تذوب فيها كل الأديان"... الموالد في مصر" - مقالات
أحدث المقالات

تذوب فيها كل الأديان"... الموالد في مصر"

تذوب فيها كل الأديان"... الموالد في مصر"

محمد محمود الكاشف:

 

مزجٌ فريد بين العادات والمعتقدات الشعبية، وبين الشعائر والممارسات الدينية، ظاهرة فلكلورية تعمل على المحافظة على التراث الشعبي، وظاهرة اجتماعية ثقافية حَوَت داخلها -بالإضافة إلى الأصول الدينية- جوانب اقتصادية وترويحية وثقافية متعددة.

تتمتع الموالد كاحتفالية اجتماعية دينية موسمية في مصر بخصوصية، لجمعها كثير من الممارسات الحياتية المختلفة، التي تتيح فرصة التعرّف على كثير من العادات والتقاليد الشعبية المصرية، فقد حَوَت في زمان ومكان واحد أموراً عدة، وهي تقليد راسخ يرجعه بعض الباحثين إلى عصر الحضارة المصرية القديمة، ومنهم المؤرّخ المصري سليم حسن صاحب "موسوعة مصر القديمة"، والذي يذهب إلى أن الموالد امتدادٌ حي لاحتفالات مدن وقرى مصر القديمة بآلهتها ومعجزاتها والخوارق المنسوبة إليها، والتي تشبه إلى حدٍّ كبير كرامات الأولياء والقديسين التي يتناقلها الناس فيما بينهم في وقتنا الحالي، ومع مرور الزمن ودخول المسيحية ثم الإسلام إلى مصر، استبدل المصريون بالآلهة القديمة القديسين والأولياء وجعلوهم رموزاً لمدنهم وقراهم، وأصبحوا يتباركون بمقاماتهم وأضرحتهم، وعلى هذا تُعدّ موالد الأولياء تطوراً وامتداداً طبيعياً للاحتفالات المصرية القديمة.

بينما يذهب البعض الآخر إلى نتيجة مفادها أن الاحتفالات بالموالد الشعبية بدأت منذ حكم الدولة الفاطمية بمصر (909 - 1171)، حيث حرص الخلفاء الفاطميون على الاحتفال بعدّة مواسم وأعياد على مدار العام، كان من أشهرها: المولد النبوي ويوم عاشوراء ورأس السنة الهجرية الذي استمرّ الاحتفال به حتى وقتنا هذا.

يشير نيكولاس بيغمان في مؤلفه الأشهر "الموالد والتصوّف في مصر"، الصادر عن المركز القومي للترجمة، إلى أن الموالد في مصر لا تقتصر على ديانةٍ واحدة، وإنما "تذوب في الموالد كل الأديان، فالمسيحي يحرص على زيارة أولياء الله المسلمين والمسلم يزور القديسين"، ويتناول بيغمان في كتابه الموالد الإسلامية والمسيحية الأشهر، كما تناول المولد اليهودي الوحيد بمصر "مولد أبو حصيرة" الذي كان يقام سنوياً بقرية دمتيوه بالبحيرة، إلا أن محكمة القضاء الإداري بالإسكندرية أصدرت حكماً قضائياً في ديسمبر/كانون الأول 2014، بمنع الاحتفال به وشطب الضريح من سجلات الآثار.

وانتهى بيغمان في مؤلفه إلى مقولة: "إن على مصر أن تفخر بحيازتها لمثل هذا التنوع الفريد لهذه الظاهرة العبقرية".

ووفقاً لبعض الدراسات المختصة بالفنون الشعبية والتراثية فإنه لا يوجد عدد محدد للموالد الإسلامية والمسيحية، بينما تذهب الجمعية المصرية للمأثورات الشعبية إلى أن عدد الموالد الإسلامية والمسيحية يقدر بحوالي 2850 مولداً، تنتشر وتزيد في كل محافظات الدلتا والصعيد والقاهرة والإسكندرية، وبعض مدن القناة كالسويس، وبلا استثناء فإنها تغوص في مدن ومراكز وقرى مصر من جميع المحافظات.

وأشهر هذه الموالد قاطبة هي التي تحتفل بآل البيت، كمولد السيد حسين بن علي، السيدة زينب بنت علي "زينب الصغرى"، السيد زين العابدين بن الحسين بن علي، السيدة فاطمة النبوية ابنة الحسين بن علي، السيدة عائشة بنت الإمام جعفر الصادق، السيدة نفيسة بنت الحسن الأنور، وكلها في القاهرة.

ثم يأتي بعدها موالد الأربعة الكبار وهم: السيد إبراهيم الدسوقي في مدينة دسوق، محافظة كفر الشيخ بدلتا مصر، والسيد أحمد البدوي في طنطا، محافظة الغربية بدلتا مصر، وعبد الرحيم القنائي (القنوي) في قنا، والسيد أبو الحسن الشاذلي في وادي حميثرة، محافظة البحر الأحمر.

ثم من تقع مقاماتهم ببقية المحافظات وأشهرهم أبو العباس المرسي في مدينة الاسكندرية، وأبو الحجاج الأقصري بالأقصر، ورغم كثرتها خصوصاً بصعيد مصر، فإن أشهر موالد الأقباط هي التي تحتفل بمولد السيدة مريم العذراء بجبل الطير، محافظة أسيوط، والشهيد مارجرجس في القاهرة وكفر الدّوار، وميت دمسيس، والقديسة دميانة بمحافظة الدقهلية، ومارمينا بالصحراء الغربية.

وعلى مسافة تبعد عن العاصمة 120كم تقريباً، تمتد الفيوم بمدنها وقراها التي تنتشر بها مقامات وأضرحة الأولياء الصالحين الذين تقام لهم كل عام احتفالات تمتد لأيام، يقصدهم فيها بالزيارة الكثير من الناس من الفئات العمرية المختلفة، ولعل أشهرها ضريح الشيخ علي الروبي الموجود بمدينة الفيوم، وهو ملحق بمسجد يحمل اسمه، ويقصده منذ زمن بعيد أصحاب الحاجات، فمنهم صاحب المرض الذي يدعو عند الضريح بالشفاء، وصاحب النذر المعقود، وصاحب الهم الذي يجد في الجلوس بجوار المقام راحةً نفسيةً لا مثيل لها، هذا إلى جانب النساء اللائي يقصدن من الزيارة فكّ العقدة لمن لم تتزوج، أو طلب الحمل والخَلَف لمن لم ترزق بالأولاد، فيما يداوم على الزيارة أعداد من المتصوّفة لخدمة مقامهم.

وفي منطقة اطسا ذلك المركز الكبير الذي يحوي 46 قرية داخله، انطلقتُ بشغف كبير تغذّيه أحلام الطفولة لتوثيق بعض المظاهر الاحتفالية التي كنت أحضرها في صغري بالموالد، فمن مدينة اطسا إلى قرى: دفنو، أبوصير دفنو، منية الحيط، الجعافرة، وعتامنة الجعافرة، التقطت عيني أحوالاً لازالت موجودة حتى اليوم بكل ما فيها من روائح الزمن العتيق.

وسواء كان المولد مسيحياً أو إسلامياً فإن هناك طقوساً شبه ثابتة فيه، على رأسها زيارة الضريح، والسير في موكب تحمل فيه وتخفق أعلام الطرق الصوفية، وتقام حلقات الذكر، التي يتجمّع فيها المريدون، فيشكلون دائرةً أو صفوفاً متقابلة أو متراصّة خلف بعضها البعض يتوسطها قائد حلقة الذكر، يهزون فيها أجسادهم بحركةٍ نصف دائرية، ذهاباً وعودة، يرددون معها كلمات مثل: الله، هو، حي، قيوم، بشكل جماعي، أو يردّدون الذكر نفسه.

وهناك المديح والإنشاد الذي عادة ما تستخدم فيه الموسيقى بآلاتها، وتلقى معه القصائد والمقطوعات الشعرية التي تغنّى بمعرفة المدّاح أو المنشد، الذي ينادى قبل اسمه بلقب: عم الشيخ.

هذا غير حلقات الحكايا والأساطير الشعبية والتاريخية التي يمتزج فيها صوت الشاعر بربابته، ولعل أشهرها على الإطلاق السيرة الهلالية.

وشاهدت في هذه الموالد العديد من الألعاب الشعبية كونها مناسبة للترفيه، فتنتشر فيها الألعاب النارية وألعاب الحظ وألعاب الأطفال أشهرها جميعاً: المراجيح، الطولية منها والأفقية.

وهناك عادات ارتبطت بالموالد بشكل عام، ففي الوقت الذي تشهد الموالد الإسلامية طقس الختان للصبية (الطهور)، وازاه في الموالد المسيحية طقس "التعميد"، وفي الموالد المسيحية والإسلامية تقام طقوس طرد الأرواح الشريرة في جلسات خاصة لا عامة.

وفي خضم الطقوس تُهيَّأ الساحات والشوارع بالزينات والأضواء، ويزدهر نشاط الباعة والمحلات، خاصَّة أنشطة بيع الحلوى والألعاب، وكذلك أنشطة المقاهي إن وُجدت، كما تُقام شوادر مختلفة منها ما هو لإهداء الذبائح والنذور للمريدين والناس عامة كما شاهدت، ومنها ما هو لبيع شتى البضائع أهمها الحلوى التي تشكل في أشكال مختلفة، على رأسها العرائس المزينة والحصان ولعب الأطفال كالطبل والزمامير والكور الملونة والقبعات والطرابيش الورقية والمسدسات والبنادق، وشوادر بيع الأكلات الشعبية والمشروبات الساخنة، وشوادر أخرى لبيع الفوانيس والخواتم والسلاسل وكل أنواع الحلي الزخرفية التي تقبل عليها الفتيات .

ويجد زوار الموالد العديد من الأنشطة الترويحية بدءاً من الإنشاد الديني الفردي والجماعي لقصائد المديح المختلفة، مروراً بالألعاب الشعبية المتعددة، كل ذلك يتم تحت جناح حالةٍ تمتزج فيها المشاعر الدينية بالممارسات الاحتفالية في جو يسوده الألفة والبهجة والفرح وحدثٍ لا يتكرر في العام إلا مرة واحدة.

رصيف 22

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث

اتصل بنا

*
*
*