"إني جاعل في الأرض خليفة" - مقالات
أحدث المقالات

"إني جاعل في الأرض خليفة"

"إني جاعل في الأرض خليفة"

محمد حسين الشيخ:

 

نتناول في السطور التالية، ربط علماء التفسير كلمة "خليفة" التي جاءت بمواضع متعددة في القرآن بالمصطلح السياسي للكلمة، لإضفاء هالة من القداسة على شخص الخليفة الحاكم للمسلمين، وجعله بمثابة نائب عن الله في الأرض، حتى شاع وصفه بـ"ظل الله على الأرض".

هناك آيتان في القرآن محوريتان فيما يتعلق بمصطلح "خليفة"، وهما آية سورة البقرة التي تتحدث عن خلق آدم: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً. قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ؟! وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ. قَالَ: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ".

الثانية هي آية سورة ص، التي تنقل توجيها إلهياً للنبي والملك داوود: "يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ، فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ...".

نستشف من دراسة الباحثة وداد القاضي، "مصطلح الخليفة في التفاسير المبكرة -The Term ‘Khalīfa’ in Early Exegetical Literature"، أن التفاسير التي ظهرت في القرنين الأول والثاني وربما الثالث للهجرة لتلك الآيات، لم تربط هذه اللفظة القرآنية بمنصب الخليفة السياسي. وبناء على هذه النتيجة بدأ الباحث بجامعة هارفارد Han Hsien Liew، في فحص المصطلح لدى المفسرين، من بداية نضج علم التفسير على يد ابن جرير الطبري، في القرن الثالث وبدايات الرابع، وحتى ابن كثير في القرن الثامن الهجري.

وتوصل هان في دراسته The Caliphate of Adam Theological Politics of the Qurʾānic Term Ḫalīfa " إلى أن الطبري هو أول من قدم ربطاً بين اللفظة القرآنية "خليفة" والمصطلح السياسي لها، ومع الوقت صار بديهياً أن يربط المفسرون لفظة "خليفة" المقترنة بخلق آدم في القرآن، بالحاكم العام للمسلمين. نتابع في هذه المقالة هذه الدراسة في بحث في تشابك التفسير مع الإشكاليات السياسية في التاريخ الإسلامي

الطبري وتشابك السياسة مع التفسير القرآن

يشرح الطبري كلمة "خليفة" لغوياً، ويقول: "خلف فلان فلاناً في هذا الأمر، إذا قام مقامه فيه بعده. كما قال جلّ ثناؤه: ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون (آية 14 سورة يونس) و"من ذلك قيل للسلطان الأعظم: خليفة، لأنه خلف الذي كان قبله، فقام بالأمر مقامه، فكان منه خلفاً".

ويبدو أن الطبري يميل للتفسير السياسي للكلمة (السلطان الأعظم) دائماً، فحين تحدث عن تفسير الآية التي استشهد بها هنا (ثم جعلناكم خلائف في الأرض...) في معرض تفسيره لآية خلافة آدم، كان التفسير سياسياً، حيث استشهد بحديث يحكي قصة مفادها أن الصحابي عوف بن مالك رأى في منامه أن حبلاً تدلى من السماء فمسك به النبي، ثم دُلي فمسك به أبوبكر، ثم دلى فمسك به عمر، كدليل على أن "الخلائف" قصد بها القرآن "الخلفاء المسلمين" حكام الدولة الإسلامية.

وينقل الطبري مجموعة آراء لتفسير آية خلق آدم، ولكنه جعل ضمنها ما نقله عن ابن عباس، ابن عم النبي، والصحابي عبد الله ابن مسعود وآخرين، أن الملائكة سألوا الله عن هذا الخليفة، فقال لهم: "يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضاً".

هنا ينتهي الطبري من النقل ليأول ويقول رأيه:

فكان تأويل الآية على هذه الرواية التي ذكرناها عن ابن مسعود وابن عباس: "إني جاعل في الأرض خليفة مني يخلفني في الحكم بين خلقي، وذلك الخليفة هو آدم ومن قام مقامه في طاعة الله والحكم بالعدل بين خلقي".

"الإحياء السني" ونمو التفسير السياسي للفظة "خليفة"

مع مجيء أبو إسحاق الثعلبي، نكون قد وصلنا إلى أعتاب مرحلة تاريخية سميت بـ"إحياء السنة"، في مواجهة الشيعة والمذاهب الإسلامية الأخرى، وفي هذه الفترة (القرن الخامس الهجري) كان الفقه السياسي قد تبلور، وظهر واحد من أهم المؤلفات في هذا المجال، وهو "الأحكام السلطانية" للماوردي، وأثر ذلك على تفسير القرآن، الذي يفترض أن يؤثر هو في هذه العلوم وليس العكس، بحسب دراسة هان.

أعاد الثعلبي استخدام تفسير الطبري الخاص بالخلافة السياسية، ولكنه دعم تفسيره بـ"فصل في معنى الخليفة"، وفيه ينقل قصة بلا سند عن الخليفة الثاني، عمر ابن الخطاب، مفادها أنه سأل أصحابه وأصحاب النبي طلحة والزبير وكعباً وسلمان: ما الخليفة من المَلِك؟ فقال سلمان: الخليفة الذي يعدل في الرعية ويقسم بينهم بالسوية، ويشفق عليهم شفقة الرجل على أهله، ويقضي بكتاب الله. فسأل عمر: أملك أنا أم خليفة؟ فأجاب سلمان: إن أنت جَبَيْتَ من أرض المسلمين درهماً أو أقل ووضعته في غير حقه فأنت ملِك.

اقتران هذا الفصل الذي وضعه الثعلبي بهذه القصة ضمن سياق تفسيره للآية يبين أن الحاكم إذا كان عادلاً فهو خليفة الله في الأرض، أما إذا كان العكس فهو مثل باقي الملوك، في رأي الثعلبي.

أما الماوردي صاحب "الأحكام السلطانية"، فأورد في تفسيره "النكت والعيون" أكثر من رواية لتفسير آية خلافة آدم، ومنها أن الخلافة هي "النيابة عن الله في الحكم". وذهب الماوردي إلى آية سورة "النور": وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ..."، ليفسر الخلافة في الآية على أنها خلافة "أبي بكر، عمر، عثمان، علي"، أي "الخلفاء الراشدين".

أما الواحدي النيسابوري، فلم يهتم بالتفسير السياسي لآية خلافة آدم، لكنه حين فسر آية سورة ص (يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض...) سياسياً بامتياز، فعنده أن خليفة الله في الأرض هو من يحكم بين الناس بالعدل، والخلفاء بمعنى الحكام هم "خلفاء الله في الأرض".

هل الخليفة هو "خليفة الله" على الأرض؟ أم "خليفة" لمن سبقه من الحكام؟ جدل ساهمت فيه تفاسير آيتين من القرآن الكريم

أورد الماوردي في "النكت والعيون" أكثر من رواية لتفسير آية خلافة آدم، ومنها أن الخلافة هي "النيابة عن الله في الحكم". وذهب الماوردي إلى آية سورة "النور": وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ."، ليفسر الخلافة في الآية على أنها خلافة "أبي بكر، عمر، عثمان، علي"، أي "الخلفاء الراشدين"

القرن السادس وسيادة التفسير السياسي

بعد النيسابوري يُلاحظ أن تفسير لفظة "خليفة" سياسياً صار طبيعياً، وكأنه التفسير الأولى والمنطقي، فقد كان المفسرون السابقون يذكرون التفسير السياسي للآية كأحد التفسيرات، دون أن يرجحوه هو أو غيره، ولكن في نهايات القرن الخامس وبداية القرن السادس بدا أن هذا التفسير هو الراجح.

نجد الحافظ البغوي يقول في تفسيره لآية خلافة آدم، إن المعنى الراجح هو أن الله أقام آدم مقامه لـ"إقامة أحكامه وتنفيذ وصاياه". ونجد أبو حامد الغزالي يلقب الخليفة العباسي بأريحية بـ"خليفة الله على الخلق"، حسبما جاء في كتابه "فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية".

واعتبر الزمخشري في تفسيره "الكشاف"، أن آدم كان خليفة الله في الأرض، وكذلك كل الأنبياء بعده. وفي تفسيره لآية سورة ص: "يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض..." يعتبر الزمخشري أن أي سلطان أو حاكم هو خليفة لله في الأرض، وأن تلقيب الحكام المسلمين بـ"الخليفة" أتى من تفسير هذه الآية، مشيراً إلى أن اقتران لقب الخليفة بـ"الله" موجود من قبل الخلفاء العباسيين، الذين كانوا يحكمون في هذا الوقت.

هذا الاتجاه في تفسير الآية دفع المفسر الأندلسي ابن عطية، الذي كان بعيداً عن مركز الخلافة العباسية في بغداد، إلى الهجوم على هذه التفسيرات، وأوضح في تفسيره لآية "يا داوود إنا جعلناك خليفة.." أن بعض الناس يرى أن الخلافة إلزامية بناء على هذه الآية، ولكن الصحيح أن "الشِّعر" و"إجماع العلماء" هما مصدر القول بضرورة وجود الخلافة، في تلميح لامتداح الشاعر القرشي الشهير عبيد الله بن قيس الرقيات للخليفة الأموي عبد الملك بن مروان بقوله: "خليفة الله فوق منبره ... جفت بذاك الأقلام والكتب".

وشدد ابن عطية على أن "خليفة المسلمين" ليس "خليفة لله"، بل هو خليفة لمن سبقه من الحكام، محرماً نسب الخلفاء الراشدين إلى الله.

التحالف العباسي مع الحنابلة وترسيخ "خليفة الله"

مع الوصول إلى أواخر القرن السادس الهجري كان التيار السني السلفي يعيش نهضة في بغداد، وبات علماؤه ضلعاً في الحكم، حيث كانت جلسات علماء الحنابلة تتم في قصر الخلافة نفسه (الريحانيين) في عهد الخليفة العباسي المستضيء بالله، كما ترصد هان.

ويتجلى هذا التحالف بين الخليفة والحنابلة، في قول الشيخ الحنبلي ابن سهل البقال وهو يقف في ديوان الخليفة، بأن الخلافة خيمة أحبالها الحنابلة، ولو انفكت الأحبال تنهار الخيمة.

في هذه الفترة برز المفسر الحافظ ابن الجوزي، وكان من أشهر رواد قصر الخلافة، والذي يقول في خلافة آدم بأنه "نائب الله في إقامة شريعته، ودلائل توحيده والحكم في خلقه"، مرجحاً أن هذا التفسير هو أولى من التفسيرات السابقة، التي تعتبر أن الخلافة معناها خلافة الإنسان للجن في العيش على الأرض.

نفس التفسير تقريباً قال به القرطبي، وهو فقيه ومفسر عاش في نهاية الخلافة العباسية، حيث يعتبر أن آدم هو "خليفة الله في إمضاء أحكامه وأوامره"، لأنه الرسول الأول إلى الأرض. وتجاهل القرطبي التفسير الشائع حول خلافة البشر للجن، بل واعتبر في سابقة تفسيرية أن آية الخلافة تعد أمراً إلهياً للمسلمين بتعيين خليفة، تجب له الطاعة، وتجتمع حوله الآراء، معتبراً أن "الخلافة هي أحد أعمدة الدين".

وبعد سقوط الخلافة في بغداد على يد المغول، ظل أثر التفسيرات التي أنتجت في فترة إحياء السنة قائماً، في تفسيرات البيضاوي والنسفي، وحتى ابن كثير نفسه، ذكرها ولكن ضمن آراء تفسيرية مختلفة.

رصيف 22

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث

اتصل بنا

*
*
*