صَبٌّ للزيت على النار - برَّأ مجلس العلماء الإندونيسي -وهو أعلى هيئة إسلامية على مستوى البلاد- داعية مسلماً من تهمة التجديف والإساءة للديانة المسيحية. حُكمٌ ليس سوى جزء من تطورات مفزعة، في بلد لطالما تم الإشادة بكونه نموذجا للإسلام المعتدل، وفق ما ينقل الصحفي الألماني ماركو شتالهوت من جاكرتا، العاصمة الإندونيسية.
انتشر في إندونيسيا مقطع فيديو للداعية الإسلامي الأكثر شعبية في البلاد، الأستاذ عبد الصمد. في هذا التسجيل، تم سؤاله من قِبَل مستمعة: "لماذا دائمًا تتصبَّب عرقًا من الخوف عند رؤيتها الصلبان المسيحية؟". فأجابها أنَّ هذا يعود إلى كون الصلبان المسيحية مسكونة بأرواح شريرة. وبعبارة أخرى: الصلبان من الشيطان. يعتبر الأستاذ عبد الصمد عضوًا بارزًا في نهضة العلماء، وهي المنظمة "الأكثر اعتدالًا" من بين المنظمتين الجماهيريَّتين المسلمتين "المعتدلتين" في إندونيسيا.
وقد كان طيلة خمسة أعوام عضوًا في قيادتها الإقليمية في مقاطعة رياو. وكان يوجد في حسابه على موقع إنستغرام حتى إغلاقه المؤقَّت في هذا العام 2019 متابعون أكثر بكثير من متابعي أي حساب آخر على مواقع التواصل الاجتماعي لأي زعيم ديني آخر في البلاد. ومن أجل الدفاع عن الفيديو الذي ظهر، صرَّح الأستاذ عبد الصمد بأنَّه قد تحدَّث داخل مؤسَّسة إسلامية وأنَّ جمهوره كان يتكوَّن من مسلمين فقط. وأضاف بما أنَّه لم يكن يوجد أي مسيحيين، فليس من الممكن أنَّ يكون قد أساء إلى المسيحيين، وأنَّه - بالمناسبة - قد أجاب فقط على سؤال.
ومن جانبهم أقام المسيحيون الإندونيسيون دعوى ضدَّ الأستاذ عبد الصمد بتهمة التجديف - إذ إنَّ قانون التجديف والإساءة للذات الإلهية المحلي يحمي رسميًا جميع الأديان المُعترف بها حكوميًا. وعلى الفور ردّ الإسلاميون بدعوى مضادة. كان مفادها أنَّ مجرَّد اتِّهام هذا الداعية المحترم بأنَّه قد أساء إلى الذات المسيحية فهذا يمثِّل إهانة. قبل بضعة أيَّام، ناقش مجلس العلماء الإندونيسي MUI هذه القضية. ولم يتبنَّ هذا المجلس حرفيًا تقريبًا الدفاع عن الأستاد عبد الصمد وحسب، بل دعا منتقديه وبشدة إلى الالتزام بالهدوء.
تنامي مناخ الخوف: "كان تزايد التعصُّب في البلاد واضحًا للجميع. وقد ظهر مرارًا وتكرارًا في استطلاعات الرأي - وبطريقة بشعة في هجوم على ثلاث كنائس وقع في مدينة سورابايا الإندونيسية في شهر أيَّار/مايو 2018، وقتل فيه انتحاريان مسلمان خمسة عشر شخصًا على الأقل. كذلك يظهر التعصب في الحياة اليومية"، مثلما يكتب ماركو شتاهلوت.
تطوُّر مثير للقلق
هذا القرار الصادر عمليًا عن أعلى مرجعية دينية في إندونيسيا لا يُظهر فقط وبكلِّ وضوح مدى طغيان الطبيعة الأصولية على الدولة، بل من الممكن حتى أن تكون له عواقب وخيمة على التعايش بين الأديان في هذه الدولة ذات أكبر عدد من السكَّان المسلمين في العالم.
لقد أشار في الحقيقة المسلمون المعتدلون وكذلك أتباع الأقليات إلى انتشار خطابات الكراهية الموجَّهة ضدَّ المسيحيين والأقليات الأخرى في إندونيسيا، سواء على الإنترنت أو في المساجد.
لا يزال من الممكن رؤية الكثير من خطابات الكراهية على شبكة الإنترنت - وإن كانت يتم التعبير عنها بعبارات أقلّ حدة نوعًا ما. لا يوجد أي تفسير آخر للزيادة السريعة في التعصُّب خلال السنوات الأخيرة. ومع تبرئة الداعية الإسلامي، الذي قام بتشويه سمعة المسيحية وشيطنتها حرفيًا، يبدو أنَّ هذا التعصُّب قد وصل الآن إلى مستوى جديد. فعلى أية حال يبدو أنَّ نشر خطابات الكراهية ضدَّ المسيحيين - على الأقل عندما يحدث داخل المساجد والمؤسَّسات والمرافق الإسلامية - بات يحظى بمباركة شبه رسمية من قِبَل مجلس العلماء الإندونيسي.
ولكن حتى قبل صدور قرار المجلس، كان تزايد التعصُّب في البلاد واضحًا للجميع. وقد ظهر مرارًا وتكرارًا في استطلاعات الرأي - وبطريقة مروِّعة في الهجوم على ثلاث كنائس وقع في مدينة سورابايا الإندونيسية في شهر أيَّار/مايو 2018، وقتل فيه انتحاريان مسلمان خمسة عشر شخصًا على الأقل. كذلك يظهر التعصب في الحياة اليومية.
"الفصل العنصري الديني"
فقط في شهر تمُّوز/يوليو (2019)، قِيْل لرسَّام كاثوليكي ولأسرته بعد انتقالهم إلى بلدة كاريت في وسط جزيرة جاوا إنَّ عليهم الرحيل من جديد: ففي هذه القرية يمكن فقط للمسلمين شراء أو استئجار منازل.
وفي شهر كانون الأوَّل/ديسمبر (2018)، قام أهالي قرية أخرى في جزيرة جاوا بإزالة صليب بالمنشار كان على قبر رجل مسيحي وقالوا لأرملته إنَّ المقبرة مخصَّصة للمسلمين فقط. وفي شهر آب/أغسطس الحالي (2019)، تعرَّضت الصلبان في مقبرة أخرى في وسط جاوا لاقتلاع بعضها من القبور ولإتلاف وإحراق بعضها الآخر - وهذه مجرَّد حالة واحدة من سلسلة كاملة من عمليات تخريب المقابر المسيحية في هذا العام 2019.
وعلى المدى الطويل ربما يكون الخطر الأكبر الذي يهدِّد تماسك هذا البلد المتعدِّد الأديان هو: ظهور مجمَّعات سكنية في جميع أنحاء إندونيسيا تعتمد على الشريعة الإسلامية ولا يجوز لغير المسلمين السكن فيها - وهذا هو الفصل العنصري الديني.
معايير مزدوجة
والآن بات يمكن للمرء في أكبر دولة إسلامية في العالم، كانت تتم الإشادة بها حتى وقت قريب بكونها نموذجًا للإسلام المعتدل، أن يقول عن المسيحيين إنَّهم من عمل الشيطان - من دون التعرُّض لعقاب.
على سبيل المقارنة: في شهر أيَّار/مايو الماضي فقط (2019)، رفضت المحكمة العليا في إندونيسيا إستئناف الحكم الصادر على امرأة بوذية إندونيسية بالسجن لمدة سنة ونصف؛ كانت قد اشتكت في حديث منفرد خاص مع أحد الجيران من أنَّ صوت الأذان المنقول من المسجد المحلي عبر مكبِّرات الصوت قد أصبح مرتفعًا شيئًا ما.
حملة تشهير ذات عواقب بعيدة المدى: حُكم في عام 2017 على حاكم جاكارتا المسيحي السابق، باسوكي تجاهاجا بورناما المُلقَّب بـِ "أهوك"، وهو من حلفاء الرئيس ويدودو، بالسجن لمدة عامين بتهمة الإساءة للقرآن في محاكمة تعرَّضت لانتقادات شديدة. وقد خسر إعادة انتخابه.
وبالإضافة إلى ذلك فقد حُكم على حاكم جاكارتا السابق (باسوكي تجاهاجا بورناما المُلقَّب بـ"أهوك")، الذي كان ذات يوم أكثر سياسي مسيحي معروف في البلاد، بالسجن لمدة عامين لأنَّه قال في خطاب أثناء حملته الانتخابية: يجب على مستمعيه ألَّا ينخدعوا بآية قرآنية يُقال إنَّها تُحَرِّم على المسلمين التصويت لغير المسلمين.
وفي كلتا الحالتين - وكذلك في العديد من الحالات الأخرى - تبنى على التوالي مجلس العلماء المسلمين الإندونيسي على الصعيدين الإقليمي والوطني موقفًا صارمًا، افتقده مجلسُ العلماء الإندونيسي بشكل ملفت في تعامله مع الخطاب الخطير المعادي للمسيحية الذي ألقاه الداعية المسلم الأستاذ عبد الصمد.
ماركو شتالهوت
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر : فرانكفورتر ألغماينة تسايتونغ
قنطرة