عندما تواجه اقتصادات الدول غير الديمقراطية عقبات، يلجأ طغاتها إلى تشتيت الانتباه بالانخراط في حروب، أو التهديد بها.
حسين عبد الحسين:
نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" بيانا أظهر ارتفاعا، بلغت نسبته 42 في المئة، في أعداد الأتراك ممن هجروا بلدهم العام الماضي، ليصل إجمالي مهاجري العام 2018 إلى قرابة ربع مليون نسمة، وهو ما يشير إلى أن النخبة التركية لا تراهن على مستقبل بلادها، وأنها لا ترى جدوى البقاء فيها. وهو ما يشي بأن الرواية التي دأب على تقديمها الرئيس رجب طيب أردوغان، والتي ينسب لنفسه فيها الفورة الاقتصادية والبحبوحة التي عاشها الأتراك على مدى العقدين الماضيين، لم تعد تنطلي على كثيرين.
وكان أردوغان عمد إلى الاستدانة لتمويل فورة اقتصادية، بنى عليها ضرورة بقائه. لكن الفورة لا بد أن تنتهي، فيبقى أردوغان حاكما أوحدا، يبرر للأتراك نهاية العيش الرغيد بإلقائه اللوم على تآمر خصوم الداخل، وأعداء الخارج، وما إلى هناك من نظريات مؤامرة يقوم الدعائيون العاملون في بلاط السلطان بتصويرها وكأنها حقيقة قائمة، وهو أمر ممكن بسبب قضاء جمهورية أردوغان على الإعلام المستقل، وبسبب الرقابة التي تفرضها على مواقع الإنترنت العالمية.
وأردوغان، الذي يحكم تركيا على مدى العقود الثلاثة الماضية ـ من مواقع متعددة في الدولة، منها رئاسة الحكومة وبعدها رئاسة الجمهورية ـ هو زينة قادة الحكومات الإسلامية، بالنظر إلى الحركات الإسلامية حول العالم، التي تخال نفسها في مصاف الحكومات، مثل إمارة "طالبان" الأفغانية المندثرة، وحكومة "الشباب" في الصومال، و"الدولة الإسلامية في العراق وسوريا" (داعش)، وحكومة "حماس" في قطاع غزة.
بعد أكثر من نصف قرن من النضال في صفوف المعارضة، فضلا عن بعض التجارب في الحكم، أثبتت الحركات الإسلامية أن مشروعها ليس بديلا للاستبداد (العربي أو التركي أو الإيراني)، وأن الاسلاميين يختبئون خلف ثورات داعية للديمقراطية، فيما هم يعارضون الديمقراطية، والحريات الفردية، والنظام العالمي القائم منذ الحرب العالمية الثانية؛ بل إن الاسلاميين يعارضون مبادئ عصر التنوير بأسرها. هكذا، صار جليا أن ما يصبو إليه الإسلاميون حول العالم هو استبدال ديكتاتوريات العسكر، أصحاب الشوارب، بطغيان الإسلاميين، أصحاب اللحى.
وعلى غرار تجربة الجزائر، وبعدها مصر، أثبت الإسلاميون أن الديمقراطية بالنسبة إليهم تعني انتخابات حرة لمرة واحدة فقط، يقومون بموجبها بالاستيلاء على السلطة، ويسارعون بعدها إلى تعديل الدستور، حتى بأغلبية بسيطة لا تكفي لإقرار تعديلات دستورية، وبذلك يحوّل الإسلاميون "حكم الأكثرية" إلى "طغيان الأكثرية".
ولأن الإسلاميين، مثل العلمانيين العرب، لا يفهمون ماهية الحكومة ودورها، فهم ينيطون بها أدوارا أوسع بكثير من المعقول، فتمضي الدولة معهم في مشروع هندسة مجتمعية، تؤدي إلى إقامة دولة يعتقدونها فاضلة، تلغي الحرية والتعددية وتستبدلها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وفي حالة طغاة العرب من غير الإسلاميين، يوظف هؤلاء الحكومة في عملية تعميم عبادة الفرد.
إسلاميو مصر لم يشذوا عن قاعدة "الانتخابات للاستيلاء على السلطة"، وهم في عمر حكمهم، القصير نسبيا، حاولوا تعديل الدستور، وإعادة تصميم الدولة على شكل إسلامي، فيما راح الرئيس السابق محمد مرسي يبحث عن نظام عالمي بديل عن القائم، وأعلن مرارا عن نية حكومته الانضمام إلى كتلة "بريكس" (وهي كتلة وهمية من بنات أفكار محلل اقتصادي أميركي، تلاها إعلان روسي فارغ بإقامة بنك باسمها برأس مال قيمته 50 مليار دولار).
وكراهية الحركات الإسلامية للغرب تنبع من مصدرين: الأول؛ هو الحسد والغيرة التي يكنها الطغاة حول العالم، من روسيا والصين وإيران إلى تركيا ومصر وفنزويلا، تجاه التفوق الغربي، فتعمد دعاية هؤلاء إلى تصوير هذا التفوق وكأنه وهمي، وتصوير نفسها وكأنها تضاهي في عظمتها الديمقراطيات، خصوصا في الأوقات التي تبلي اقتصادات الديكتاتوريات بلاء حسنا.
والحقيقة أن الدول غير الديمقراطية، عندما تواجه اقتصاداتها عقبات، يلجأ طغاتها إلى تشتيت الانتباه بالانخراط في حروب، أو التهديد بها، مثل ديكتاتور الصين شي جين بينغ، الذي تواجه بلاده مخاطر التعثر الاقتصادي، فيرد بالتهديد بإعادة تايوان إلى السيادة الصين، حتى عسكريا لو اقتضى الأمر. ومثل شي، ينخرط الروسي فلاديمير بوتين في مغامرات عسكرية في أوكرانيا وسوريا، في محاولة لإظهار بلاده ـ التي لا تقوى حتى على وقف تدهور سعر صرف عملتها ـ وكأنها تقارع القوى الغربية على الساحة الدولية.
ومثل شي وبوتين، ينخرط الإسلامي الإيراني علي خامنئي في مواجهة "قوى الاستكبار" التي جعل منها فزّاعة يخيف بها شعبه الجائع. أما الاسلامي التركي أردوغان، ففزّاعاته كثيرة، منها حليفه السابق وخصمه الحالي فتح الله غولن، ومنها المجموعات الكردية المسلحة في سوريا. كذلك، يسعى أردوغان إلى تصوير نفسه في مصاف زعماء الأمم الكبرى، فتارة يظهر معانقا بوتين، وطورا في ضيافة رؤساء أميركا المتعاقبين.
المصدر الثاني لكراهية الإسلاميين للغرب الديمقراطي، وخصوصا الولايات المتحدة، سببه ماورائي ديني، ومفاده أن رب العالمين ينصر من يرضى عليهم من البشر، وهو ما يعني أن نجاح أميركا وفشل الدول الإسلامية يشير إلى انحياز رباني إلى الغرب الكافر المسيحي بدلا من الشرق المؤمن المسلم.
ثم أن الإسلاميين يعتقدون أن خلاص العالم يكمن في "العودة إلى الإسلام الصحيح"، وفي إعادة إحياء دولة فاضلة متخيلة يسميها الإسلاميون "العصر الذهبي"، أي حكم الخلفاء الراشدين (632 ـ 661 ميلادية)، وهو عصر شهد مقتل ثلاثة من الخلفاء الأربعة.
أما في حال تبين أن "العصر الذهبي" ممكن استعادته بدون "العودة إلى الإسلام الصحيح"، مثل في حالة تفوق الغرب، تنتفي الحاجة حينذاك إلى الدين كخلاص للدولة، ويصبح الدين لله والوطن للجميع، وهي المقولة التي يرفضها الإسلاميون، المعتدلون والمتطرفون، لاعتقادهم أن الوطن والناس ـ لا العبادة فحسب ـ هم لله أيضا، وهو ما يضع دولا بأسرها، مع شعوبها، رهينة حكومات إسلامية سياساتها مبنية على الماورائيات، وعلى أحاديث عمرها أربعة عشر قرنا ومتنازع على مصداقيتها.
في كل الأحوال، يكره الإسلاميون الديمقراطية، حتى لو اختبأوا خلف ثورات مشروعة ضد الطغيان.