كرامات وتجاوز للزمان والمكان وقدرات جنسية خارقة... السيرة الشعبية الأكثر انتشاراً للصوفية - مقالات
أحدث المقالات

كرامات وتجاوز للزمان والمكان وقدرات جنسية خارقة... السيرة الشعبية الأكثر انتشاراً للصوفية

كرامات وتجاوز للزمان والمكان وقدرات جنسية خارقة... السيرة الشعبية الأكثر انتشاراً للصوفية

محمد يسري:

 

إذا كان كتاب "لواقح الأنوار في طبقات الأخيار"، والمشهور باسم الطبقات الكبرى أو طبقات الشعراني، هو أشهر كتب الفقيه والصوفي المصري عبد الوهاب الشعراني على الإطلاق، فإن السبب المباشر في ذلك، هو احتواؤه على العشرات من القصص الخرافية التي لا يصدقها عقل، ولا يستوعبها منطق.

يمكن القول إن طبقات الشعراني كان بمثابة الوعاء الثقافي الذي تلاقحت فيه سير الصوفية والأولياء والزهّاد، بأقاصيص وحكايات المتخيل الشعبي المصري في العصر المملوكي، فخرجت ثمرة هذا التلاحق في كتاب تلون بلون عصره واصطبغ بسمات ظرفه المكاني، ما جعله المعبر الأكثر قدرة على رسم صورة واضحة لحالة الثقافة الشعبية المصرية، في نهايات العصر المملوكي وبدايات الحقبة العثمانية.

الشعراني: العالم الذي جمع بين الفقه والتصوف

ولد الشعراني في 898ه، في نهايات العصر المملوكي، في بلدة قلقشندة الواقعة الآن في محافظة القليوبية بمصر، ثم انتقل في صغره مع أهله إلى بلدة أبي شعرة بمحافظة المنوفية، ونسب إليها فيما بعد، فصار لقبه "الشعراني" هو اللقب الأشهر بين الناس.

اتجه الشعراني لدراسة العلوم الدينية منذ صغره، فتعلم فقه الإمام الشافعي، وكان هو الفقه الغالب على المصريين طوال العصر المملوكي، وحفظ أهم كتبه وقواعده، كما أنه في الوقت ذاته تبع كبار شيوخ الصوفية وأخذ عنهم علوم الباطن والمقامات والأحوال.

في 911ه، انتقل الشعراني إلى القاهرة للتتلمذ وطلب العلم على يد علمائها، فدرس على يد مجموعة من كبارهم، من أمثال جلال الدين السيوطي، وشهاب الدين القسطلاني، كما تبع الشيخ الصوفي الشهير علي الخواص.

تمكن الشعراني في فترة قصيرة من أن يصبح واحداً من أهم علماء القاهرة وفقهائها الذين يشار إليهم بالبنان، وذلك بعدما صنف مجموعة من المدونات الفقهية المهمة التي ذاع صيتها وتناقلها طلبة الفقه فيما بينهم، ومن بين تلك المدونات كتاب "الميزان الكبرى"، وهو محاولة للتوفيق بين مذاهب الفقه السنية الأربعة، حيث سلط الشعراني الضوء على التشابهات بين هذه المذاهب بدلاً من الاختلافات، وكتاب "الدرر المنثورة في بيان زبد العلوم المشهورة"، والذي يعدّ موسوعة كاملة في علوم القرآن، الفقه وأصوله، الدين، النحو، البلاغة، التصوف، وغير ذلك من العلوم الإسلامية.

مع ذلك تبقى شهرة الشعراني متمثلة بشكل أساسي في مدوناته ذات الطابع الصوفي، ومنها كتابه المسمى بـ"درر الغواص"، والذي تحدث فيه عن سيرة شيخه الصوفي علي الخواص، وكتابه "الكبريت الأحمر" الذي دافع فيه عن شيخ الصوفية الأكبر محي الدين بن عربي، هذا فضلاً عن موسوعته الصوفية الأشهر والمسماة "لواقح الأنوار في طبقات الأخيار"، والمعروفة بين العامة بالطبقات الكبرى أو بطبقات الشعراني.

في 973ه توفى الشعراني، بعد أن قضى حياة طويلة في طلب العلم وتدوين المصنفات، وقد وصفه المؤرخ ابن العماد الحنبلي في كتابه "شذرات الذهب في أخبار من ذهب" بقوله: "وكان مواظباً على السنة، ومبالغاً في الورع، مُؤثِراً ذوي الفاقة على نفسه حتى بملبوسه، متحملاً للأذى، موزعاً أوقاته على العبادة؛ ما بين تصنيف وتسليك وإفادة... وكان يُسمَعُ لزاويته دوي كدوي النحل ليلاً ونهاراً، وكان يحيي ليلة الجمعة بالصلاة على المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولم يزل مقيماً على ذلك، معظَّماً في صدور الصدور، إِلى أن نقله الله تعالى إِلى دار كرامته".

تجاوز الزمان والمكان وقدرات جنسية خارقة

حاول الشعراني في كتابه أن يجمع سير أعلام الصوفية في كل العصور، وأن يذكر حالهم وكراماتهم التي اختصهم الله بها، فبدأ كتابه بترجمة أبي بكر الصديق، ثم عرج على الأولياء والمتصوفة المشهورين، واحداً بعد آخر، حتى انتهى بأولئك الذين عاصروه في القرن العاشر الهجري.

أهم ما يلفت نظر القارئ في كتاب الطبقات الكبرى، أن صاحبه قد أورد فيه الكثير من أخبار الكرامات والخوارق، ومنها على سبيل المثال، ما ورد في ترجمة الشيخ شهاب الدين النشيلي، فيروي الشعراني عنه: "ويأتي البلد، وهو راكب الذئب أو الضبع، وكان يمشي على الماء لا يحتاج إلى مركب، وكان بوله كاللبن الحليب أبيض".

قد تتمثل الكرامة أيضاً في تجاوز حدود الزمان والمكان، والحضور في عدة أماكن في نفس الوقت، مثلما ذكر في ترجمة الشيخ محمد الحضري: "وكان يرى في كذا بلد في وقت واحد"، حتى أنه خطب الجمعة ذات يوم في بلده: "ثم جاء بعض أهل البلاد المجاورة فأخبر أهل كل بلد أنه خطب عندهم وصلى بهم قال: فعددنا له ذلك اليوم ثلاثين خطبة هذا، ونحن نراه جالساً عندنا في بلدنا".

وإذا كانت الميثولوجيا الإغريقية قد أسهبت في وصف ميدوسا، التي تحيل نظرات عينيها البشر إلى أحجار، فقد تحدث الشعراني في طبقاته عن الشيخ يوسف العجمي الكوراني، الذي كان: "إذا خرج من الخلوة يخرج وعيناه كأنهما قطعة جمر تتوقد فكل من وقع نظره عليه انقلبت عينه ذهباً خالصاً"، ليس ذلك فحسب، بل إن عينيه قد امتلكتا قوة خارقة على السيطرة: "فلما وقع بصره يوماً على كلب فانقادت إليه جميع الكلاب، إن وقف وقفوا وإن مشى مشوا، وصار الناس يهرعون إليه - أي الكلب- في قضاء حوائجهم".

وفي السياق نفسه، تتشابه بعض القصص الواردة في الطبقات مع قصص السندباد البحري، وألف ليلة وليلة، ومن ذلك ما حُكي عن الشيخ محمد الغمري، الذي دخل عليه أحد أصحابه في الخلوة: "فرآه جالساً في الهواء وله سبع عيون".

الطريف في الأمر أن القصص ذات الصبغة الجنسية كانت حاضرة وبقوة في الكتاب، إذ تطرق بعضها للقدرات الجنسية الخارقة للأولياء ومن ذلك القصة الشهيرة للشيخ إبراهيم العريان، والذي "كان يطلع المنبر ويخطب عرياناً...... فيحصل للناس بسط عظيم"، والشيخ عبيد، الذي كان في مركب فوحلت، فلم يستطع أحد أن يزحزحها، فقال الشيخ عبيد: "اربطوها في خصيتي بحبل وأنا أنزل أسحبها ففعلوا، فسحبها بخصيتيه حتى تخلصت من الوحل إلى البحر".

بعض القصص شهدت تحولاً فجاً من مجرد الإشارة العابرة إلى الفحولة الجنسية المجردة لبعض المترجم لهم، إلى ذكر عدد من الفواحش والموبقات التي مارسوها، دون تقديم أي مسوغات أو مبررات لتفسير ارتكاب تلك الخطايا والآثام من رجال لطالما اعتبرهم المؤلف من أولياء الله الصالحين، فعلى سبيل المثال، يتحدث الشعراني في كتابه عن الشيخ الصالح السبكي، الذي تعرى بشكل كامل أمام خطيبته، وأطلعها على ذكره، وقال: "أنظري هل يكفيك هذا، وإلا فربما تقولي: هذا ذكره كبير لا أحتمله، أو يكون صغيراً لا يكفيني، فتقلقي مني، وتطلبي زوجاً أكبر آلة مني".

أيضا تناول الكتاب قصة الشيخ علي وحيش: "وكان إذا رأى شيخ بلد أو غيره ينـزله مِن على الحمارة ويقول له: أمسك رأسها حتى أفعل فيها! فإن أبى الشيخ تسمَّر في الأرض لا يستطيع أن يمشي خطوة، وإن سمح حصل له خجل عظيم والناس يمرون عليه".

بل إن الشعراني لم يتحرج من ذكر قصة خاصة به نفسه، وملخصها أنه لما تزوج لم يستطع أن يقرب زوجته لمدة خمسة أشهر كاملة، حتى أخذها لمقام السيد أحمد البدوي في طنطا، وهناك تمكن - ببركة صاحب المقام- أن يفض بكارة زوجته.

هل تم "تحريف" الكتاب؟

كانت القصص العجيبة التي احتشدت بين دفتي كتاب الطبقات الكبرى، من أكبر الأدلة التي استغلها أعداء الصوفية لإثبات تهافت المتصوفة وضعف اعتقادهم، وبعدهم الصريح عن صحيح الدين وأوامر الشرع الحنيف، إذ أكد المنتقدون على استحالة صدور تلك الخرافات التي تشبعت بمعاني الشرك والكفر والدجل عمن يمكن وصفه بأنه من أولياء الله الصالحين، فضلاً عن أن يكون من المسلمين أصلاً.

رد الصوفية المدافعين عن الكتاب، تمثل بالمقام الأول في القول بأن تلك القصص الخرافية قد دسّت على الكتاب من قبل أعداء الصوفية، وأنها لم تكن من تصنيف الإمام الشعراني، بل نُسبت إليه للتشنيع عليه وللطعن في مقامه والحط من مكانته.

يستشهد الصوفية على قولهم ذلك بمجموعة من أقوال الشعراني نفسه، منها على سبيل المثال، ما ذكره كتابه لطائف المنن والأخلاق: "ومما منَّ الله تبارك وتعالى به عليَّ، صبري على الحسدة والأعداء، لما دسوا في كتبي كلاماً يخالف ظاهر الشريعة، وصاروا يستفتون علي زوراً وبهتاناً، ومكاتبتهم في لباب السلطان".

وقد ذكر بعض المؤرخين تلك المسألة، ومنهم ابن العماد الحنبلي في كتابه شذرات الذهب، بقوله: "وحسده طوائف فدسوا عليه كلمات يخالف ظاهرها الشرع، وعقائد زائغة، ومسائل تخالف الإِجماع، وأقاموا عليه القيامة، وشنَّعوا وسبُّوا، ورموه بكل عظيمة، فخذلهم الله، وأظهره الله عليهم...".

ومن بين النقاط المهمة التي تجدر الإشارة إليها، أن كتاب الطبقات الكبرى ورغم شيوعه وذيوعه بين العامة والخاصة، واشتهار أمره بين الناس، إلا أن أصله مفقود، ولم يتم تحقيقه تحقيقاً علمياً منضبطاً حتى الآن، كما هو معتاد العمل به في كتب التراث والتاريخ.

لماذا انتشرت تلك الخرافات؟

بعيداً عن حقيقة نسبة كامل الكتاب للشعراني من عدمه، يظهر هنا السؤال الأكثر إلحاحاً وأهمية، وهو لماذا انتشرت تلك الخرافات والأساطير في كتاب الطبقات الكبرى؟ ولم استبدل الوجه الروحي الباطني للتصوف بتلك الصورة الميتافيزيقية الفجة؟

في الواقع، يمكن القول إن أحد أهم الأسباب المفسرة لانتشار تلك الخرافات، تتمثل في أن الصوفية لما كانوا في حقيقة الأمر يمثلون مظهراً من مظاهر الحراك الاجتماعي الغاضب والناقم على السلطة المملوكية الغاشمة، وكان تلبس الصوفي أو المجذوب بالكرامة أو الأمر الخارق للعادة، يعدّ ترسيماً له في مكانه الجديد في المجتمع، كمركز ثقل يؤمن به الناس ويعتمدون عليه في تفريج الكربات وقضاء الحوائج، فإن ذلك جعل الكرامة دليلاً على مكانة صاحبها وشاهداً على قربه من الله، وهو ما أتاح الفرصة لها للانتشار والذيوع.

النقطة الثانية، أن كبار الصوفية في العصر المملوكي كانوا بمثابة أنداد أو أكفاء للسلطان نفسه، وإذا كان السلطان المملوكي حاكماً على الظاهر، فأن الولي الصوفي كان حاكماً على الباطن، وكلما اشتد ظلم سلطان الظاهر وتعسفه، تعمقت كرامات الصوفية وتضخمت.

كان الصوفي إذن في ذلك العصر، ليس مجرد مؤمن صالح يرتبط مع الله بعلاقة روحية خاصة وعميقة، بل كان رمزاً معبراً عن محيطه الاجتماعي (الحي الذي يسكن فيه إذا كان في القاهرة، أو قريته التي يقطن بها إن كان من الريف)، ومن هنا كان التباري والتسابق بين أهل كل منطقة في الترويج لكرامات ومناقب شيخهم بالذات، لأن ذيوع صيته كان يؤدي بالتبعية لذيوع صيت محلتهم، وأيضاً لأن هناك مجموعة من الطقوس ذات البعد الاقتصادي، وأهمها الموالد وصناديق النذور المرفقة بالأضرحة، كانت ستعود على أهل تلك المحلة بالنفع والخير.

من هنا فإن كتاب طبقات الشعراني - سواء تعرض للإضافة والدسّ أم لا- فهو بكل ما يتضمنه من خرافات وأمور خارقة للطبيعة، لا يمكن تصديقها، يعدّ مرآة صادقة لثقافة هذا العصر ولظروفه الاجتماعية والسياسية الصعبة، للدرجة التي من الممكن أن نصفه معها بكونه أحد أهم مدونات الثقافة الشعبية المصرية الجمعية في العصر المملوكي وبدايات الحقبة العثمانية، إن لم يكن أهمها على الإطلاق.

رصيف 22

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث