سراج عاصي:
عرّف مكتب تعداد الولايات المتحدة "الأبيض" بأنه "شخص ينتمي إلى أي من شعوب أوروبا، الشرق الأوسط، أو شمال أفريقيا." في تعداد 2020 القادم، سيجد نحو أربعة ملايين عربي أمريكي أنفسهم أمام خيارين لا ثالث لهما في خانة الاختيار المتعلقة بالعرق أو الجنس: "أبيض"، أو "آخر".
لعلّنا لا نحتاج إلى تحليلٍ كثير كي ندرك أن عرب أمريكا ليسوا "بيضاً." أنا عربي أمريكي، وأعرف أني لست أبيض بمجرد النظر إلى نفسي في المرآة وتمعن بشرتي القمحية وعيني السوداوين. غير أنّ اختيار "أبيض" في هذا السياق ليس مجرد كذبة "بيضاء"، بل كذبة رسمية مصادق عليها من جانب الحكومة الأمريكية.
ويبقى السؤال: كيف ومتى أصبح عرب أمريكا "بيضاً"؟
تعود البداية إلى مطلع القرن العشرين، حيث هاجر مئات آلاف المهاجرين العرب إلى الولايات المتحدة، قادمين من سوريا الكبرى، ومن قرى مسيحية في لبنان تحديداً، هروباً من شبح الحرب والمجاعة والاستبداد العثماني.
غير أن الولايات المتحدة في ذلك الوقت، كما هي اليوم، لم تكن واحةً للتعددية العرقية. ففي عام 1882، أقرّ الكونغرس الأمريكي قانوناً يمنع هجرة وتجنيس الآسيويين من أصول صينية، ثم أضاف بعد ذلك تعديلات قانونية جديدة تمنع جنسيات آسيوية أخرى من الهجرة والتجنيس.
في محاولة لتفادي التصنيف "آسيوي"، بدأ المهاجرون العرب بحملة ضغط لإقناع مكتب تعداد الولايات المتحدة بتسجيلهم تحت التصنيف "أبيض". في البداية تم تعديل تصنيف العرب من "أتراك في آسيا" إلى "سوريون" في عام 1952، وبعد عقود من الضغط السياسي والمعارك القانونية، تم الاعتراف رسمياً بالمهاجرين العرب بانتمائهم للعرق "الأبيض"، كي ينضموا إلى قائمة طويلة من "الأجناس البيضاء"، وتشمل أوروبا وشمال ووسط وغرب آسيا.
اليوم، وبعد سبعة عقود من "التبييض" الرسمي، بدأ الجيل الجديد من العرب الأمريكيين بإعادة التفكير في ماهية تصنيفهم "الأبيض"، باعتباره تمثيلاً مغلوطاً لهويتهم الإثنية والقومية. وكي ندرك مدى المفارقة الكامنة في هذا التصنيف، يكفي النظر إلى الحملة العنصرية التي شنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، المعروف بدعمه لجماعات القوميين البيض، ضدّ النائبة الأمريكية من أصول عربية "رشيدة طليب"، كان آخرها دعوة طليب إلى "العودة إلى بلدها".
إذن لم يجنِ العرب في أمريكا من هذا التصنيف لا امتيازات الأغلبية البيضاء، ولا حقوق الأقليات الملونة، ولعل ذلك يفسر لماذا بادر ناشطون في الجالية العربية الأمريكية مؤخراً إلى الضغط على مكتب تعداد الولايات المتحدة لتخصيص خانة عرقية جديدة في تعداد 2020 للمهاجرين من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أو ما يعرف بخانة "مينا." لم تثمر جهودهم عن شيء حتى الآن، وذلك لأن إضافة خانة جديدة سيتطلب إعادة نظر شاملة في التعريفات الفدرالية للأجناس، وما يترتب على ذلك من تبعات سياسية وتشريعية تتعلق بمسألة الهوية الإثنية وقوانين عدم التمييز.
ولعّل اقتراح الخانة الجديدة أشبه بسيف ذي حدين، فمن جهة، ثمة امتيازات حقيقية من وراء التصنيف الجديد للجالية العربية الأمريكية، مثل حماية قانون حق الانتخاب والتمثيل التشريعي على مستوى الكونغرس والولايات. كما أنّ جمع إحصاءات ديمغرافية دقيقة حول العرب في أمريكا سيساهم في تعزيز عملية التنظيم والتأثير السياسي للجالية، زيادة المخصصات والخدمات الحكومية، إلغاء الفوارق الاجتماعية والاقتصادية، ناهيك عن قوانين التمييز الإيجابي في مجالات التوظيف، التعليم والبحث العلمي، الصحة، والسكن.
من جهة أخرى، تبدو الخانة الجديدة عرضة للاستغلال السياسي ضدّ المهاجرين العرب والمسلمين في مجال سياسات الهجرة وقوانين الأمن والرقابة، ولا سيما في ظلّ إدارةٍ أمريكية تحاول تسييس التعداد لمعاقبة واستهداف المهاجرين وفقاً لديانتهم ومواطنهم الأصلية. فالجالية العربية والمسلمة في أمريكا لا تزال تعاني من إرث أحداث الحادي عشر من أيلول وقوانين الرقابة العنصرية التي فرضتها إدارة جورج بوش عليها. ولعل ترامب لا يحتاج إلى ذريعة قانونية لانتهاك الحقوق المدنية للعرب والمسلمين، غير أنّ التصنيف الجديد سيوفر مناخاً خصباً لمزيد من التمييز العرقي والديني.
يبدو أن الجالية العربية في أمريكا منقسمة على نفسها بشأن التصنيف الجديد. فهناك من يعتبره خطوة ضرورية في عملية التعدد العرقي والإثني في البلاد، ولا سيما في وقت عادت فيه جماعات القوميين البيض إلى الظهور، وهي جماعات لا تتردد في استهداف العرب والمسلمين في خطاباتها العنصرية.
ويرى آخرون أنّ الخانة الجديدة ستقود إلى نتائج مناقضة لهدفها الأصلي، وذلك من خلال الزجّ بأجناس وطوائف عرقية متنوعة، مثل العرب والإيرانيين واليهود والأقباط والبربر في خانة عرقية واحدة. بعبارة أخرى، لا تشكل الخانة الجديدة احتفاء بالتعددية العرقية بقدر ما تشكّل تمثيلاً مغالطاً لتلك التعددية. ففي نهاية الأمر، الشرق الأوسط مكان جغرافي، وليس عرقاً أو إثنية، وحتى إذا اعتبرنا العرق والهوية الإثنية معايير صالحة لتصنيف الشعوب في أيامنا، يبقى الشرق الأوسط من أكثر الأماكن تعدديةً في العالم.
ومع ذلك، نكرّر أن العرب ليسوا بيضاً، وربما آن الأوان أن يودع هذا التمثيل المغلوط في حاوية التاريخ.