جمال سند السويدي:
على الرَّغم من أن تنظيم «داعش» قد انهار على المستوى التنظيمي، وتلاشت «دولة الخلافة» المزعومة، التي أعلنها في عام 2014، ولم تبقَ سوى جيوب صغيرة له في العراق وسوريا، فإن مرحلة ما بعد «داعش»، ربما تكون أخطر وأسوأ فيما يتعلق بالتهديد الإرهابي، سواء على المستوى الإقليمي أو الدولي. وهذا ليس رجماً بالغيب، أو استنتاجاً من فراغ، وإنما هناك الكثير من المؤشرات التي تنطوي على نُذُر خطر من المهم أن تلتفت الأطراف المعنية إليها، وتستعد لها. وبصفتي واحداً ممَّن يهتمون بقراءة الحاضر واستشراف المستقبل، فإنني أنبه إلى هذا الخطر مبكراً، وأضع بين يدي المعنيين بقضايا التطرف والإرهاب والأمن بشكل عام خلاصة استنتاجاتي في هذا الشأن.
إن انهيار تنظيم «داعش» يطرح الكثير من الأسئلة المهمَّة من قبيل: هل انتهت «الفكرة» التي قام عليها هذا التنظيم؟ وأين سيذهب آلاف المقاتلين العرب وغير العرب، الذين كانوا ينتمون إليه، ويؤمنون بمشروعه، ويقاتلون من أجله؟ وهل انهيار «داعش»، بصفته تنظيماً، يعني فقدانه القدرة الكاملة على العمل الإرهابي؟ وهل سيستسلم التنظيم للهزيمة، أم أنه سوف ينتج أشكالاً جديدة من العمل؟ وكيف ستكون طبيعة علاقته بتنظيم «القاعدة» خلال الفترة المقبلة؟ وغيرها من الأسئلة التي ستكشف الإجابة عنها أين ستتجه الأمور في مرحلة ما بعد «داعش»، وماذا علينا أن نفعل للتعامل مع هذه المرحلة، وما الدروس المستفادة من سنوات المواجهة مع التنظيم.
خمسة سيناريوهات خطرة
توجد احتمالات أو سيناريوهات عدَّة يمكن طرحها بعد انهيار «داعش»، ليس من بينها انتهاء خطر التنظيم، أو موت «فكرته»، وكأنها لم تكن. أول هذه السيناريوهات أن يتحول تنظيم داعش من تنظيم مركزي له قيادة وهياكل مركزية ضمن مساحة أرضية محدَّدة (العراق وسوريا)، إلى تنظيمات أو جيوب عدَّة غير مركزية، كأن يتشكل تنظيم داعش في المغرب العربي، وتنظيم داعش في أفريقيا جنوب الصحراء، وتنظيم «داعش» في اليمن، وتنظيم «داعش» في الجزيرة العربية، وغيرها. وهذا هو ما جرى بالضبط بعد انهيار تنظيم القاعدة في أفغانستان بعد عام 2001، حيث انهارت القاعدة بصفتها تنظيماً مركزياً له قيادة محدَّدة وواحدة، ولكنها تحولت إلى الكثير من التنظيمات الفرعية المنتشرة في الكثير من المناطق حول العالم، والتي مثلت تحدياً كبيراً للأمن والاستقرار في هذه المناطق، مثل تنظيم القاعدة في الجزيرة العربية، وتنظيم القاعدة في بلاد الرافدين، وتنظيم القاعدة في سيناء، وغيرها.
والسيناريو الثاني هو انتقال أو عودة العناصر التي كانت تقاتل تحت راية تنظيم «داعش»، أو بعضها، إلى تنظيم «القاعدة»، خاصة في ظل المؤشرات إلى أن «القاعدة» تعيد بناء نفسها من جديد، وأن نجل مؤسسها أسامة بن لادن، حمزة، يستعد لتولي قيادة التنظيم وتوجيهه نحو مرحلة جديدة. ولعل ما يرجِّح ذلك أن تنظيم «داعش» كان بمنزلة انشقاق عن تنظيم «القاعدة»، بسبب الخلاف حول منهجية العمل من أجل إقامة الدولة، أو الخلافة الإسلامية، حيث رفضت «القاعدة» التسرع في إعلان دولة، ورأت أن الوقت لم يحِن بعد، بينما كان «داعش» يرى ضرورة إعلان هذه الدولة ضمن مساحة أرضية محدَّدة. وبعد انهيار مشروع «داعش»، وثبوت عدم قابليته للتطبيق على أرض الواقع، يمكن أن يدفع ذلك الكثير من العناصر التي كانت تنتمي إلى التنظيم إلى الاقتناع بفكر القاعدة، ومن ثم العودة إليها، وهذا من شأنه أن يزيد من قوتها وقدرتها على قيادة العمل الإرهابي في العالم، ومن ثمَّ المزيد من التهديد للأمن والاستقرار العالميَّين.
«الذئاب المنفردة».
والسيناريو الثالث هو أن انفراط عقد «داعش» سيؤدي إلى تصاعد كبير في العمليات الإرهابية الفردية، التي تنفذها عناصر تؤمن بفكره، انطلاقاً من قرار ذاتي لا يتصل بقرار مركزي من التنظيم، وهم مَن يُطلَق عليهم «الذئاب المنفردة»، وهذا ينطوي على مخاطر أمنية كبيرة على الأمنين الإقليمي والعالمي، لأن هذه العناصر، أو الذئاب المنفردة، يمكن أن تكون قد انخرطت في بعض المجتمعات في المنطقة أو خارجها، خلال الفترة الماضية، من دون أن تكون توجُّهاتها معروفة لدى الأجهزة الأمنية، ما يمنحها هامشاً كبيراً للحركة، وتنفيذ عملياتها الإرهابية بقرارات منفردة، أو بتوجيهات تأتي إليها من الخارج. وعلى الرغم من أن الشخص الذي نفَّذ مذبحة المسجدين في نيوزيلندا لا ينتمي إلى «داعش»، فإن ما قام به يكشف عن الخطورة الكبيرة لظاهرة «الذئاب المنفردة» بشكل عام في مجال العمل الإرهابي، حيث نفذ جريمته الإرهابية النكراء بمفرده، وقتل نحو خمسين شخصاً في دقائق معدودة، على الرغم من أنه لم يكن مسجلاً لدى أجهزة الأمن بصفته متطرفاً، أو يمثل تهديداً محتملاً، وهذا يلفت النظر إلى خطر «الذئاب المنفردة» الداعشية التي توجد بمناطق كثيرة في العالم، وربما لا تعرف عنها أجهزة الأمن شيئاً، لأنها بمنزلة خلايا نائمة أو خاملة.
والسيناريو الرابع هو تغيير التنظيم خطط عمله وآلياته، سواء في العراق أو سوريا أو خارجهما، من خلال اللجوء إلى الاختباء في الكهوف والجبال، وشنِّ هجمات متفرِّقة على أهداف مختلفة، كما يحدث بالنسبة إلى تنظيم «القاعدة» وحركة «طالبان» في أفغانستان، خاصة أن التقارير المختلفة تشير إلى أن زعيم التنظيم، أبا بكر البغدادي، لا يزال حياً.
والسيناريو الخامس هو انتقال قيادة تنظيم «داعش» إلى مناطق أخرى بعد انهياره في العراق وسوريا، وهناك تقارير تتحدث منذ فترة عن احتمال ذهاب «داعش» إلى آسيا الوسطى، أو أفغانستان، أو غيرهما، بعد الضربات والهزائم والانهيارات القوية التي تعرَّض لها في العراق وسوريا، وهذا يعني بناء نقاط انطلاق جديدة في مناطق جديدة للتنظيم.
العائدون من العراق وسوريا
إضافةً إلى ما سبق، فإن انهيار تنظيم «داعش» يطرح مشكلة خطِرة ظهرت من قبل بعد انتهاء تجربة «الجهاد» في أفغانستان، فقد عانت الكثير من دول المنطقة وغيرها خطر «العائدين من أفغانستان»، وهم العناصر التي قاتلت ضد الاتحاد السوفييتي السابق في أفغانستان تحت راية «الجهاد» في ثمانينيات القرن الماضي، وبدعم مباشر من المخابرات الأميركية، سواء بالمال أو السلاح، لكن بعض هذه العناصر عاد إلى بلاده بعد انتهاء «الجهاد» الأفغاني ليمارس الإرهاب ضد أنظمة الحكم والمجتمعات في هذه البلاد، ومنها الكثير من البلاد العربية، وتحولت هذه العناصر إلى عدو للولايات المتحدة الأميركية والغرب بعد أن كانت صديقة لها، وهو الأمر نفسه الذي تؤكد المؤشرات أنه سوف يتكرر مع «العائدين من سوريا والعراق»، وهم المقاتلون من دول المنطقة، ومن الغرب والشرق، الذين انضموا إلى «داعش»، وبعضهم عاد إلى وطنه، وبعضهم الآخر سيعود خلال الفترة المقبلة، وهؤلاء يقدَّرون بعشرات الآلاف (هناك تقديرات تؤكد أن المقاتلين الأجانب الذين انضموا إلى «داعش» وصلوا إلى نحو أربعين ألف شخص)، وهذا ينطوي على خطر كبير على أمن الدول التي سيعودون إليها، لأن انهيار «داعش» لا يعني زوال توجُّهاته في عقول أتباعه وعناصره، وهؤلاء يمثلون قنابل موقوتة في البلاد التي عادوا أو سيعودون إليها.
وممَّا سبق يتضح أمران: الأول هو أن التنظيمات الإرهابية تتوالد من ركام بعضها بعضاً، مثلها مثل طائر العنقاء الأسطوري الذي يخرج من بين الرماد، حيث تؤكد التجربة، في حالة «داعش» وغيره، أن انهيار تنظيم إرهابي يكون مقدمة لظهور تنظيمات أخرى ربما أكثر تطرفاً وعنفاً طالما ظلت جذور ومسببات الفكر الإرهابي قائمة، وهذا يكشف عن أن المواجهة الأمنية أو العسكرية -على أهميتها- ليست كافية وحدها للتصدي للإرهاب. والأمر الثاني هو أن الأفكار، أياً كانت طبيعتها، أو حظها من الخير والشر والصواب والخطأ، لا تموت لكنها تخفُت أو تتراجع لبعض الوقت، ثم ما تلبث أن تعود وتنشط حينما تجد البيئة المواتية، وهذا يدفع إلى القول إن التصاعد الخطِر في نزعات الكراهية و«الإسلاموفوبيا» في العالم -وهو ما جسده الهجوم الإرهابي البشع على مسجدين في نيوزيلندا في مارس 2019 - يوفر مثل هذه البيئة، لأنه يغذِّي التطرف والكراهية على الجانب الآخر، حيث ستجد التنظيمات الإرهابية «الإسلامية» في ذلك مبرراً للترويج لأفكارها، وطرح خطاب يقوم على أن ثمَّة حرباً على المسلمين في الساحة الدولية تقتضي تحركاً مضاداً، وهذا من شأنه أن يُبقي فكر «داعش» والقاعدة وغيرهما من تنظيمات التطرف والإرهاب حاضراً وقادراً على اجتذاب الأتباع.
مرحلة ما بعد «داعش»
ومن هذا المنطلق، فإن التعامل مع مرحلة ما بعد «داعش» لا يقل خطورة وأهمية عن التعامل مع التنظيم نفسه، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، فإن المواجهة الفكرية هي أساس أي مواجهة ناجحة وناجزة للإرهاب، لأنه ما دامت الأفكار التي يتغذَّى عليها الإرهاب قائمة من دون تفنيد وتفكيك، فسوف تتوالى التنظيمات الإرهابية، ولن يكون تنظيم «داعش» هو نهاية المطاف. ولعل تجربة الحرب ضد الإرهاب، منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 وما قبلها، تؤكد ذلك بوضوح. وضمن هذا السياق، فإن النهج الذي تتبناه دولة الإمارات العربية المتحدة في التصدي للإرهاب يمثل نموذجاً مهماً وملهِماً في الآن نفسه، ففي الوقت الذي تعطي فيه دولة الإمارات العربية المتحدة الجوانب الأمنية والعسكرية أهمية في الحرب على الإرهاب، وتشارك في التحالف الدولي ضد تنظيم «داعش» منذ البداية، فإنها تعطي أهمية أكبر لمواجهة الإرهاب على مستوى الفكر والقيم، وترى أن تجفيف المنابع الفكرية له هو العنصر الأساسي والأهم في استراتيجية مواجهته، ومن هنا يجيء اهتمامها بتعزيز قيم التسامح والتعايش والحوار والوسطية، وغيرها من القيم المضادة لقيم التعصب والغلو والتطرف ورفض الآخر والكراهية، التي تبثها الجماعات الإرهابية. وهذا النهج الإماراتي الشامل في مواجهة الإرهاب، الذي ينظر إليه على أنه مشكلة فكريَّة-قيميَّة قبل أن تكون أمنية، هو ما يحتاج إليه العالم في المرحلة المقبلة.