معروفا في زمن صدور تلك الشروط، وهي دولة تنهض فيها الحقوق والواجبات على أساس المواطنة وليس على أساس الدين أو العرق أو الجنس.
هذه الدولة تقف على مسافة متساوية من الأديان، وهو الأمر الذي يضمن عدم انتهاك الغالبية لحقوق الأقلية. وهي الدولة التي ظلت الأقليات المسلمة تعيش في كنفها وتحتمي بها وتدافع عنها في مختلف دول المعمورة، من الهند وحتى أميركا.
لذلك لا يجب تصوُّر أن جهة ما في ظل هذه الدولة الحديثة تتفضل على مواطنين أصحاب حق بمنحهم أو منعهم بناء كنيسة أو مسجد من منطلق عقيدة دينية، بل الأمر برمته يقع في إطار الترتيبات الإدارية التي تنظر فيها السلطات المحلية، ومن ثم تصدر تصديقا بالبناء شأنه شأن كل مكتبة عامة أو ملعب أو مدرسة.
أما الشروط العمرية، فإنها تؤطر العلاقة بين المسلمين وأهل الكتاب من خلال ما يعرف بـ"عقد الذمة"، والذمة في اللغة هي "العهد والضمان والأمان"، ومعنى عقد الذمة هو إقرار بعض الكفار علي كفرهم بشرط بذل الجزية والتزام أحكام الملة، والأصل فيها كما يُقال هو ما ورد في القرآن: "حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون".
هذا النوع من العلاقة الذي ينبني على عقد الذمة بين المسلمين وغير المسلمين يناقض طبيعة العلاقة في الدولة العصرية، ويترتب عليه مطالبة النصارى بدفع الجزية، وهو أمرٌ يتنافى مع الأساس المدني للدولة الحديثة التي يتساوى فيها جميع المواطنين في الحقوق والواجبات بغض النظر عن انتمائهم الديني.
نص الشروط العمرية ـ بحسب عبادة عبد الرحمن كحيلة ـ يحتوي على الكثير من التناقضات من ناحية المتن كما أن سنده غير مؤكد ويثير الكثير من التساؤلات التاريخية حول صحة نسبه للخليفة عمر بن الخطاب.
يوضح كحيلة أنه يصعب علينا الزعم بوجود نص محدد في عهد عمر، فقد وردت نصوص عديدة منه في كتب الفقه والتاريخ والأدب، بعضها يرد بصيغة الراوي "شرط عليهم..." وبعضها يرد بصيغة ثانية كتبها النصارى بأنفسهم "شرطنا لكم على أنفسنا".
وإذا نحن راجعنا أسماء رجال السند نجد أن بعضهم لا يُعد من الثقات أو أنهم من المجاهيل، وعلى رأسهم عبد الرحمن بن غنم (راوي العهد وكاتبه في معظم الروايات) والذي لا يُعلم الشيء الكثير عن حياته.
أما المتن فهو حافل بالتناقضات، وأولها تحديد شخص الكاتب، فهو "ابن غنم" في معظم صور العهد وهو عمر أو أهل الجزيرة أو مدينة كذا وكذا في صور أخرى، والتناقض الثاني في لغة الخطاب، فالعهد في معظم الروايات صادر من المغلوب وليس من الغالب والعادة أن الغالب هو الذي ينسب إليه الخطاب، التناقض الثالث في شخص المغلوب فهو مرة نصارى الشام أو أرض الشام أو أهل الجزيرة أو نصارى أهل الشام ومصر أو نصارى مدينة كذا أو بلد كذا... إلخ.
كما أنه يوجد تضارب في تحديد المخاطِب (بكسر الطاء)، فهو عمر في معظم صور العهد، وهو ابن غنم في بعضها. ومن التناقضات التي حفل بها متن العهد، كما يقول كحيلة، اشتراط النصارى على أنفسهم عدم بيع الخمور، وهذا الشرط يتناقض مع ما ورد عن عمر نفسه من أنه أقر بأخذ العُشر على خمور أهل الذمة، ما داموا هم الذين يبيعونها، أي أنه أقر لهم بيعها.
هذه التناقضات العديدة تؤكد من الناحية العلمية والمنهجية أن عهد عمر ليس سوى نص تاريخي قابل للتمحيص شأنه شأن كل النصوص التاريخية، فهو ليس نصا مقدسا محفوظا لا تطاله يد التحريف والتغيير.
ومن ناحية أخرى ـ وهى الأهم ـ فإنه ليس نصا عابرا للزمان، بحيث يصلح للتطبيق في القرن الحادي والعشرين الذي ترسخت فيه مفاهيم حول الدولة والمجتمع والحقوق تختلف جذريا عما كان سائدا في وقت ظهور عهد عمر، وهى مفاهيم تطرح تحديات جسيمة أمام دعاة العودة للتراث دون إعمال العقل، ومنهم أولئك الذين منحوا أنفسهم حق إصدار الفتاوى في قضايا خطيرة تهدد الوحدة الوطنية والتماسك الاجتماعي.