في تونس، وهي عرش ثورات الربيع العربي، أحرق عبد الرزاق زرقي، الصحافي الشاب، نفسه حتى الموت الأسبوع الماضي، احتجاجاً على مصاعب المعيشة بعد أن فقد كل أمل في مستقبل أفضل له وللشباب الآخرين من أبناء جيله. فقد سعى لأن يسير في أعقاب محمد بوعزيزي الذي أحرق نفسه بالضبط قبل ثماني سنوات وأدى بموته إلى نشوب «ثورة الياسمين» التي أسقطت نظام الرئيس زين العابدين بن علي. كما يمكن أن يكون استمد إلهامه من احتجاج القمصان الصفراء في فرنسا. موت الصحافي أشعل مظاهرات احتجاج في عدة مدن تونسية، ولكن الثورة المنشودة لم تأت. يخيل أن التونسيين شبعوا ثورات ويفضلون التمسك بما هو موجود على القفز إلى المجهول.
السودان بالذات، الذي تجاوزه الربيع العربي في بداية العقد، ألمت به عاصفة هذا الشهر. فقد خرج إلى شوارع الخرطوم العاصمة آلاف المتظاهرين بنداء لإسقاط الطاغية عمر البشير ابن الـ 75، الذي يحكم هذه الدولة لثلاثة عقود. وجبت المظاهرات حتى الآن حياة بضع عشرات، ولكن من السابق لأوانه التقدير إذا كانت نهاية حكم البشير قريبة. تجدر الإشارة إلى أنه ليست جرائم الحرب التي يتهم بها البشير في المحكمة الدولية في لاهاي هي التي تخرج المتظاهرين إلى الشوارع، بل الضائقة الاقتصادية والنفوذ من حكمه، بالضبط مثل الاضطرابات التي اجتاحت العالم العربي قبل نحو عقد.
واضح إذن أن هذه العواصف الصغيرة في تونس وفي السودان لا تبشر بحلول الربيع، لا في هذه الدول ولا حتى في أجزاء أخرى من العالم العربي. ففي الشرق الأوسط لا يوجد ربيع حقاً، قال في حينه الرئيس السوري بشار الأسد: منطقتنا تجتاز مباشرة من الشتاء إلى الصيف الطويل والحار. يحتمل أن يكون انتصار بشار في الحرب في سوريا يعلم الغرب، المقتنع بأن نهاية كل تظاهرة أو احتجاج في العالم العربي سيؤدي إلى الديمقراطية، بأن هذه هي الحقائق عن الشرق الأوسط.
الأسبوع الماضي، طلب من غياهب النسيان أحد أبطال ثورات الربيع العربي، ألا وهو حسني مبارك. الرئيس المصري الأسبق ظهر كشاهد ادعاء في محاكمة رجل الإخوان المسلمين والرئيس المخلوع محمد مرسي.
مبارك اليوم هو رجل حر وإن كان واضحاً لكل من في مصر، مثلما في كل دولة عربية أخرى، لا يوجد مكان إلا لـ «فرعون» واحد. إن محاكمة التاريخ عن مبارك قررها الحاكم الحالي عبد الفتاح السيسي الذي قضى بأن «مبارك كان على ما يرام تماماً، والمشكلة الوحيدة معه كانت مكث لزمن طويل جداً في كرسيه.
لم تكن المشكلة إذن شكل وطريقة النظام في مصر، كما ألمح. كما أن السيسي وعد أبناء شعبه في الفرصة ذاتها بأن يضحي بحياته كي لا تنشب ثورة مثل تلك التي أسقطت مبارك مرة أخرى، لأنها جلبت الخراب على مصر.
الواقع في العالم العربي لم يتغير، ولا تزال الدول العربية يسودها الظلم والبطالة والفقر، وهي لا تمنح مواطنيها أي أمل في حياة أفضل، ولا سيما للشباب الذين هم الأغلبية المطلقة. يخيل أن الضائقة تفاقمت مع مرور السنين، ولكن هذا الواقع مرة أخرى لا يخرج الناس إلى الشوارع، هؤلاء يبقون في بيوتهم متمسكين بالنظام القديم الطيب، ويعلقون آمالهم على تلك الأنظمة الدكتاتورية المتمثلة في الطغاة والملوك الذين يتحكمون بهم منذ سنوات. لقد عزي الربيع العربي في حينه إلى ثورة الاتصالات الإلكترونية: انتشار التلفزيونات بالأقمار الاصطناعية، والهاتف المحمول، وبالطبع الإنترنت والشبكات الاجتماعية. غير أن محدثي هذا التغيير أصبحوا الآن حماة حمى النظام القديم. ومثلما نشرت هذه الأمور في حينه الاحتجاج والتمرد في كل صوب وزاوية في العالم العربي، جلبت بعد بضع سنوات من ذلك إلى كل بيت مشاهد الفشل والقصور والدمار والخراب الذي أدى إليه الاحتجاج.
لقد كان الربيع العربي إذن حدثاً عابراً. الأمل والوهم تبددا، وتبين أن ما كان هو ما سيكون. هناك أمام سكان المنطقة خيار بين أنظمة سلطوية تحكم رعاياها بيد عليا، وبين فوضى وحروب أهلية مثل تلك التي تجري في ليبيا واليمن.
ايال زيسر
إسرائيل اليوم 30/12/2018