محمد السماك:
عندما قرر الاتحاد الأوروبي وضع مشروع الدستور الموحد للاتحاد، طلب بابا الفاتيكان يوحنا بولس الثاني من اللجنة المكلفة بوضع المشروع، التأكيد على الهوية المسيحية لأوروبا. يومها رفضت اللجنة على لسان رئيسها فاليري جيسكار ديستان (الرئيس الفرنسي الأسبق). خفف الفاتيكان من طلبه وتمنى الإشارة على الأقل إلى الثقافة المسيحية وليس إلى الهوية. ومرة ثانية، رفضت اللجنة. جدد الطلب البابا بنديكتوس السادس عشر مقترحاً نصاً تخفيفياً يقول: إن المسيحية تشكل جزءاً من الثقافة الأوروبية. ولكن اللجنة لم تأخذ بالاقتراح. وكان قرارها بالإجماع عدم الإشارة إلى أي دين في الدستور الأوروبي.
تغيّر الأمر الآن. لا يعود ذلك إلى إعادة اكتشاف المسيحية وحبّها، بل إلى الاصطدام بالمهاجرين المسلمين. ولعل أبرز معالم الوضع الجديد تظهر في ألمانيا، وتحديداً في مقاطعة بافاريا، وعاصمتها مدينة ميونيخ. فقد أصدر حاكم الولاية قراراً بوجوب تعليق الصليب في الإدارات الحكومية، وفي صفوف المدارس، وكذلك في غرف المستشفيات والمرافق العامة التابعة للدولة.
أدى تنفيذ القرار إلى انفجار مشكلة حادة، ليس مع المسلمين الذين يبلغ عددهم في ألمانيا حوالي الخمسة ملايين مواطن ألماني، ولكن مع النظام المدني الذي تبنّته ألمانيا منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهو نظام يقوم على قاعدة فك الارتباط بين الدين والدولة.
وللالتفاف على هذه المشكلة، أعلن حاكم الولاية أن الصليب ليس رمزاً دينياً، ولكنه رمز للهوية الوطنية الاجتماعية والثقافية للمجتمع الألماني.
غير أن هذا التبرير فتح في وجهه عدة جبهات في وقت واحد. الجبهة الأولى مع الكنيسة ذاتها التي تعتبر الصليب رمزاً دينياً، وبالتالي ترفض استغلاله في التنافس السياسي والحزبي.
والجبهة الثانية مع المواطنين اليهود الذين يعتبرون القبعة الصغيرة رمزاً دينياً لهم، ولكن لابسيها يتعرضون للتجريح والإساءة. والجبهة الثالثة مع المواطنين المسلمين (معظمهم من أصول تركية) والذين يعتبرون حجاب المرأة واجباً دينياً. ويقول مسلمو ويهود ألمانيا إنه إذا كانت هناك مساواة في المواطنة، وفي احترام الحريات الدينية، فلماذا يُسمح بتعليق الصليب ويُمنع الحجاب ويتعرض لابس القبعة اليهودية للامتهان؟
وفي الواقع ليس اليهود هم الهدف، بل لم يعودوا هدفاً، فقد دفعوا في العهد النازي ثمناً غالياً جداً بسبب الكراهية.
والمسلمون الألمان هم الهدف، فوزير الداخلية الألماني السابق توماس مايزر قال:«إن ألمانيا ليست البرقع» (ولكن من قال له إن الإسلام هو البرقع؟). وذهب خليفته وزير الداخلية الحالي هورست سيهوفر إلى أبعد من ذلك معلناً: «إن الإسلام ليس جزءاً من ألمانيا».
وتؤكد دراسة إحصائية أجرتها مؤسسة دولية أن واحداً من كل اثنين من الألمان يعتبر الإسلام مناقضاً للثقافة الألمانية. ولكن هؤلاء المسلمين قدموا إلى ألمانيا من تركيا في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، وأصبح أولادهم وأحفادهم مواطنين ألمان. ولكن بموجب الإجراءات الجديدة التي أقرّتها حكومة بافاريا مثلاً، فإن على طلاب المدارس أن يبدؤوا النشاط المدرسي بصلاة مسيحية مشتركة. وتقدر نسبة الطلاب المسلمين في إحدى المدارس التي تعمل بهذا النظام الجديد في بافاريا بحوالي سبعة بالمائة من مجموع الطلاب.
وخلافاً لموقف لجنة الدستور الأوروبي الموحد، فإن المجلس الأوروبي لحقوق الإنسان، أصدر في عام 2011 حكماً أقر بموجبه شرعية تعليق الصليب في المؤسسات العامة باعتباره رمزاً من رموز الثقافة العامة. واعتمد الحكم على قاعدة أنه من حق أي دولة أن تتصرف في ضوء تقاليدها وتاريخها.. يقدم هذا الحكم المبررات القانونية لإصدار أحكام تتناقض مع المبدأ العام بفصل الدين عن الدولة. من هنا السؤال: هل تُغير الإسلاموفوبيا وجه أوروبا من جديد؟
*كاتب لبناني