مصطفى فتحي:
عام 2017، نذر المواطن المصري المسيحي ديفيد يوسف أن يتبرع براتب شهر كامل للكنيسة التابع لها إذا وجد فرصة عمل جيدة بعد تخرجه من كلية الهندسة بجامعة القاهرة، وحين التحق بوظيفة في إحدى شركات الإنشاءات الشهيرة، توجه للكنيسة وفي الصندوق المخصص للنذور وضع راتب أول شهر.
يقول يوسف لرصيف22 إنه شعر براحة كبيرة بعد إيفائه النذر، مضيفاً أنه منذ ذلك الحين وهو يشعر بأن النذر يحوّل أمنياته إلى حقيقة.
يوسف ليس المصري المسيحي الوحيد الذي يؤمن بأهمية النذور، ففي مصر يؤمن الملايين بهذا الأمر. وبحسب القمص (منصب كنسي يعادل منصب رئيس الدير) عبد المسيح بسيط كاهن كنيسة العذراء مريم الأثرية بمسطرد (إحدى مدن محافظة القليوبية المصرية)، فإن هناك نحو مليوني مصري يتوجهون للكنيسة هذه في شهر آب/أغسطس من كل عام للاحتفال بصوم السيدة العذراء مريم، منهم مسلمون يقدمون النذور للسيدة العذراء، طلباً للشفاء أو لتحسين أوضاعهم الحياتية، أو لأسباب أخرى فد يكون منها أن يوفق الله أولادهم في حياتهم.
يقول القمص بسيط لرصيف22 إن النذر هو هدية أو أُعطية ينذرها الشخص بهدف أن يشكر الله على نعمه وأعمال محبته التي يساعد بها الناس، مضيفاً أن النذر صورة من صور الشكر لله، ويمكن أن يوجه إلى الله بشكل مباشر عن طريق الكنيسة، أو بشكل غير مباشر عن طريق تقديمه إلى القديسين.
وتختلف النذور عن العشور والبكور، الأولى دفع 10 في المائة مما يكسبه المسيحي إلى الكنيسة، أما البكور فدفع أول مكسب يفوز به المسيحي للكنيسة، في حين أن النذور هي ما ينذره المسيحي إلى الرب ولا يتم احتسابه من العشور أو البكور.
والنذر بحسب القمص بسيط هو اتفاق بين المؤمن والله، شارحاً أن هناك شروطاً للنذور في المسيحية، أهمها أنه يجب الإيفاء بالنذر، إذ يشدد الكتاب المقدس على "أن لا تنذر خير من أن تنذر ولا توفي"، مضيفاً أنه يجب أن لا يتأخر صاحب النذر في الإيفاء بنذره، على أساس أن الكتاب يؤكد "إذا نذرت نذراً للرب إلهك فلا تؤخر إيفاءه".
وهناك شروط للنذر في المسيحية، أهمها أن يكون الشخص الناذر بالغاً سن الرشد، وأن يكون مدركاً للشيء الذي ينذره للرب، أي أن يعرف تكلفته وهل يستطيع الإيفاء بهذا النذر أم لا. للمثال يجب أن لا ينذر شخص ما شراء جنيهات ذهبية ويتبرع بها للكنيسة وهو فقير، ويجب أن تكون نيته من النذر خالصة للرب وليس لأسباب أخرى، فإذا نذر مثلاً أن يصوم، فيجب أن يكون هذا الصوم للرب، وليس لكي يخفض وزنه مثلاً، كما يجب أن يكون الشيء المنذور لا يخالف وصايا الرب، بمعنى أن يكون هذا الشيء يحبه الله، مثل أن ينذر الشخص أن يتوجه للكنيسة مرتين أسبوعياً أو يعطي جزءاً من ماله للفقراء في الكنيسة.
ووفق القمص بسيط، فإن المصريين من أكثر الشعوب التي تهتم بالنذور، سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين، كاشفاً أن هناك الكثير من المصريين المسلمين الذين يتوجهون أيضاً للكنائس بنذور مختلفة.
بحسب القمص بسيط، فإن النذر لا يشترط فيه أن يكون غالي الثمن، ومهما كان النذر فهو يجعل المؤمن يشعر براحة نفسية شديدة، حين يستطيع أن يوفيه بعد أن يحقق له الله ما كان يتمناه، مضيفاً أن ميزة النذر للكثيرين هي أنه مشروط بتحقيق ما يتمناه المرء، أي يرتبط إتمام النذر بأن يتحقق ما يتمناه الشخص، فإذا لم يتم ما طلبه الشخص من الرب فلا يلتزم الناذر بإيفاء نذره.
أشهر أشكال النذور في الكنائس المصرية
التبرع بالأموال للكنيسة ليس هو الشكل الوحيد للنذور لدى مسيحيي مصر، فهناك أشكال أخرى شهيرة للنذور، أبرزها التبرع بشموع للكنائس، إذ يقول المؤمن لله إنه لو تحقق له ما يتمنى فسيقوم بشراء شموع وإعطائها لكنيسته، هناك أيضاً من ينذر أن يتوقف عن فعل خطأ يقوم به دوماً في حياته لو حقق له الله ما يتمنى، مثل التوقف عن تناول الخمور، أو أن لا يمارس الجنس خارج إطار الزواج وهكذا، وهناك من ينذر أن يذبح عجلاً ويتبرع بلحمه للفقراء في المنطقة التي يعيش فيها.
وهناك شكل آخر للنذور هو مساعدة الناس بالعلم الذي يتفوق فيه الشخص صاحب النذر، فيمكن لمدرس لغة إنجليزية مثلاً أن ينذر أن يعطي دروساً لطلاب فقراء مجاناً لفترة معينة، حسب نذره، وهناك من ينذر أن يسجل بصوته كتباً للمكفوفين وهكذا.
في ما يتعلق بالنذور المالية التي تحصل عليها الكنائس، يؤكد القمص بسيط أن هناك آلية لحماية هذه الأموال من السرقة ولضمان عدم حدوث عمليات فساد تتعلق بها، مؤكداً أن هنالك لجنة خاصة تتولى إدارة أموال النذور، وتحديد أوجه إنفاقها.
مسلمون ومسيحيون في النذر سواء
بحسب هدى زكريا، أستاذة علم الاجتماع، فإن النذور عادة قديمة بدأت مع ظهور الديانات القديمة التي كان أساسها تعدد الآلهة، وكان الهدف منها التقرب من هذه الآلهة بهدف جلب النفع أو الحماية من أي شر، مضيفةً أن الإنسان بطبعه، خصوصاً الشخص الروحاني، يؤمن بأن هناك قوة أكبر منه يمكنها أن تحميه وتحافظ عليه، لذلك يتقرب إليها بهدية تأخذ شكل النذر.
وتؤكد زكريا أن المصريين القدماء عرفوا النذور وتوارثوا هذه العادة حتى اليوم، مؤكدة أن المسلم والمسيحي يختلفان في اسم الدين لكنهما يتفقان في إيمانهما الشديد بفكرة النذور. لذا هناك صناديق للنذور حيث يوجد أولياء الله الصالحين والقديسين.
وتشدد زكريا على أن الشخصية المصرية تؤمن بالنذور لأنها شخصية متدينة بطبيعتها، وتؤمن بقدرة الله وأوليائه الصالحين والقديسين على حمايتها من أي ضرر يمكن أن يقع عليها، مؤكدة أن الأمر ظاهر جداً لدى الطبقات الفقيرة، وبدرجة أقل بين المتعملين، وهو ما يثبت أنه أمر مرتبط بالشخصية المصرية أكثر مما يرتبط بالمستوى الاجتماعي أو بالمستوى العلمي.