هل الإلحاد يمثل مشكلة؟ و إذا كان مشكلة, فهل هو مشكلة للدولة أم مشكلة للدين؟
سامح عيد
بلا شك، نحن نمر بأكبر موجة إلحاد عرفتها مصر في قرنها الأخير، فقد ظهرت نخبوية في القرن الماضي، وكما نعلم فمستويات الأميّة كانت عالية، وموجات الإلحاد لا تنشأ في المجتمعات الأمية؛ لأن الأمية قرينة الاستقرار ووراثة ثقافة ومعتقدات الآباء، ولكن التشكك وليد المعرفة، ما يؤدى إلى مزيد من الشك أو مزيد من اليقين، وإذا أدى إلى مزيد من الشك، فسيذهب الشخص للإلحاد، ما يفسر لماذا ظهرت نخبوية فى عصور سابقة، ولا أقصد الأمية بمعناها الخاص وهو عدم القدرة على القراءة والكتابة، ولكن أمية المعرفة، فربما شاب جامعي لم يطّلع ولم يقرأ إلا مذكرات آخر العام للنجاح، فهو أمِّي المعرفة بلا شك.
في القرن الحالي، ازدادت المعرفة بشكل كبير وحدث تضخم هائل في المعلومات، فأصبحت كتابات وفيديوهات التشكيك تطارد الشباب على صفحات الفيسبوك والتويتر، وحجج الدفاع عن هذا الشك تطارده أيضًا، فيبدأ في التفكير ويبحث حجج هذا وحجج ذاك، وفي النهاية تنشأ نسبة ما، هي ليست كبيرة كنسبة مئوية ولكن في النهاية ربما تكون أعدادًا كبيرة، وللعلم فواحد في الألف تعني في مجتمع مثل مصر 90 ألف شخص، ولو واحد في المئة فهي تعني 900 ألف شخص، فحتى لو كانت النسب ضئيلة للغاية، فربما تكون الأعداد هائلة، وهنا لابد أن يُثار سؤال هام، هل الإلحاد يمثل مشكلة؟ وإذا كان مشكلة، فهل هو مشكلة للدولة أم مشكلة للدين؟ وهل هو مشكلة للدولة بمعنى التدني الأخلاقي وارتفاع معدلات الجريمة، على أساس أنه لا رادع إلهي قيمي يلجمه؟ ربما هذا يحتاج إلى مراكز بحثية لإخراج نتائج، وإن كان عندنا فى مصر مركز متخصص للبحث الجنائي ولكنه لا يعمل بكفاءة كمعظم المؤسسات المصرية التى أصابها العطب في العقود الأخيرة، ولكن بنظرة تحليلية، فسنجد أن معظم المتهمين بالجرائم والمسجلين خطرين هم من البيئات الأقل ثقافة والأقل معرفة، والأكثر فقرًا، ما يعني أن الجهل والفقر هما الأشد خطرًا على الدولة من الإلحاد، ولو نظرنا إلى دول هي الأكثر في معدلات الإلحاد كدول أوروبا، فسنجدها هي الأكثر تقدمًا ورقيًّا والأقل في معدلات الجريمة، ومن المؤكد أن معدلات الجريمة هناك قادمة ممن ينتمون لأديان أكثر ممن لا ينتمون، وإذا نظرنا إلى اليابان التى يراها كثير من المسلمين كافرة أو ملحدة، وإن كانت لهم أديان فهي ليست أديانًا سماوية، فهي الأكثر رقيًّا وتقدمًا على مستوى السلوك الإنساني والانضباط الخلقي.
وهنا لابد من طرح سؤال هام، هل القيَم السلوكية والأخلاقية منبعها الدين بالأساس؟ وهل المجتمعات قادرة على بناء منظومة أخلاقية بعيدًا عن الدين، أم أن الدين هو عنصر أساسي في تنمية الأخلاق؟ قبل أن نذهب إلى الغرب ومنظوماته الأخلاقية، فلنذهب إلى مصر، ولو تأملنا المجتمع القبَلي المصري فى الريف المصري وفي الريف الصعيدي بشكل أكبر، سنجد مصطلح الأصول الذي يعم ثقافة تلك المجتمعات، والأصول هي مصطلح ثقافي ربما يتقاطع مع الدين بشكل ما، ولكنه أحيانًا يتعارض مع الدين، وعند التعارض فإن التنشئة القبَلية تنتصر على المعتقد الديني. ولنأخذ -مثلا- الثأر في الصعيد، فمن المؤكد أنه ربما يكون له علاقة بالقصاص الديني، ولكن المشكلة أن القصاص الديني يطبق على الشخص الذى نفذ عملية القتل، ولكن هذا لا يحدث في الصعيد، بل على العكس، ربما يعرفون القاتل الحقيقي وربما يكون غلامًا صغيرًا، ولكنهم يذهبون لرأس العائلة هناك لأن قتيلهم كان رأس العائلة، وهذا يتعارض مع الدين بشكل كبير، وهنا تنتصر التقاليد الموروثة على الدين بعيدًا عن قضية الافتئات على الدولة. وكان منذ زمن ليس ببعيد، بعض العائلات الصغيرة داخل القرى لا يجرؤ أحدهم على أن يظل راكبًا على حماره وهو مارّ من أمام أحد أفراد العائلة الكبيرة أو منزله، ولكن عليه أن يترجل من على دابته، تأدبًا ومراعاة للأصول، وهذا يتناقض مع الدين بشكل كبير، ويصنع طبقية بغيضة جاء الدين ليهدمها.
في اليمن -مثلا- لا تتزوج الشريفة من قبَلي، والشريفة بمعنى طبقة خاصة لها مكانة خاصة وهى طبقة الأشراف، وهم من نَسْل علىّ والسيدة فاطمة، رضى الله عنهما وأرضاهما، وأجازوا زواج الشريف من قبَلية، وهي أصول ليس لها أي علاقة بالدين، وفيها تفريق بين الرجل والمرأة في الحكم الفقهي بما يعتبر الزوج أعلى مرتبة من الزوجة، ما جعل الأعلى طبقيًّا من وجهة نظرهم يتزوج من أقل منه في الطبقة، مع العلم أن هذا ليس له علاقة بالمال، فكثيرًا ما يكون القبَليون أغنى من الأشراف لاعتبارات وراثية.
في النهاية، فإن الأسرة والمجتمع قادرون على بناء قواعد وأسس أخلاقية بعيدًا عن المعتقد الديني، وقرأت أن في اليابان يغرسون كثيرًا من الأخلاق من الصغر في المدرسة، فتأخذ المعلمة الأطفال في رحلة خارجية، وتعلمهم كيف يحترمون إشارات المرور، وإلقاء القمامة في سلة المهملات، حتى تصل إلى إخفاض الصوت في المواصلات العامة احترامًا للآخرين، ويتحدثون أيضًا عن احترام الزوجة للزوج بشكل كبير، ربما يتجاوز «سي السيد» فى الثقافة المصرية الدرامية على الأقل، التي ربما تحتوى على شيء قليل من المبالغة.
تعرفت في الفترة الأخيرة إلى ملحدين، لم تتغير أخلاقهم قبل وبعد الإلحاد، فهم متزوجون بشكل مستقر، يتسمون بسمات المصريين، وأخلاقهم التى ورثوها عن عائلاتهم وعن بيئاتهم التى تتسم بالشهامة والرجولة والتسامح والرفق، لم تتغير، فلم يدفعهم إلحادهم إلى شرب الخمور وتحول كل منهم إلى «زير نساء»، لم يحدث هذا، مع العلم أن هناك كثيرين -كما نعرف- من معتقدي الأديان التي تحرم، يتجاوزون تلك المحرمات.
من المؤكد أن الدين أحد العناصر الأساسية لتقوية الأخلاق، ولكن الأسرة والبيئة والثقافة كلها عوامل مؤثرة، بل إنى أعتقد أن صدمة الإلحاد كان لها بعض الإيجابيات؛ لأنها صنعت العصف الذهني، فقد أخرجت ما كان مختبئًا زمنًا كبيرًا من انتقادات وملاحظات، وقد كان المسلمون فى وقت من الأوقات يدافعون عن الدين الأصلي والتاريخ والخلافة والفتوحات وكل شيء على أساس أنها قفة واحدة، ولكن تلك الصدمة جعلتنا نفكر ونفرق بين ما هو من أساسيات الدين وما هو تصرفات بشرية محل نقد وتمحيص، وقادرين على تبرئة الدين منها وتحميلها لأصحابها، وجعلتنا نراجع أحاديث تتصادم مع العلم الحديث ونردّها، وجعلتنا مضطرين لمراجعة حدّ الردّة، لتحقيق السلم الاجتماعي والتعامل مع حقيقة واقعة، وجعلتنا أكثر إنسانية، نتعامل مع مجتمع متنوع، ومن المؤكد في هذه الحالة أن المسيحي واليهودي حيكون شخص أمُّور خالص، وخلقت واقعًا فقهيًّا جديدًا.
ما وضع المرأة التى ألحد زوجها؟ وأنا لست مؤهلا للفتوى، ولكن لو سألتني قريبتي، دون تردد سأقول لها: حافظي على زواجك وأسرتك، خصوصًا إن كانت أخلاقه لم تتغير ويحترمك ويحترم أسرته.
وللعلم فكثير منهم لا يستفتون ويمارسون ما قلته لاحقًا، مع العلم أن هناك مستويات، فهناك الملحد والربوبي، بمعنى الموحِّد المتجاوز للأديان، واللا أدري غير القادر على الحسم والحكم.
وللعلم فغالبيتهم من المثقفين بمستويات مختلفة، وربما كان المجتمع في أمسّ الحاجة إلى هذه الحلحلة، ليعيد التعرف إلى نفسه وإلى هويته، وتدفع في اتجاه الدولة المدنية الحقيقية التي جاءت لتحقيق مصالح الناس الدنيوية فقط، وتوفر البيئة المناسبة لحرية الاعتقاد، وترسخ لفكرة الدولة القطرية والهوية الوطنية مع بقاء الدوائر الأبعد سواءً العربية أو الإسلامية، ببعديها الحضاري والثقافي.