عريب الرنتاوي:
قبل أيام، واجهني الزملاء في "راديو سوا" بجملة من الأسئلة والتساؤلات، دارت جميعها حول مآل الدعوات المتناسلة لـ"إصلاح الخطاب الديني"، وأين انتهت وماذا أثمرت؟.. هل ثمة جديد على هذا الصعيد، وهل يتناسب حجم "المُنجز" مع كثافة الدعوات وتعدد مصادرها؟.. ما هي العوائق والعراقيل المبثوثة على هذا الطريق، وما هي مسؤولية مختلف الأطراف (الحكومات، المؤسسة الدينية، المثقفين والمفكرين) عن التقصير في هذا المضمار..
أعدّ الزملاء جيدا للحوار وفتحوا نوافذ مهمة لإعادة طرح المسألة، وأحسب أن المقام يتسع لبعض الإضافات والتوضيحات، التي لا تسمح بها عادة أوقات البرامج الإذاعية والتلفزيونية وإيقاعاتها السريعة.
والحقيقة أن الدعوة لإصلاح (تجديد) الخطاب الديني في أزمنتنا الراهنة ليست وليدة هذه اللحظة في التاريخ العربي، فهي قديمة قدم مشاريع النهضة والتنوير، التي سبقت وأعقبت سقوط الخلافة العثمانية وانفكاك الدول والمجتمعات العربية تباعا عن سلطة "بابها العالي"، وهي إذ كانت تنتعش حينا على وقع الهزائم النكبات، مدفوعة بالحاجة والضرورة، فقد كانت تخفت أحيانا تحت الضغط والإكراه، بل والتهديد الذي يطاول حيوات مطلقيها.
ويجدر التنويه إلى أن هذه الدعوات في معظمها، صدرت عن مثقفين ومفكرين ورجال دين متنورين ونشطاء وناشطات، بعيدا عن "السلطة"، وغالبا في مواجهتها.. وسنكتفي في هذه المقالة، بوضع سبع نقاط على حروف مسألة "الإصلاح الديني":
أولا: إن الحديث عن "إصلاح الخطاب الديني"، وأحيانا "إصلاح خطاب الحركات الدينية"، غالبا ما يأتي بديلا عن البوح بالحاجة إلى إطلاق حركة "إصلاح ديني". فمنسوب الجرأة في تناول هذه المسألة مازال محدودا، وفي تراجع عموما، لا سيما بعد أن نجحت بعض الحركات المتطرفة في "تصفية" خصومها "المجددين" المتهمين بالزندقة والتجديف والخروج عن الملّة، وبعد خضوع كثير من الحكومات العربية لابتزاز جماعات الإسلام السياسي وميلها للتضحية بالمجددين والإصلاحيين والبراءة من أفكارهم وتقديمهم أكباش فداء على مذبح السلطة وحسابات بقائها وديمومتها.
ثانيا: إن الدعوات التي تناسلت مؤخرا عن حكومات وحكام عرب لإصلاح الخطاب الديني، إنما جاءت في سياق الصراع على السلطة مع جماعات الإسلام السياسي، وتحديدا الإخواني، وأحيانا في الحرب الدائرة ضد الإرهاب الذي عصف ببعض الدول والمجتمعات ويتهدد بعضها الآخر، وغالبا من باب الرد على دعوات "الخروج على الحاكم"، التي انتشرت مؤخرا، في أوساط إخوانية وسلفية سواء بسواء... فما يهم الحكومات والحكام من دعاة "إصلاح الخطاب" هو "شرعنة" الحكم وإدامة السلطة، لا سيما وأن كثيرين منهم، قفزوا إلى سدة الحكم على ظهر دبابة أو بفعل انقلاب ويواجهون "أزمة شرعية" تفاقمت كثيرا على وقع ثورات الشارع العربي وانتفاضاته المتلاحقة والمتنقلة من عاصمة إلى أخرى.
ثالثا: ومن اللافت أن هذه الحكومات اعتمدت في صراعها ضد جماعة الإخوان المسلمين، على جماعات سلفية أكثر تشددا اجتماعيا وثقافيا وعقائديا، فالأولى تنظيم "مديني" أغلب أعضائه ومؤازريه من الطبقة الوسطى ويتطلع للوصول إلى الحكم أو المشاركة فيه، فيما الثانية أقرب لـ"فقه البداوة" وقواعدها مُستلّة من البيئات "الطرفية" و"القبائلية" ونفوذها يكاد ينحصر في المجتمعات المهمشة على حواشي المدن الكبرى، بيد أن معظمها لا يبدي اهتماما بالسياسة ويرى "أن من السياسة ترك السياسة"، لكنها في الوقت ذاته أسهمت، وما زالت تسهم، في "بدونة" مجتمعاتنا وأسقطت عليها قراءات "بدوية" "صحراوية" للإسلام، بعيدة عن إرثها وتراثها، بل وغريبة عليه...
يدلل ذلك، على أن الحكومات والحكام، يخشون "الإسلام الأكثر اعتدالا" طالما أن الاعتدال هو طريق الإسلاميين للمشاركة السياسية، أو "المغالبة" إن أمكن، وأنهم لا يترددون في التحالف مع قوى أكثر تخلفا وظلامية طالما أنها لا تضع مسألة السلطة على جدول أعمالها، حتى وإن ترتب على ذلك تدمير البنى الاجتماعية والثقافية المتوارثة وخلق بيئة اجتماعية حاضنة للأفكار الظلامية المتطرفة اجتماعيا وحضاريا، وتلكم على أية حال، قصة "الحلف غير المقدس" الذي نشأ منذ مطلع ثمانينيات القرن الفائت بين كثير من الأنظمة العربية وجماعات سلفية من مدارس مختلفة.
رابعا: ثمة حدود ضيقة لا يستطيع معظم الحكام تخطيها في دعواتهم الإصلاحية والتجديدية، طالما أنهم يفتقدون للشرعية الشعبية وشرعية صناديق الاقتراع، ولا يكفون عن البحث عن "مصادر أخرى للشرعية" من مثل ادعاء "إمارة المؤمنين" و"النسب الشريف" و"الرئيس المؤمن"، فضلا عن الزج بالشرع والشريعة في صلب دساتير البلاد وتشريعاتها، والتأكيد على أن "دين الدولة الإسلام"، أو أن رئيس الدولة يتعين أن يكون مسلما سنيا، أو غير ذلك من محاولات لمجاراة الحركات الإسلامية ومنافستها في "الحقل الديني" وليس في الحقل السياسي فحسب.. مثل هذه المعضلة تكاد تكون سببا رئيسا في كف يد الحكومات عن إطلاق مشاريع تنويرية تجديدية، خشية التعرض للاتهامات ومخافة أن تفقد آخر "مصدر" من مصادر شرعيتها.
خامسا: ترتب على كل ذلك (من بين أسباب أخرى بالطبع)، أن الحركات الإسلامية المنظمة وغير المنظمة نجحت في الاستحواذ على قاعدة واسعة من النفوذ والتأثير، وباتت لها سطوة كبيرة، تطاول أحيانا الدولة ذاتها، وتتحكم بهذا القدر أو ذاك، بسياساتها ومواقفها من المسألة الدينية.. كما أن هذه الحركات، باتت تمارس مباشرة، دور "الرقيب" على أفكار الآخرين ومعتقداتهم، وتدّعي لنفسها حصانة لا تستحقها، وتنصب من نفسها "وصيا" على الدين وعلى معتقدات الآخرين وضمائرهم، وهي لا تكتفي في كثير من الأحيان، بتوجيه سهام النقد والتجريح ضد خصومها ومجادليها، بل وتتناولهم بالتكفير والزندقة، حتى وإن أدى ذلك إلى تنفيذ أحكام إعدام خارج القانون، ومسلسل عمليات الاغتيال الذي استهدف مفكرين متنورين لم يتوقف حتى الآن، والمحاكم في معظم الدول العربية، مشغولة بالنظر في قضايا رفعها نشطاء الإسلام السياسي وشيوخه ضد خصومهم ومجادليهم من مفكرين وأصحاب رأي معارض، ودائما بحجة الدفاع عن "عقيدة الأمة وضميرها". إن الرقابة التي تمارسها هذه الحركات بنشطائها وشيوخها وفقهائها، لهي أشد قسوة وخطورة على رموز الإصلاح ودعاته، حتى من تلك التي تمارسها الحكومات وأجهزتها الأمنية والقضائية.
سادسا: وفي الوقت الذي فقدت فيه المؤسسة الدينية العربية صدقيتها بحكم ارتباطها بالمؤسسة الحاكمة، الفاقدة للمصداقية أصلا، وجدنا حركات الإسلام السياسي المعارضة و"الشعوبية" تحظى بثقة قطاعات واسعة من المواطنين، ويدين بالولاء لها أعداد غفيرة منهم، بمن فيها شباب في مقتبل أعمارهم.. لقد عجزت المؤسسة الدينية الرسمية، بما فيها "مرجعية الأزهر" عن القيام بدورها التنويري والتصدي بحزم وعمق لهذه التيارات الظلامية، وظلّ إيقاع حركتها ونشاطها مضبوطا على وقع حركة السلطة الحاكمة وأولوياتها في كل مرحلة من المراحل.. لقد أفضت حالة الاستتباع التي جسدها "فقهاء البلاط والسلاطين" إلى خلق "فراغ خطر"، نجحت القوى الظلامية في ملئه إلى حد كبير، ما أوقع مجتمعاتنا وأجيالنا الشابة في براثن ثقافة الغلو والتطرف وألحق أفدح الضرر بالقوى المدنية والتنويرية الإصلاحية.
سابعا: تدعي معظم الحكومات العربية إنها باستنكافها عن خوض معركة "إصلاح الخطاب الديني" إنما تستهدف درء الفتنة وتفادي تعريض أمن البلاد والعباد لمخاطر الانزلاق في أتون الفوضى والصراعات المحلية.. مع أن تجربة بعض البلدان العربية تنبئ بخلاف ذلك، فمن كان يعتقد على سبيل المثال، أن يتحول فرسان "المؤسسة الدينية السعودية" من تحريم قيادة المرأة للسيارة وتجريم السينما والمسرح والغناء والرقص والموسيقى إلى فقهاء لا يتوقفون عن تسويق "رؤية 2030" وتسويغها؟ من كان يظن أن هذه المؤسسة، ذات الصيت الذائع في صرامتها وتزمتها، تقف عاجزة حتى عن النطق بالاعتراض على حفلات الروك والبوب والكونتري ميوزيك وعن إبداء مجرد رأي معارض في الإجراءات الأخيرة لمحمد بن سلمان؟ من كان يظن أن المؤسسة الدينية ستقف صامتة على افتتاح معابد هندوسية وكنس يهودية في دول خليجية، حيث بالكاد كان يُسمح ببناء كنيسة للمسيحيين من أبناء هذه المنطقة الأوائل؟
لقد ثبت بالملوس أن "الدولة" إن حزمت أمرها وقررت فعل شيء، فإنها قادرة على فعله، وأن "أسطورة" المؤسسة الدينية وسطوتها تكشفت عن أعمق مظاهر الوصولية والانتهازية والضعف والهشاشة.. صحيح أن وراء هذه الظاهرة، قبضة حديدية ونظام أمني ـ بوليسي، لا نقره ولا نجيز وسائله، ولكن المراقب عن كثب لتبدل شكل ومضمون العلاقة بين المؤسستين السياسية والدينية في دول خليجية عدة يتأكد بالملموس أن الكفة تميل لصالح السلطة السياسية إن هي قررت السير في طريق مغاير.
وما ينطبق على دول الخليج، ينطبق بهذا القدر أو ذاك، على معظم إن لم نقل جميع، الدول العربية. فالمسألة من قبل ومن بعد تتعلق بمدى توفر الإرادة السياسية لتحجيم المؤسسة الدينية وقيادة عملية إصلاح ديني، تسير جنبا إلى جنب مع أوسع وأشمل عمليات الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي.