داعشية المتنبي! - مقالات
أحدث المقالات

داعشية المتنبي!

داعشية المتنبي!

محمد المحمود:

 

لم يكن العنف الدموي المتوحش الذي انتهجته دولة "داعش" الإرهابية في السنوات السبع الماضية، والذي كان عنفا مِلءَ السمع والبصر؛ إلا ليُضِف صفة "الداعشية" إلى مجال التداول الثقافي/ الإعلامي العربي؛ باعتبارها صفة تُحِيل إلى أبشع وأشنع ما يمكن أن يصل إليه العنف الإنساني من توحش ودموية فاقعة الألوان، بل وتصبح هذه الصفة ـ المُسْتَحدَثة من وحي الواقع ـ تحمل "عنصرا دلاليا" إضافيا خطيرا، يتمثل في كون هذا العنف الداعشي ليس مجرد عنف مُتَبادل تدفع إليه ظروف الصراع/ الاحتراب الذي تشتعل بنيرانه دول/ مناطق الفوضى العربية، وإنما هو عنف ذاتي هُويّاتيّ، ينطوي على ما هو أبعد/ أكثر/ أعمق من العنف ذاته، أي على: "ما قبل العنف/ ما وراء العنف"، المتمثل بكون "الداعشي" يمارس عنفه بدافع ذاتي، بشغف بالغ، بلذة غامرة، بإحساس طاغٍ يستشعر فيه أن معنى وجوده يتحقق ويتعمق في مدى/ مسافة عنفه. ومن هنا يغدو عنفا مُبْهجا ومُعْلنا ومُوثّقا ومُبَرّرا، حتى أصبح الإرهابي يُفاخر بإرهابه المتوحش على رؤوس الأشهاد.

هذا العنف الفائق توحشا؛ بقدر ما هو فائق في استعراض الوحشية، لم ينشأ من فراغ. ولقد تحدثت في المقال السابق عن "العنف في الثقافة العربية"، حيث تأكد لنا بـ"البراهين الشعرية" أن العنف كان نمط حياة، بل وأنه كان قيمة عليا رافقت العربي منذ بداياته الأولى، واستمرت معه إلى يومنا هذا، وديوان العرب/ الشعر (وهو الذي وَثَّقَ واقعهم؛ بقدر ما وثق مشاعرهم) خير شاهد على هذه الحال. فالشعراء ـ على اعتبار أنهم لسان الضمير العربي الناطق ـ كانوا يؤكدون رمزية هذه القيمة، ويضعونها فوق كل القيم، بحيث تكون حاكمة عليها، بل وملغية لها في بعض الأحيان.

وإذا كان الشعراء ينطقون بما ينطقون به كأفراد، حتى وإن تَحَدَّثوا بلسان الجماعة، فإن مستهلكي هذا الشعر/ جماهير قُرَّائه، هم أبلغ دلالة في تأكيد هذه الرمزية، فهم يُقدِّمون ويُؤخِّرون من الشعراء ومن الشعر وِفْقَ معيار الاستجابة/ استجابة القارئ، أي وفق معيار كونه التمثيل الأصدق لما يُضْمرون. فإن استجابوا أكثر لشعراء الغزل؛ فالقيمة العليا في ثقافتهم غزلية، وإن استجابوا أكثر لشعراء التسامح؛ فالقيمة العليا في ثقافتهم تسامحية، وإن استجابوا لشعراء الكراهية والعنف؛ فالقيمة العليا في ثقافتهم عدائية عُنْفية. وعلى هذا، فالشاعر العُنْفي في سياق ثقافة غير عُنْفية/ في مجتمع غير عنفي؛ ستنفيه الذائقة العامة، وسيُخْمله الإهمال، بينما في الثقافة العُنفية/ في المجتمع العنفي؛ سيحظى بالتقدير والإجلال.

لم يَلقَ شاعرٌ عربيٌّ من التقدير والتعظيم ما لقيه أبو الطيب المتنبي؛ حتى حاز لقب: شاعر العربية الأكبر بلا منازع. لقد شَغفَ هذا الشاعر ـ المُتَوهِّجُ عُنْفا وتوحّشا ـ قلبَ الذائقة العربية حُبَا منذ هتف صادحا بقصائده الخالدة قبل أكثر من عشرة قرون. بل ويكاد يكون شاعر العرب الأوحد الذي يُضِيف إليه جماهير المتعلمين كلَّ بيتٍ يستجيدونه ولا يعرفون قائله، فكأن لسان حالهم يقول: لا شاعر بحق إلا المتنبي!

هذه المكانة، الباذخة تعظيما يصل حَدَّ التقديس، لم ينلها المتنبي عبثا، لم ينلها المتنبي إلا لأنه لسان التراث العربي/ الثقافة العربية منذ جاهلية العرب الأولى، وإلى تخوم عصرنا هذا. المتنبي هو معشوق الثقافة العربية التي تولّهت به حتى الجنون. ولم يكن كذلك إلا لأنه المُعَبِّر الصادقُ والبليغ عن تصوراتها الذاتية وقِيَمِها وطموحاتِها وآمالها...إلخ، وباختصار، المُعبِّر العبقري عن شخصيتها الأولى، عن شخصيتها الأشد عمقا والأكثر رسوخا على امتداد العصور.

ولكن، للأسف، فهذا المتنبي الذي يُفتَرض أنه صوت ضمائرنا المتعاقبة على امتداد العصور، هو ذاته الشاعر الأشد تقديسا للعنف حَدَّ العبادة، وبما يصل أحيانا درجة الرغبة المجنونة في تنفيذ عمليات "إبادة جماعية" بوصفها ـ في نظره وتنظيره ـ إحدى مصاديق تحقّق القوة/ المجد في الواقع.

والغريب أن هوس المتنبي بالعنف لم يكن ظرفيا، أي لم يكن نتاج ظرف طارئ أو عابر في حياته، ولم يكن نتاج مرحلة عمرية خاصة، فقد بدأ تَعشّق العنف معه منذ مرحلة المراهقة، واستمر معه حتى مقتله وهو في حدود الخمسين.

في حال الفقر؛ كما في حال الغنى، في حال الصحة؛ كما في حال المرض، في حال الاستقرار والارتياح؛ كما في حال التشرد والشتات، كان تقديس العنف والتوعد به هو سيد الموقف.

فمن أوائل شعره ما قاله وهو صبي في "الكُتّاب"، حيث كانت له وَفْرَة (شعر طويل)، فقال له صديقه: ما أحسن وفرتك، فأجابه شعرا بقوله:

لا تحسُن الوَفْرَة حتى تُرَى * مَنشُورة الضفْرَين يوم القِتال

على فتىً مُعْتقِل صَعْدةً * يَعُلُّها من كُلّ وافي السِّبال

هنا المتنبي وهو صبي يرد على صاحبه الذي امتدح جمال شَعره بأن هذا الشَّعر لا يكون جميلا إلا عندما يكون منتشرا على رأس المُحارب في المعركة )وكانوا ينشرون شعورهم في المعارك تهويلا)، هذا المحارب الذي يتَمثَّلُه المتنبي الصّبي، هو الذي يُرْوّي رمحَه من دماء الأبطال!

وقال أيضا في مراهقته، يرد على من يطلب منه الاستقرار، وترك المغامرات التي قد تُودي بحياته:

مُحِبّي قيامي ما لذلكم النَّصْل * بريئا من الجَرحى سليما من القتل

يعني، ما دام سيفه لم يرتكب جناية، لم يجرح ولم يقتل، لم يَتثلّم من كثرة الاستخدام، فلا ينبغي له الاستقرار؛ لأن معنى وجود ـ المتحقق بالعنف ـ لم يظهر بعد من حيّز الإمكان إلى حيز الفعل.

كذلك نجده في صباه يخاطب نفسه قائلا:

إلى أيّ حِين أنتَ في زِيِّ مُحْرمِ * وحتّى متى في شِقْوةٍ وإلى كَمِ

وإلا تَمُتْ تحتَ السيوفِ مُكرّما * تَمُتْ وتقاسِ الذّل غيرَ مكرَّم

فَثِب واثقا بالله وثْبَةَ ماجدٍ * يرى الموتَ في الهَيْجَا جَنَى النَّحل في الفم

إنه يرى حالة السلام حالة غير طبيعية، حالة استثنائية/ طارئة، لا يجوز أن تدوم، فكونه لا يقتل، ولا يخوض غمار المعارك، يُبقيه وكأنه في حالة إحرام (المُحْرِم للحج أو للعمرة لا يجوز له حتى قتل الحيوان)، وبما أن الإحرام حالة استثنائية عابرة، فحالته المسالمة التي يضيق بها ذرعا الآن يجب أن تكون استثنائية وعابرة؛ لأن المجد ـ كما يؤكد هنا ـ يكون في الحرب والموت، لا في السلام الذي هو ـ تصوّره العنفي ـ عنوان الذل والمهانة والشقاء.

أيضا، في مراهقته يقول:

يُسَابقُ سَيْفي مَنَايـا العِـبَاد * إليهم كأنهمـا في رِهَـان

سأجعله حَكَما في النفوس * ولو نابَ عنه لساني كفاني

وفي مطلع شبابه يقول:

ألا ليست الحاجات إلا نفوسكم * وليس لنا إلا السيوف وسائل

ويقول ـ على وجه التهديد بأن برق سيوفه، وما ينتج عنها من جريان الدماء، سيجعل الأرض تستغني عن البروق وعن الأمطار/ الدِّيَم ـ:

تُنْسي البلادَ بُروقَ الجَوِّ بارقتي * وتكتفي بالدم الجاري عن الدِّيَم

شيخ يرى الصلوات الخمس نافلة * ويستحل دم الحُجّاج في الحرم

والبيت الثاني يصل أعلى درجات الاستباحة العنفية لكل المُوَاضعات القِيَميّة التّسَالُمِيّة، فنموذجه رجلُ عُنفٍ ذو تجربةٍ طويلةٍ، رجلُ شَبَّ وشاب على العنف، بحيث لا يكترث بالمحرمات من أي نوع، ولديه استعداد حتى لاستباحة دماء الحجاج في الحرم، أي انتهاك جميع المقدسات في سبيل تحقيق المقدس العُنفي.

وقال على سبيل الفخر:

جهلوني وإن عَمَرتُ قليلا * نسبتني لهم رؤوسُ الرماح

وعندما عرض عليه أحدُ أصدقائه كأسا من الخمر؛ رفضها وقال:

ألذّ من المُدام الخَندريس * وأحلى من مُعَاطاة الكؤوس

مُعاطاة الصفائح والعوالي * وإقحامي خميسا في خميس

فموتي في الوغى عيشي لأني * رأيت العيش في أربِ النفوس

إنه لا يرفض الخمر الخندريس/ المُعتقة تورّعا، إنه يرفضها فقط؛ لأن ثمة ما هو ألذُّ منها، وهذا الألذّ ـ في نظره ـ هو تجاذب أطراف السيوف والرماح، والتسبّب في إذكاء فتيل الصراع المسلح، أي في اصطدام الجيوش، ليكون "مسعر حرب"؛ كما يُقال:

وإذا كان العشاق يسهرون الليل شوقا إلى أحبابهم، فهو يسهر الليل شوقا إلى القتل والقتال والعدوان والتلذّذ بقتل البشر. إنه يفتتح إحدى قصائده بمقدمة غزلية كعادة الشعراء، ولكنه ليس كأي غزل، إنه غزل بالموت وبالمعارك الدامية، وليس بالجمال. يقول:

أفكّرُ في مُعَاقَرة المنايا * وقودِ الخيل مُشْرفة الهوادي

زعيم للقنا الخطي عزمي * بسفك دم الحواضر في البوادي

وكن كالموت لا يرثي لباكٍ * بكى منه ويروى وهو صادِ

ويقول على سبيل المدح:

قَوْمٌ بُلُوغُ الغُلامِ عِنْدَهُمُ * طَعنُ نُحورِ الكُماةِ لا الحُلُمُ

ويقول مفتخرا:

وإنْ عَمَرْتُ جَعَلْتُ الحرْبَ والدةً * والسّمْهَريَّ أخاً والمَشرَفيَّ أبَا

بكلّ أشعثَ يَلقى الموْتَ مُبْتَسِـماً* حتى كأنّ لـهُ في قَـتْـلِهِ أرَبَـا

ويقول، وكأنه اكتشف قانون الصراع الحتمي:

ومَنْ عَرَف الأيَّامَ معرفتي بها * وبالناس رَوَّى رُمْحَه غيرَ رَاحم

فليسَ بمَرحُومٍ إذا ظَفِروا بهِ * ولا في الرَّدَى الجاري عليهم بآثمِ

وهذا المعنى خطير، إذ هو لا يُؤَسِّس للعنف المتبادل كقانون حياة فحسب، وإنما يمنح الضمير إجازة مفتوحة ليرتكب الإنسان كل جريمة تخطر بباله. إنه يقول باختصار وبصراحة: اقتل أكبر عدد من الناس بلا رحمة، اجعل رمحك يرتوي من دمائهم، لا ترحمهم؛ لأنهم لن يرحموك لو كانوا بموضعك من القوة، اقتل من تستطيع منهم ولا تحسب أنك آثمٌ بقتلهم، اقتلهم بضمير مرتاح؛ لأنهم سيموتون حتما، سيموتون بيدك، أو بيد غيرك، أو بالمرض، أو بالهَرم، هم سيموتون حتما؛ فلماذا تتوهم أنك آثم بقتلهم!

في يوم من الأيام، كان المتنبي يُسَامِر أحدَ الأمراء، وبدأ أحدهم يحكي عن إحدى معارك القرامطة، ويصف ما فيها من قتل وحشي مرعب. وهنا عَبّر بعض الحضور عن انزعاجهم وخوفهم. أما المتنبي فقد استهان بخوفهم واحتقره، وتوهّجت روحه بهذا الوصف المرعب الذي وجد نفسه فيه، فقال ـ ارتجالا ـ مقطوعة شعرية قصيرة تفضح شخصيته الدموية الداعشية، منها هذا البيت:

سقاني الله قبل الموت يوما * دمَ الأعداء من جوف الجروح

وهكذا يستمر المتنبي في مسيرة حياته وفي مسيرة شعره رجلَ عُنف وتوحّشٍ من الطراز الأول؛ حتى نصل إلى بيته الشهير الذي يمنح فيه المجد لـ"العنف"؛ تفضيلا له على المعرفة:

حتى رجعتُ وأقلامي قَوَائلُ لي * المجدُ للسيفِ ليس المجدُ للقلمِ

طبعا، نحن هنا لا نحاول الإحصاء عليه، فديوانه متخم بمثل هذه الأمثلة التي تُظْهِره بصورة "الداعشي" المُتَعطّش للقتل والتدمير؛ خاصة وأنه كان يحاول أن يتمثل شعره مَسْلكيا، فحياته هي منبع شعره، بقدر ما كان شعره هو منطق حياته. وكلنا يعرف أن طابع العنف طبع كل مراحل حياته، منذ صباه الأول وحتى تراجيديا يومه الأخير المشبوب بروح التحدي أو بروح الانتحار، والذي انتهى بمشهد عنف دام كان هو ضحيته الأولى.

أخيرا، ليس المقصود وضع شاعرنا الرائع/ المتنبي في قفص الاتهام، وإنما المقصود وضع ثقافتنا التي يُمَثّلها المتنبي أفضل تمثيل في قفص الاتهام. داعشية المتنبي من داعشية ثقافتنا الموروثة التي يجب أن نتحرر منها. هذا ما أردته في هذا المقال والذي قبله، وأيا كان الأمر، فهذه ليست إلا إطلالة عابرة على مشهد العنف في ثقافتنا؛ حتى ندرك ضرورة نقده، وأن نقده في الراهن الثقافي والراهن المسلكي يبدأ من تشريح هذه الثقافة العنفية الراسخة ذات التاريخ الطويل. هذه ثقافة لا بد من تشريحها منذ إرهاصاتها الأولى، وحتى هذه اللحظة؛ لنكون واعين بأعطابنا الثقافية التي تنخر في أعماق وعينا. ومن ثم تقديم البدائل التنويرية ذات الطابع الإنساني وتدعيمها لتحتل مكان الريادة في فضاء الوعي.

الحرة

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث

اتصل بنا

*
*
*