شرعنة حكم المتغلب والوراثة السياسية... تأثيرات معاوية في العقل السياسي الإسلامي - مقالات
أحدث المقالات

شرعنة حكم المتغلب والوراثة السياسية... تأثيرات معاوية في العقل السياسي الإسلامي

شرعنة حكم المتغلب والوراثة السياسية... تأثيرات معاوية في العقل السياسي الإسلامي

محمد يسري:

 

من بين جميع الشخصيات التي ظهرت على مسرح الأحداث السياسية في القرن الأول الهجري، حظيت شخصية الخليفة الأموي الأول معاوية بن أبي سفيان بمكانة مهمة ومؤثرة في العقل السياسي الإسلامي الجمعي.

معاوية الذي نقلت المصادر التاريخية الإسلامية، ومنها البداية والنهاية لابن كثير، أخبار بعض النبوءات عن وصوله إلى الحكم، منذ أن كان طفلاً، شكّل إحدى أبرز الحالات الجدلية في تاريخ الإسلام السياسي، فقد نال حظوة واعتباراً واضحين عند أهل السنّة الذين نظروا إليه على أنه صحابي عالي المقام، وملك حافظ على بيضة الدين ووحدة المسلمين وقوتهم، بينما اعتبرته فرق إسلامية كثيرة أخرى، كالشيعة والإباضية، رمزاً للاستبداد والطغيان والميكيافيلية السياسية التي لا تأبه للأخلاق ولا تلتفت إلى القيم الدينية.

الطريق إلى السلطة

تتفق المصادر التاريخية الإسلامية على أن معاوية وُلد قبل البعثة النبوية بعدة سنوات، ولكنه لا يكاد يظهر على مسرح الأحداث السياسية في الفترة المكية على الإطلاق، وهو الأمر الذي يمكن تفسيره بصغر سنه.

ويحيط بتوقيت إسلامه الكثير من الجدل وتختلف فيه الآراء. المشهور أنه أسلم مع أبيه أبي سفيان بن حرب وأمه هند بنت عتبة، في العام الثامن للهجرة، عقب فتح مكة، وإنْ كانت هناك روايات أخرى تفيد بأن إسلامه جرى قبل ذلك.

من تلك الروايات ما أورده ابن سعد في "الطبقات الكبرى"، عن لسان معاوية نفسه، من أنه أسلم وقت صلح الحديبية في العام السادس للهجرة، وما ذكره شمس الدين الذهبي في "سير أعلام النبلاء" من أنه أسلم في العام السابع للهجرة، ولم يمنعه وقتها عن الالتحاق بالرسول سوى خوفه من أبيه.

الإشكالية المتعلقة بتوقيت إسلام معاوية ستصير في ما بعد علامة فارقة في تاريخ المجادلات المذهبية السياسية حول شخصيته، إذ سيقول الشيعة إنه لم يسلم إلا يوم الفتح، خوفاً من القتل، ومن هنا سيشككون في صحة إيمانه، ويقدحون في أهليته للخلافة، بينما سيؤكد أهل السنّة على قِدم إسلامه لإبعاده عن دائرة طلقاء مكة، ولرفع الحرج عن شرعية حكمه.

يذكر الطبري في "تاريخ الرسل والملوك" أن معاوية صاحب أخاه يزيد في قتال المرتدين في زمن الخليفة الأول أبي بكر الصديق، ثم شارك في الحروب التوسعية العربية على الجبهة الشامية.

وفي عهد عمر بن الخطاب، تولى معاوية إمارة مدينة دمشق، عقب وفاة أخيه في طاعون عمواس سنة 18هـ، ويبدو أنه حقق نجاحاً باهراً في إدارة شؤونها، حتى أوكل إليه الخليفة الثالث عثمان بن عفان في ما بعد مهمة حكم جميع المدن الشامية، حسبما يذكر أبو بكر بن العربي في كتابه "العواصم من القواصم".

يبدأ الدور السياسي الأكبر لمعاوية بالظهور مع حادثة مقتل عثمان على يد ثوار الأمصار في نهايات ذي الحجة من عام 35هـ، حين رفض، وكان والي الشام، مبايعة الخليفة الرابع علي بن أبي طالب، ودعاه إلى القصاص من قتلة عثمان، وأتى بقميص الخليفة المقتول وعلقه على منبر المسجد الجامع بدمشق، وطالب أهل الشام بالثأر له.

بعد ذلك، تتابعت الأحداث بسرعة، إذ دخل الخليفة ووالي الشام القوي في مواجهات حربية محتدمة، في موقعة صفين عام 37هـ، وتقاسما السيطرة على أقاليم الدولة الإسلامية، ولمّا اغتيل علي بن أبي طالب عام 40هـ، دخل معاوية في صراع قصير الأجل مع ابنه الحسن قبل أن يتفقا على الصلح في ربيع الأول من عام 41هـ، وهو العام الذي عُرف واشتهر بعام الجماعة.

بموجب هذا الصلح، تولى معاوية مقاليد الخلافة والسلطة، وأسس الدولة الأموية التي ستدوم أكثر من تسعين عاماً، حتى سقوطها على يد العباسيين عام 132هـ.

تأثير معاوية في العقل السياسي السنّي

يحتل معاوية مكانة مهمة ومعتبرة في العقل السياسي السنّي الجمعي، إذ اتخذ عدداً من المواقف التي اعتُبرت في ما بعد مرجعاً ومعياراً لا غنى عنه عند أهل السنّة تحديداً.

ما قام به من رفض لمبايعة علي بن أبي طالب، وخوضه الحرب طمعاً بالسلطة، صار أحد الأدلة المهمة التي استند إليها أهل السنّة والجماعة لإثبات شرعية الحاكم المتغلب، والذي يصل إلى الخلافة عن طريق الشوكة والقوة، بحسب ما يذكر الماوردي في كتابه "الأحكام السلطانية".

أيضاً، كان لما قام به من تعيين ابنه يزيد، في منصب ولاية العهد، أثر مهم في العقل السياسي السنّي، فرغم تعدد طرائق اختيار الخليفة عند أهل السنّة، إلا أن طريقتي الحاكم المتغلب وولاية العهد على وجه الخصوص صارتا الأكثر شيوعاً وتطبيقاً عبر التاريخ الإسلامي الطويل، ويظهر ذلك بشكل واضح من خلال القراءة السريعة لظروف تعيين الخلفاء في العصور الأموي والعباسي والعثماني.

المصادر السنّية عملت على تبرير بعض الاتهامات التي وُجهت لمعاوية في سياق عمله السياسي، ومن ذلك إقدامه على قتل حجر بن عدي الكندي، والذي كان من كبار شيعة علي بن أبي طالب في الكوفة. فقد ذكر ابن حنبل في مسائله رواية تفيد بأن معاوية استشار الكثير من التابعين الأخيار من أهل الشام، ولم يأمر بقتل حجر إلا بعد أن أشاروا عليه بقتله، كما أنه ندم على ذلك في ما بعد بشدة، حسبما يذكر الذهبي في سيره.

أما في ما يخص منح ولاية عهده ليزيد، فإن عبد الرحمن بن خلدون فسرها بالحرص على وحدة المسلمين والخوف من افتراق كلمتهم، فقال في مقدمته: "الذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون من سواه إنما هو مراعاة المصلحة في اجتماع الناس، واتفاق أهوائهم باتفاق أهل الحل والعقد عليه حينئذ من بني أمية، إذ بنو أمية يومئذ لا يرضون سواهم، وهم عصابة قريش وأهل الملة أجمع، وأهل الغلب منهم، فآثره بذلك دون غيره ممن يظن أنه أولى بها، وعدل عن الفاضل إلى المفضول حرصاً على الاتفاق واجتماع الأهواء الذي شأنه أهم عند الشارع".

عملت المصادر السنّية على شرعنة حكم معاوية من خلال تأكيدها على بعض مناقبه، من ذلك ما ذكره ابن كثير من أنه كان من ضمن كتبة الوحي الذين استعملهم الرسول في كتابة سور القرآن، كما أنه كان خالاً للمؤمنين، وذلك بسبب أخوته لرملة بنت أبي سفيان، زوجة الرسول.

وتزخر المتون الحديثية السنّية بالأحاديث النبوية التي تبرز فضل معاوية، ومن ذلك أن الرسول أعطاه سهماً في إحدى الغزوات وقال له: "خذ هذا السهم حتى تلقاني به في الجنة"، حسبما ورد في "تاريخ دمشق" لابن عساكر، وما ذكره الترمذي في سننه من دعاء الرسول لمعاوية: "اللهم اجعله هادياً مهدياً".

أيضاً، حرصت الكتابات السنّية على الإشادة بحسن خصال معاوية، فعلى سبيل المثال صنف ابن أبي الدنيا كتاباً كاملاً وسماه "حلم معاوية"، جمع فيه عشرات الأقوال في حلمه وسعة صدره، كما اتفق مؤرخو السنّة على وصفه بالكرم والسخاء، خصوصاً مع أعدائه ومنافسيه على السلطة، ومن ذلك ما ذكره ابن عساكر من أنه أمر لعبد الله بن الزبير بمئة ألف درهم، وما قاله ابن كثير من أنه أهدى للحسن بن علي الأموال التي كانت في بيت مال الكوفة، كما أنه منح للحسين بن علي قطعة أرض تنازع عليها مع الوليد بن عتبة، والي المدينة.

وفي السياق نفسه، أبرزت المصادر التاريخية ذات الخلفية السنّية الدور الكبير الذي لعبه الخليفة الأموي الأول في تقوية الصف الإسلامي، ومواصلة التوسعات الحربية، والبحرية منها على وجه الخصوص.

غزا معاوية جزيرة قبرص عام 28هـ، واستولى على صقلية عام 31هـ، بحسب ما يذكر ابن كثير في" البداية والنهاية"، كما كان صاحب دور كبير في انتصار المسلمين على الروم في موقعة ذات الصواري عام 34هـ، وهي المعركة البحرية الأولى في تاريخ الإسلام، إذ جهز أعداداً ضخمة من السفن المقاتلة، حسبما يذكر ابن الأثير في كتابه "الكامل في التاريخ".

أما أهم المناقب الحربية التي نُسبت لمعاوية، فهي تجهيزه لأول الجيوش الإسلامية التي حاصرت القسطنطينية، عاصمة البيزنطيين عام 53هـ، واعتُبر ذلك العمل شهادة عظيمة له، بموجب الحديث الذي خرجه البخاري في صحيحه، عن الرسول: "أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِي يَغْزُونَ مَدِينَةَ قَيْصَرَ مَغْفُورٌ لَهُم".

ولخص شمس الدين الذهبي في سير أعلام النبلاء، وجهة النظر السنّية في شخصية معاوية، بقوله: "إنْ كان غيره من أصحاب رسول الله خيراً منه بكثير، وأفضل، وأصلح، فهذا الرجل ساد وساس العالم بكمال عقله، وفرط حلمه، وسعة نفسه، وقوة دهائه ورأيه، وله هنات وأمور، والله الموعد، وكان محبباً إلى رعيته".

أهم المطاعن السياسية في معاوية

تعرضت شخصية معاوية بن أبي سفيان للكثير من الطعون والانتقادات من جانب العلماء والباحثين المسلمين عبر العصور، ليس فقط من جانب الفرق والمذاهب غير السنّية، بل أيضاً من جانب الكثير من رموز المذهب السنّي نفسه.

يتفق الخوارج والشيعة الإمامية والزيدية على القول بتفسيق معاوية، وإسقاط عدالته. فعلى سبيل المثال، ذكر عبد الله بن إباض، وهو من مؤسسي المذهب الإباضي انتقادات لمعاوية، في رسالته التي بعث بها إلى الخليفة عبد الملك بن مروان، وورد فيها: "لا تسأل عن معاوية ولا عن عمله ولا صنيعه، غير أنّا قد أدركنا ورأينا عمله وسيرته في الناس ولا نعلم من الناس أحداً أترك للقسمة التي قسمها اللّه، ولا لحكم حكمه الله، ولا أسفك لدم حرام منه، فلو لم يصب من الدماء إلا دم ابن سمية (ويقصد به عمار بن ياسر الذي قُتل في معركة صفين) لكان في ذلك ما يكفّره، ثم استخلف ابنه يزيد فاسقاً من الناس لعيناً يشرب الخمر المكفر فيكفيه من السوء، وكان يتبع هواه بغير هدى من الله... فلم يخفَ عمل معاوية ويزيد على كل ذي عقل من الناس".

أما الشيعة بمختلف فرقهم ومذاهبهم، فقد وجهوا سهام النقد إلى معاوية بسبب موقفه المعادي لعلي بن أبي طالب وأبنائه وشيعته، فهو الذي خاض الحرب ضد علي في صفين، ثم خالف الاتفاق الذي عقده مع الحسن بن علي في 41هـ، والذي كان يقضي بترك أمر الخلافة شورى بين المسلمين من بعده، هذا بالإضافة إلى أنه حرّض على دس السم للحسن واغتاله، حسبما يذكر أبو الفرج الأصفهاني في "مقاتل الطالبيين".

من هنا يمكن تفهم ما أورده ابن أبي الحديد في كتابه "شرح نهج البلاغة"، عندما قال "أما غي معاوية فلا ريب في ظهور ضلاله وبغيه، وأما مهتوك ستره فإنه كان كثير الهزل والخلاعة صاحب جلساء وسمار ومعاوية لم يتوقر ولم يلزم قانون الرياسة إلا منذ خرج على أمير المؤمنين واحتاج إلى الناموس والسكينة وإلا فقد كان في أيام عثمان شديد التهتك موسوماً بكل قبيح وكان في أيام عمر يستر نفسه قليلاً منه إلا أنه كان يلبس الحرير ويشرب في آنية الذهب والفضة ويركب البغلات ذوات السروج المُحلاة بها وعليها جلال الديباج والوشي وكان حينئذ شاباً عنده نزق الصبا وأشر الشبيبة وسكر السلطان والإمرة ونقل الناس عنه في كتب السيرة أنه كان يشرب الخمر في أيام عثمان بالشام".

ومن الجدير بالذكر أن الكثير من الباحثين المسلمين المعاصرين من ذوي الخلفية السنّية انتقدوا توجهات معاوية السلطوية، فوصفوها بالمكيافيلية، واعتبروا أن فيها انحرافاً واضحاً عن القيم الأخلاقية التي كانت مُتبعة في العهدين النبوي والراشدي.

فعلى سبيل المثال، يذكر سيد قطب في كتابه "العدالة الاجتماعية في الإسلام" أنه "لما جاء معاوية، وصير الخلافة الإسلامية ملكاً عضوضاً في بني أمية، لم يكن ذلك من وحي الإسلام، إنما كان من وحي الجاهلية".

وذهب طه حسين في كتابه "الفتنة الكبرى" إلى أن الخليفة الأموي الأول كان ينتهز كل فرصة سانحة تقربه من حلمه في الاستئثار بالسلطة المطلقة، فقال: "معاوية لم يكن يريد أن يثأر لعثمان بمقدار ما كان يريد أن يصرف الأمر عن عليّ، وآية ذلك أن الأمر استقام له بعد وفاة عليّ رحمه الله ومصالحة الحسن إياه، فتناسى ثأر عثمان ولم يتتبع قَتَلتَه، إيثاراً للعافية وحقناً للدماء وجمعاً للكلمة".

رصيف 22

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث