بابكر فيصل:
لا يتفق كثير من الباحثين مع مصطلح "الإسلام السياسي" الذي صكه للمرة الأولى، بحسب علم كاتب هذه السطور، المفكر المصري الراحل المستشار، محمد سعيد العشماوي، باعتبار أنه يحيل إلى وجود "إسلامات" أخرى لا علاقة لها بالسياسة وهو في نظرهم موضوع غير متفق عليه، ولكن الشاهد في الأمر هو أن ذلك المصطلح يهدف لتمييز تلك الفئات التي تستخدم الدين كوسيلة لتحقيق الأهداف السياسية المباشرة.
من المعلوم أن المرة الأولى التي تم فيها استدعاء الوحي "القرآن" كسلطة لإسناد وتبرير المواقف السياسية كانت إبان ما عرف في التاريخ الإسلامي بالفتنة الكبرى التي اصطرع فيها طرفان من الجماعة المسلمة، تزعم إحداها الخليفة الرابع الإمام على بن أبي طالب، بينما وقف على رأس الثانية، معاوية بن أبي سفيان.
قام الطرفان باستدعاء القرآن للمعركة، كل بحسب طريقته، حيث عمد معاوية إلى استخدامه كسلطة رادعة للخصوم من خلال رفعه على أسنة الرماح، بينما استدعاه الإمام علي كحقل مفتوح للمعرفة والتأويل من خلال مقولته "القرآن بين دفتي المصحف لا ينطق وإنما يتحدث به الرجال"، ومنذ أن تحقق النصر النهائي لمعاوية سادت في التاريخ الإسلامي طريقته في استحضار الوحي لتحقيق المرامي السياسية وردع الخصوم.
في هذا الخصوص تجسد أطروحات جماعة الإخوان المسلمين مثالا واضحا لعملية توظيف الدين كسلطة للوصول للأهداف السياسية، ومن بين تلك الأطروحات يطل موقفها حيال النظام الديمقراطي والأحزاب السياسية، حيث تتخذ الجماعة من الدين وسيلة لتعضيد موقفها السياسي في هذا الإطار، تارة بالرفض وأخرى بالتأييد وبحسب ما تقتضي المصلحة السياسية للجماعة.
عندما كانت الجماعة ترفض النظام الحزبي، كتب المرشد المؤسس، حسن البنا، يقول: "الإسلام ـ وهو دين الوحدة في كل شيء، وهو دين سلامة الصدور، ونقاء القلوب، والإخاء الصحيح، والتعاون الصادق بين بني الإنسان جميعا، فضلا عن الأمة الواحدة والشعب الواحد ـ لا يقر نظام الحزبية ولا يرضاه ولا يوافق عليه".
وحينما كانت جماعة الإخوان المسلمين تُعد العدة لوأد النظام الديمقراطي في السودان أصدرت "جماعة علماء السودان"، وهي أحد أذرع الجماعة، بيانا يعمل على تهيئة الناس لقبول الانقلاب العسكري وتدعو فيه لتحريم الحزبية، جاء فيه أن: "سبب الشتات والفرقة هو الحزبية التي لا يعرفها السودان من قبل ولا يعرفها الإسلام بل جلبها إلينا المستعبدون الأوروبيون وفكرهم المظلم الذي يدعو إلى الانقسام وطلب السلطان".
وأضاف البيان أن: "هذه الحزبية تهدم الركن الاجتماعي الأول للإسلام وهو الوحدة التي أوجبها الله تعالى حيث يقول: "واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا". هذا وقد جربنا الحزبية مرات فجلبت إلينا الكوارث والأضرار على الدوام فيجب أن تحرم الحزبية وتجتمع كلمتنا على الوحدة", ودعا البيان إلى حل جميع الأحزاب وإقامة حكومة من غيرها الأحزاب ذلك لأن "أي حكومة تكون من الأحزاب أو ينطوي تكوينها على نظرة حزبية فإن مصيرها يكون أكثر فشلا من سابقاتها".
ولما كان بيان جماعة علماء السودان الصادر قبل ثلاثة أشهر من موعد تنفيذ الانقلاب العسكري في حزيران/يونيو 1989 يهدف للتمهيد لقبول الحكم العسكري، فقد سعى أيضا لإعطاء المبرر الديني لذلك الانقلاب بالقول: "لقد جلب إلينا الفكر الإفرنجي عزل العسكريين عن السلطان، فجعل إشراكهم في أمر الحكم عيبا وأمرا محرما، أما الإسلام فيجعل من أمراء الجند عنصرا هاما في أهل الحل والعقد الذين يناط بهم أمر تنصيب الحاكم ومحاسبته من غير أن يكون في اشتراكهم إهدارا للشورى بل على الجميع الالتزام بها".
إن مصطلح "أهل الحل والعقد" ليس مصطلحا مقدسا فهو لم يرد في القرآن، ولم يقل به الرسول، وهو مصطلح متأخر لا يوجد اتفاق حول معناه ولا يُمكن ضبطه وتعريفه بدقة، وللقدامى، كما يقول الدكتور محمد سليم العوا، في تحديد المراد به أقوال واتجاهات مختلفة يمكن ردها إلى رأيين، أولهما: أنهم رؤساء الأجناد "قادة الجيوش" وزعماء القبائل ورؤوس العشائر ممن لهم طاعة من يليهم من الناس، وثانيهما: أنهم أهل العلم والفتيا والاجتهاد من حملة الشريعة الإسلامية وعلومها. ويرى البعض أن الجمع بين الفريقين هو الذي يمثل أهل الحل والعقد.
وبالتالي فإن مصطلح أهل الحل والعقد لا يعكس شيئا سوى تجربة تاريخية ارتبطت بسياقات معينة وليس وحيا (قرآن) يمثل الإسلام كما زعم بيان جماعة علماء السودان، ومن هنا يتضح التوظيف السياسي للدين بحيث يتم الترويج لفكرة إشراك أمراء الجند في الحكم بكونها فرضا دينيا وليس مجرد تجربة قابلة للنقض.
نقل البنا رفضه للحياة الحزبية من كونه موقفا سياسيا إلى اعتبار أن الإسلام يرفض الحياة الحزبية بالأساس، وهذا الأمر يتناقض مع المواقف المتأخرة التي اتخذتها جماعة الإخوان المسلمين تجاه الأحزاب، حيث قامت الجماعة بعد ثورة كانون الثاني/يناير 2011 بتكوين حزبها الخاص بها تحت اسم "الحرية والعدالة" وخاضت به الانتخابات التي حملت الرئيس السابق محمد مرسي لسدة الحكم في مصر المحروسة، وهو الأمر الذي يجعلنا نطرح السؤال التالي: هل كفرت الجماعة لقيامها بتلك الخطوة أم تغيَّر الإسلام وبات يقبل الأحزاب؟
وكذلك قامت الجماعة في السودان بتكوين حزبها الخاص تحت مسمى "المؤتمر الوطني" وهو الحزب الذي ارتضى الدخول في انتخابات بجانب عدد من الأحزاب الأخرى. وعلى الرغم من أنها كانت انتخابات صورية لم تتوفر فيها الحريات والأجواء التي تسمح بالمنافسة الحقيقية، إلا أن العبرة تبقى في قبول الجماعة بالحزبية على الرغم من بيان علماء السودان الذي قام بتمهيد الطريق أمام الانقلاب العسكري بحجة أن الاسلام لا يعرف الحزبية وأن الأخيرة قد جلبها المستعبدون الأوروبيون!
لن تستقيم الممارسة السياسية في العالم الإسلامي إذا لم تحكمها أسس وقواعد واضحة يأتي في مقدمتها ضرورة الابتعاد عن استدعاء القرآن وتوظيف الشعارات الدينية لردع الخصوم وكسب المعارك السياسية، لأن هذا الاستدعاء وذاك التوظيف يعملان على إفساد وتشويه المنافسة السياسية، حيث تصبح بعض أطرافها ممثلة لإرادة السماء (الله)، بينما هي في الأصل معركة تدور رحاها في الأرض وحول المصالح الدنيوية المحض.