بابكر فيصل:
انعقدت في كوالالمبور الشهر الماضي قمة مصغرة جمعت قادة أربعة دول: ماليزيا، قطر، إيران وتركيا بمشاركة لفيف من رجال الدين المنتمين لجماعات الإسلام السياسي، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين بهدف معلن هو "بحث استراتيجية جديدة للتعامل مع القضايا التي يواجهها العالم الإسلامي".
وقد بدا جليا أن القمة التي دعا لها رئيس وزراء ماليزيا، مهاتير محمد، سعت لوضع لبنة تأسيسية لمعسكر إسلامي يعبر عن اتجاهات فكرية وسياسية تطرح نفسها كبديل لمنظمة التعاون الإسلامي التي تقودها المملكة العربية السعودية، التي كانت ضمن الدول التي اعتذرت عن المشاركة في القمة إلى جانب باكستان وإندونيسيا.
من ناحيتها، بعثت جماعة الإخوان المسلمين المصرية برسالة مؤيدة للقمة قالت فيها: "يأتي انعقاد قمتكم هذه بمشاركة شعبية واسعة من شخصيات إسلامية، في طليعتهم قادة سياسيون، ومفكرون، وعلماء دين، في وقت تحتاج فيه الأمة الإسلامية إلى الوحدة والتكاتف والتضامن والاتحاد"، وأضافت أن القمة تعكس جهود الأمة الإسلامية "التي تسهم بها في إنقاذ البشرية، وإخراجها من هذا التيه الذي تتردى فيه".
ووفقا لوسائل إعلامية فإن حضور القمة شمل حوالي 150 شخصية إخوانية من المغرب وموريتانيا وتونس وليبيا والجزائر ولبنان والحركة الدستورية الكويتية، وإخوان تركيا وأوروبا، والإخوان المصريون المقيمون بإسطنبول وباكستان، وإخوان اليمن ممثلين في حزب الإصلاح، وحتى من خارج جماعة الإخوان حضر سلفيون مثل سلفية السودان "أهل السنة والجماعة"، كما حضر من المغرب "جماعة العدل والإحسان".
وإذ اتضح أن اللقاء ـ الذي يمكن أن نطلق عليه "قمة الإسلام السياسي" ـ ليس سوى محاولة لخلق كيان جديد يهدف لقيادة الدول الإسلامية، فإن الندوات المصاحبة له قد تناولت بالنقاش العديد من الأطروحات التي تشكل المنطلقات الفكرية التي يتبناها ذلك التيار الإسلامي الذي يضم أطيافا عديدة.
على سبيل المثال، ألقى رجل الدين الموريتاني، محمد الحسن الددو، عضو مجلس أمناء الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين (إحدى واجهات التنظيم الدولي للإخوان المسلمين وقد قام بتأسيسه الشيخ يوسف القرضاوي عام 2004، كلمة في إحدى الندوات المصاحبة للقمة تناول فيها مفهوم "الأمة الإسلامية" وكيفية مواجهة التحديات الماثلة.
قال الددو في كلمته إن "منتدى كوالالمبور أنشئ بهدف التفكير في إيجاد حلول غير مستوردة، تخرج الأمة الإسلامية مما هي فيه"، مضيفا أن "التفكير بالأمة يكون بقدر القناعة بها ودخولها في كيان الإنسان معللا: أن النبي (ص) قد ربى أصحابه على التفكير بالأمة".
لا شك أن "التفكير بالأمة" يمثل أحد المفاهيم الأساسية التي تنادي بها جماعات الإسلام السياسي بمختلف ألوان طيفها، وهو يعني عندهم تجاوز حدود الأوطان والمناصرة المتبادلة بين المسلمين (تُقرأ الحركات الإسلامية) في جميع أنحاء العالم الإسلامي الممتد من جاكارتا حتى طنجة، وهذا أمر كانت له تداعيات خطيرة في العديد من التجارب.
في ظل حكم جماعة الإخوان المسلمين للسودان، والذي استمر لثلاثة عقود، تبنى النظام الحاكم سياسة مد جسور التواصل مع جميع رموز الإسلام السياسي، بمن فيهم أسامة بن لادن وأيمن الظواهري وراشد الغنوشي (تم منحه جواز سفر سوداني) وغيرهم، كما فُتحت أراضي البلاد لاستضافة الحركات المتطرفة مثل الجماعة الإسلامية والجهاد الإسلامي المصريتين، وقد تم كل ذلك وفقا لمفهوم "التفكير بالأمة".
وبما أن ذلك المفهوم عنى لدى تلك الجماعات مناصرة الذين يتشاركون معهم ذات التوجهات الفكرية، فقد تورط النظام في أعلى مستوياته في محاولة فاشلة لاغتيال الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك في أديس أبابا عام 1995، باعتبار أن الأخير دخل في مواجهة شاملة مع الجماعات التكفيرية المتطرفة التي يشملونها تحت مفهوم "التفكير بالأمة".
أدت تلك السياسات والممارسات لفرض العديد من العقوبات الاقتصادية والسياسية القاسية التي ما يزال السودان يعاني من آثارها حتى اليوم، كما عانت البلاد من عزلة إقليمية وعالمية غير مسبوقة، وأضحت دولة منبوذة تعيش في جزيرة شبه معزولة عن المجتمع الدولي، وهو الأمر الذي تسبب في معاناة غير مسبوقة للإنسان السوداني وسيمتد أثرها للأجيال القادمة.
يُعضِّد ما توصلنا إليه من خلاصة حول مفهوم "التفكير بالأمة" الذي تعنيه جماعات الإسلام السياسي ما أشار إليه الددو في كلمته حيث أكد أن "المضطهدين والمظلومين من هذه الأمة في سجونهم ومنافيهم لا يجدون من يواسيهم ويتحدث باسمهم غير هؤلاء الرجال الثلاثة: سمو الأمير الشيخ تميم بن حمد وفخامة الرئيس رجب طيب إردوغان ودولة رئيس الوزراء الدكتور مهاتير بن محمد".
من الجلي أن "المضطهدين والمظلومين من هذه الأمة" الذين يعنيهم محمد الحسن الددو هم فقط الأفراد المنتمين لجماعة الإخوان المسلمين القابعين في سجون الدولة المصرية والمملكة العربية السعودية وليس سواهم.
وعندما يقول الددو إن "أبرز تحديات التنمية تتمثل في عدم استقلال قرار دول العالم الإسلامي، والتخلص من الدكتاتوريات المفسدة التي لا تحسن غير تعذيب الشعوب ونهب الخيرات ويدعم أشباهها وأسيادها على تدمير البلاد والعباد"، فإنه يقع في فخ التناقض الذي يوضح بجلاء ماهية مفهوم "التفكير بالأمة" لدى تلك الجماعات.
وإذ نتفق مع الددو في أن الدكتاتوريات (الاستبداد) هي سبب رئيس من أسباب حالة الجمود والتخلف التي تعيشها الشعوب الإسلامية والتي جعلتها ترزح تحت نير الظلم والفقر وانعدام الحريات والجهل، إلى آخر القائمة الطويلة من سمات التخلف الحضاري، فإن ذلك لا يعني أن نشير لتلك الدكتاتوريات بطريقة انتقائية.
اللقاء ليس سوى محاولة لخلق كيان جديد يهدف لقيادة الدول الإسلامية
لا يجوز أن نوجه سهام النقد لممارسات أنظمة الحكم في مصر والسعودية فحسب، بينما نتجاهل ممارسات الاستبداد في مناطق أخرى بسبب التحيز الأيديولوجي وليس بغرض كشف الحقيقة؛ فالشيخ تميم بن حمد الذي يُنصِّبه الددو نصيرا للمضطهدين لا يترأس دولة ديمقراطية تنافح عن الحريات العامة وتتبنى نظام فصل السلطات، بل دولة إقصائية لا تعرف أسلوبا لتداول السلطة سوى توريث الحكم واحتكاره في أسرة معينة.
على سبيل المثال، لماذا لم نسمع صوتا للددو أو لجماعة الإخوان المسلمين عندما حكمت السلطات القطرية على الشاعر، محمد بن الذيب العجمي، بالسجن المؤبد بعد أن أدين بتهمة "التحريض على الثورة والإطاحة بنظام الحكم" لا لشيء سوى كتابته أبيات شعر بالعامية الخليجية (شعر نبطي) تُمجد ثورات الربيع العربي وتنتقد الحُكم المطلق في الدول العربية، ولم تطلق سراحه إلا بعد مرور خمس سنوات بعفو أميري!
خلاصة الأمر هي أن مفهوم "التفكير بالأمة" يعني في جوهره مناصرة التوجهات الفكرية والسياسية المؤيدة لتيار الإسلام السياسي، وأن القمة التي احتضنتها كوالالمبور تمثل خطوة في اتجاه تكوين منظومة تخدم ذلك الغرض وهو الأمر الذي أشار إليه البيان المذكور لجماعة الإخوان المسلمين المصرية بالقول إن "هذا الكيان الإسلامي المرتقب، وهذا الجهد المخلص يمثل ـ بما يتوفر له من إمكانات هائلة ـ بادرة طيبة تدفع للسير في الاتجاه الصحيح، وتبشر بتكوين نواة لتكتل واتحاد إسلامي أوسع".