توفيق أكليمندوس:
في نيوزيلندا ارتكب شخص يحمل الجنسية الأسترالية، وينتمي بوضوح إلى فصيل ثقافي أيديولوجي معين من فصائل اليمين المتطرف المتعددة، مذبحة نكراء، راح ضحيتها خمسون من الأبرياء، منهم أطفال، يجمعهم الانتماء المشترك إلى الإسلام، وتم استهدافهم لأنهم مسلمون. وتمت العملية في مسجدين، أي في مكان مخصص للعبادة. وتلك الجريمة نفذها شخص منفرد، حرص على تصويرها وعلى تدويلها عبر شبكات الإنترنت، وترك لنا كُتيبًا من ٧٤ صفحة عنوانه يُشبه عنوان كتاب فرنسي ذاع صيته في أوساط اليمين المتطرف، وهو “الاستبدال الكبير”، أي استبدال الجنس الأبيض بأجناس أخرى تُعرّضه لخطر الانقراض. وفيه قدم القاتل نفسه ووضعه الاجتماعي، وقال إن رؤيته للعالم تشكلت أثناء رحلاته في أوروبا، ولا سيما في فرنسا التي تتعرّض لما أسماه “غزوًا إسلاميًّا”.
ويمكن القول إن القوى السياسية والمرجعيات الدينية ومئات الملايين من الناس من مختلف الخلفيات الدينية والسياسية والثقافية عبّروا عن رأيهم في دلالة الحدث في الأيام التي تلت هذه “المذبحة”، وعن مشاعرهم وعواطفهم. وإجمالًا، رأى أغلب الجمهور في الحادث البشع تعضيدًا لرؤيته للعالم. وتبادل الكل الاتهامات التي تدور حول علاقة مذاهب دينية وثقافية بالعنف، وحول الكيل بمكيالين (لماذا تأخر وصف الجريمة بالإرهابية مثلًا؟)، أي إن الجميع رأى أن هذه الجريمة الشنعاء تعبر عن أزمة تخص الجميع، أزمة تمنع تصنيف الجريمة على أنها حادث فردي، أي إن هذه الجريمة كاشفة. ويبدو لي أن الكل اتفق على الإشادة بأداء رئيسة الوزراء النيوزيلاندية، وإن لام البعض الشرطة لتأخرها في التدخل.
قصدت من تلك المقدمة المختصرة بيان تنوع الكلمات/ المفتاح التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالحدث، دين، إصلاح ديني، إسلام، مسيحية، بروتستانتية، يهودية، إرهاب، عنصرية وأجناس، ذئاب منفردة، عولمة، هوية، ثقافات سياسية، أقصى يمين، يمين متطرف، تعدد الثقافات، سياسات إدارة التنوع، التعصب والتسامح، أيديولوجيات العنف، مسئولية الكتاب والمفكرين، مخاطر الشبكات الاجتماعية الحديثة، حرب الحضارات، أفول الحضارات، الإعلام العالمي، الرئيس “ترامب”، القاعدة، أمراض نفسية، فرنسا، الولايات المتحدة، نيوزيلندا، تركيا، الفيلسوف الفرنسي “رينو كامو”، الكاتب الفرنسي “جان راسباي”.. إلخ.
ويبدو لي أنه من الصعب إجراء تحليل معمق لمضمون الاتهامات المتبادلة القديمة/ الجديدة المتعلقة بمحاولات لصق تهمة الإرهاب بدين أو مذهب سياسي بعينه، أو نفيها، لصعوبة بناء عينة تمثل الأطراف، وبدرجة أقل لصعوبة التأكد من المستهدف الحقيقي عند إلقاء الاتهامات.
لكنني سأتناول تباعًا في مجموعة من المقالات بعض القضايا التي طرحها النقاش العام: من خلال: ١- أزمة الرجل الأبيض/ تطور المجتمعات الغربية/ التعددية الثقافية. ٢- تطور أطروحات أقصى اليمين. ٣- السياسات المناهضة للإرهاب والإرهاب الأبيض/ عولمة ظاهرة الذئاب المنفردة. ٤- قضية الإسلاموفوبيا وخطابات الكراهية وتحديد مسئولية خطابات القوى السياسية والكتاب والمفكرين.
ونبدأ هنا بأزمة الرجل الأبيض والمجتمعات الغربية من خلال النقاط التالية:
-1إحدى تبعات العولمة هو إحساس الجميع بكونه ينتمي إلى أقلية مهددة، أي إن كل الجماعات -سياسية كانت أم دينية- ترى في نفسها أقلية في عالم أكبر منها بكثير، عالم يحمل معه قيمًا تُهدد كل منظومة قيمية أخرى بدرجة أو أخرى، إما بالذوبان أو بتغيرات يراها الكثير مشوهة أو حتى بالاختفاء. وأصبحت القيم ركنًا من أركان هوية جريحة ومهددة، وبالتالي عدوانية وشرسة. وتساهم اعتبارات وعوامل تختلف من بلد إلى آخر في تغذية هذا الشعور. منها: ازدياد أعداد المواطنين المهاجرين والمنحدرين من أصول أجنبية، والصعود الظاهر لبعض أبناء وبنات الأقليات، ووصولهم إلى مراكز قيادية (“أوباما” نموذجًا)، وهو صعود يتزامن مع التراجع الاقتصادي والاجتماعي لقطاعات كثيرة من أبناء الأغلبية.
2- تتسم أزمة الرجل الأبيض أو “المستور الفقير” ببعض السمات، لأن معدلات إنجابه الضعيفة والمتراجعة تعني أن غلبته في بلده تقل. وهناك مخاوف -لا يهمنا هنا تقييم مدى عقلانيتها- من أن يصبح الرجل الأبيض أقلية في بلاده، وأن تختفي عاداته وتقاليده، وأن يضطر إلى تغيير نمط حياته. ويلاحظ هذا الرجل الأبيض التدهور المستمر لظروف معيشته، ولقدراته الشرائية، وتراجع الأمن والأمان. باختصار، يشعر “الرجل الأبيض” بأنه غريب في بلاده، وأن النخب الليبرالية لا تستمع إليه.
-3ازداد الأمر سوءًا مع ميل عدد معتبر من النخب الليبرالية إلى تبني مقولات وسياسات أيديولوجية التعدد الثقافي. ولا يتسع المجال هنا للتفصيل، لكن نكتفي بالقول بأنها تشبه “السياسات الملية”، مع فوارق جوهرية، أهمها أن هذه السياسات في نسختها الغربية تتبنى خطابًا يدين الثقافة الأصلية للبلد -ثقافة الأغلبية- بوصفها بالعنصرية والاستعلائية والعدوانية، وهي أيضًا سياسات تتعامل لا مع مواطنين بل مع مجموعات إثنية أو دينية، لها ممثلون لدى السلطة لا يدري أحد كيف تم اختيارهم (فيما يتعلق بالمسلمين فإن الكثيرين من الممثلين ينتمون إلى جماعة الإخوان مما ساعدها في بث أفكارها). تلك السياسات -رغم حسن نيتها- أدت إلى تسابقٍ وتنافسٍ وصل إلى حد التناحر بين الجماعات الإثنية أو الدينية، وترتب عليها تقوية الطائفية على حساب المواطنة وعلى حساب المؤسسات والتنظيمات التي ترتكز على مبادئها مثل الأحزاب والنقابات. وارتكز تحديد المجموعات الدينية والإثنية التي تتعامل مع السلطة على مكون واحد دون غيره من مكونات الهوية. وللإنصاف، لعبت عوامل أخرى كثيرة دورًا لا يُنكر في تقوية الطائفية، منها: الثورة الإيرانية، والتخاذل الغربي أيام حرب البوسنة، وتطور الأخلاق والعادات في المجتمعات الغربية بطريقة صدمت المتدينين، ودور الإخوان المسلمين، وأخيرًا وليس آخرًا عجز الدول عن مقاومة شتى مظاهر التفرقة التي يعاني منها أبناء وبنات الأقليات. ولمزيد من التفاصيل نحيل القارئ هنا إلى مقالة للدكتور “كنان مالك” نشرها في عدد مارس ٢٠١٥ من مجلة Foreign Affairs، عرض فيها سياسات كل من بريطانيا وألمانيا وفرنسا تجاه الأقليات، وخلص إلى فشل النقيضين: التعدد الثقافي والادماج القسري.
-4نريد أن نشدد هنا على أن ما سبق عرضه لا يعني أن هناك ثنائية بسيطة: نخبة تُجمِع على الليبرالية والتعددية الثقافية وتحاول التحالف مع الأقليات، وضدها شعب “أبيض” يُجمِع على تبني مقولات أقصى اليمين واليمين المتطرف، ناهيك عن تعدد أطروحات هذا التيار ومذاهبه. ففي “الشعب الأبيض” -شأنه شأن الأقليات- انقسامات كثيرة وخلافات عميقة. على سبيل المثال لا الحصر، هناك من لا يعارض ممارسات التعددية الثقافية إلا عندما تسفه ثقافة الأغلبية، وهناك من يقبلها مع توجس قوي من ممارسات الأصولية الإسلامية، إخوانية كانت أم سلفية. وهناك من يرى في الوجود المتزايد للمسلمين فرصة لتخليص البلاد من بقايا إرث ثقافة مسيحية يرفضونها، وآخرون -في المقابل- يرون في هذا الوجود فرصة لبناء تحالفات ترفض وتقاوم بعض التطورات التي يرون فيها اعتداء صارخًا على الدين (زواج المثليين مثلًا) ولفرض مراجعة للصيغة الحاكمة لعلاقات الدين والدولة. وهناك من يثق في قدرة الثقافة الوطنية على استيعاب الجميع وعلى إقناع الجميع بتبنيها لـ”تفوق” قيمها وتراثها ليبرالية كانت أم اشتراكية أم يعقوبية أم علمانية متطرفة أم معتدلة. وهناك من يتشكك في تلك القدرة، وهناك من يرى أن الثقافة ستتطور ولن تختفي، أو العكس، وهناك المتفائل والمتشائم الذي يدعو إلى “المقاومة” والمتشائم الذي يرى أن القضية محسومة. وهناك من يرى في الهجرة ضرورة لضمان وجود قوى عاملة تمول المعاشات. وهناك الماركسي الذي لم يفقد الأمل في توحيد صفوف الطبقة العاملة. ويمكننا رصد مواقف أخرى.
-5هذا لا يمنع وجود ما أسماه أكاديمي فرنسي “لوران بوفيه” إحساس كبير بعدم الأمان الثقافي، وما وصفه الرئيس “هولاند” بـ”مشكلة الفرنسيين مع الإسلام” (سنتناول الإسلاموفوبيا في مقال لاحق). وهناك صعود مذهل لأقصى اليمين، إضافة إلى ما يمكن وصفه بـ”لوبنة (نسبة إلى لوبان) العقول”، وبنجاح اليمين المتطرف في فرض أجندته على كل القوى السياسية الأخرى.
-6نقدم هنا تعريفًا مختصرًا للتيارات الفكرية التي تنخرط تحت لواء أقصى اليمين الفرنسي واليمين المتطرف، لا سيما تلك التي “ألهمت” القاتل الأسترالي، حيث أشارت تقارير إلى استعارته لطرح “الاستبدال الثقافي” الذي عرضه الفيلسوف “رينو كامو”. وشكك باحث متخصص في شئون أقصى اليمين في دقة هذا التشخيص، حيث يرى أن القاتل أقرب إلى مقولات كاتب فرنسي آخر هو “جان راسباي”.
-7وتجدر الإشارة هنا إلى أن أقصى اليمين الفرنسي يضم تيارات فكرية مختلفة. على سبيل المثال، ميز “جان إيف كامو” (ولا يمت بصلة قرابة إلى رينو كامو) بين أقصى اليمين الذي يحاول الوصول إلى الحكم، واليمين المتطرف الذي يصطدم بمؤسسات الدولة (ولذلك لا يمكن تحميل تيار لوبان مسئولية الإرهاب.( ويُلاحظ هنا أن القاتل قال إن فشل “مارين لوبان” أقنعه بأنه لا يعول لا عليها ولا على الانتخابات. ويمكن التمييز بين أحدث المنضمين إلى يمين اليمين وهو تيار “السياديين” (المتمسكين بشدة بسيادة الدولة الوطنية)، واليمينيين (هناك أيضًا في فرنسا سياديون يساريون) الرافضين للعولمة وللهجرة وللمشروع الأوروبي المنتقص من سيادة الدولة الوطنية، وبين أقدم التيارات، وهي -من ناحية- المسيحية الرجعية والمتزمتة (من بينهم أنصار الملكية) والمتمسكة بالهوية المسيحية لفرنسا (ومنهم من تصالح مع العلمانية لا عن اقتناع ولكن لمواجهة أسلمة فرنسا)، وهؤلاء يراهنون على “مارين لوبان” حفيدة مؤسس الحزب. ومن ناحية أخرى “العنصريون”. والفكر العنصري هو مصدر “أفكار” القاتل، مع ملاحظة أنه استقى أفكارًا من مصادر متنوعة. ونعرض في المقالة القادمة لتطور الفكر العنصري وتأرجحه بين التفسير القائم على الجينات والتفسير القائم على الثقافة، وبين المقولات المتحدثة عن تفوق لجنس أو ثقافة وتلك التي ترى أن الثقافات مختلفة اختلافات لا يمكن تجسيرها، وأخيرًا تلك التي تقول إن لكل ثقافة بيئة لا يمكن ولا يجوز الابتعاد عنها، وهو مذهب القاتل.
المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية