سعيد شعيب
سينجح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في الغالب في تحجيم الإسلام السياسي، لكن بشكلٍ مؤقت، ومن المؤسف أنه سيعود مجددًا إلى الظهور بقوته الإرهابية في مكان ما وزمن ما ليهدد الإنسانية من جديد. فلا يمكنك ان تستخدم ذات الأدوات القديمة وتتوقع نتائج جديدة. ولا يمكنك أن تكتفي بمطاردة منتجات مصنع فاسد من دون أن تحاول غلق المصنع نفسه، ثم تتوقع القضاء على الإرهاب.
لا يعني هذا أن كل ما يقوم به ترامب حتى الآن سيئ. فهناك ما هو سيئ، وهناك ما هو جيد وضروري بطبيعة الحال. فالأولوية الأولى هي وقف أي شكل من أشكال التعاون والاستخدام من جانب الإدارة الأمريكية للتنظيمات الإرهابية. فهذه من الخطايا الكبرى لدى الحكومات الغربية. فقد استخدم هتلر الإسلاميين ضد الإتحاد السوفييتي (كانت لديه كتيبة من مسلمي القوقاز) واستمرت من بعده حكومات الولايات المتحدة والغرب، حتى أوصلنا ذلك إلى افغانستان. ولم يتعلم الغرب الدرس القاسي بعد تفجيرات 11 سبتمبر الإرهابية، وأعاد استخدام ذات الأداة ضد نظام بشار الأسد وضد الأنظمة الديكتاتورية في الشرق الأوسط.
كما أن الإيجابي أيضًا هو الاتجاه إلى اعتبار جماعة الإخوان المسلمين جماعة إرهابية. فهي المفرخة الأولى للإرهاب في العالم، والجماعة الأكثر تأثيرًا في كل مكان يوجد فيه مسلمون. لتنهي الإدارة الأمريكية أسطورة ما يسمّى بالإسلام السياسي المعتدل. فالحقيقة التي تخرق العين هي أن الإسلام السياسي بكل تنويعاته لم يقدم ما يسمونه "إسلاما سياسيًا" متصالحًا مع الحضارة والإنسانية.
لكن الأدوات التي يستخدمها ترامب حتى الآن أدوات تمت تجربتها من قبل وفشلت، وهي تقتصر على التضييق على ومحاربة الإسلام السياسي بكل تنويعاته، مع ما يصاحب ذلك من انتهاكات واردة ضد المسلم العادي الذي لا ينتمي ولا يريد الانتماء إلى الإسلام السياسي، وآخرها الهجوم الإرهابي المسلح ضد مصلين في مسجد في كندا.
سبق أن لجأت الأنظمة الديكتاتورية (وهي ليست علمانية) إلى طريقة ترامب في التعامل مع الإسلام السياسي، مثل ما حدث في مصر منذ الانقلاب العسكري في عام 1952 وحتى الآن. فقد مارس ذلك جمال عبد الناصر والسادات ومبارك بطرق مختلفة، لكن هذه الممارسات فشلت جميعًا وعاد الإسلام السياسي كالمارد بعد ثورة يناير 2011 ليتم إقصاؤه مجددًا بعد ثورة 30-6 – 2013 والانقلاب العسكري في 3-7-2013 حيث استخدم الرئيس عبد الفتاح ذات الأدوات القديمة مجددًا.
وإذا نظرت إلى الأنظمة الديكتاتورية في الشرق الأوسط مثل صدام حسين في العراق، وحافظ وبشار الأسد في سورية، والقذافي في ليبيا، تجد أن الأمر لا يختلف كثيرًا. فهو ذات المنهج بذات الأدوات، سواء أكانت في شكلها الخشن الذي تبنّاه أتاتورك أم ذاك الذي تبعه الحبيب بورقيبه في تونس. إذ فشلت أشكالها كلها.
فهل سيفعل ترامب مثلهم؟
وما زال الأمر يبدو كذلك حتى الآن. فعلى المستوى الخارجي، سيدعم الأنظمة الديكتاتورية التي فشلت في محاربة الإسلام السياسي، سواء أكان ذلك بالتحالف أم بالإقصاء أو ما بينهما. ومن المؤكد أن هذا سيحقق نجاحًا في إقصاء الإسلام السياسي من صدارة المشهد، لكنه سيعود مجددًا للعمل تحت سطح جلد هذه المجتمعات منتظرًا فرصة أخرى ليملك القوة لإرهاب العالم.
وسينسحب ذات الأمر على داخل الغرب وداخل الولايات المتحدة، ففي الأغلب الأعم سيضيق تمامًا على منظمات الإسلام السياسي وستختفي، لكنها ستعود مجددًا عندما تتغير الظروف، مثلما سيحدث في الشرق الأوسط والبلاد ذات الأغلبية المسلمة.
إذًا ماذا يجب أن نفعل؟
يكمن الحل في إغلاق المصنع ذاته، وليس فقط مطاردة منتجاته من إرهاب وإسلام سياسي. فالحقيقة هي أن الثقافة الإسلامية السائدة في الغرب ثقافة حاضنة ومنتجة للكراهية والإرهاب، سواء أكانت سنية أم شيعية، وهي ذاتها الثقافة المنتشرة في البلاد ذات الأغلبية السنية أو الشيعية. وهذه الثقافة الإرهابية هي التي توفر الجنود والدعم المالي والمعنوي للإرهاب.
تشكل هذه الأيديولوجيا البنية التحتية للإرهاب، ويجب تفكيكها، مستفيدين من الخبرة الغربية في الإصلاح الديني المسيحي واليهودي.
كيف نفعل ذلك؟
أولًا، ينبغي أن نتيح أمام المسلم العادي في الغرب نُسخًا إسلامية أخرى غير سائدة .. نُسخًا متصالحة تمامًا مع الحضارة الإنسانية، سواء أكان عبر مجددين قديمين مثل المعتزلة وابن رشد واخرين أم عبر مجددين عِظام مثل العراقي أحمد القبانجي، والسوداني محمد محمود طه، والمصري إسلام بحيري ونصر حامد ابو زيد، والجزائري محمد أركون، والسوري محمد شحرور واخرين.
يحل هؤلاء المجددون بكل تنويعاتهم المعضلة للمسلم العادي. فهم ينزعون من الدين ومن التاريخ الديني للإسلام كل القنابل الإرهابية التي تحول حياة المسلم إلى جحيم. فهو مطلوب منه في الثقافة الإسلامية السائدة أن يكره ويقتل حتى يرضى الله ويفوز بجنته. وبعبارة أخرى، تجعل هذه الاجتهادات المسلم يعيش حياة طبيعية من دون أن يخرج من الإسلام.
لا بد أن تتحول هذه الاجتهادات إلى مساجد ومدارس ومؤسسات وكتب وبرامج وغيرها، وغيرها. لقد تمت محاربة هذه النسخ الإنسانية من الإسلام في البلاد ذات الأغلبية الإسلامية، وتعرض أصحابها للقتل والسجن والحرق. والغريب هو أنهم يتعرضون لذات المخاطر في الغرب.
تحتاج هذه النسخ إلى الدعم من الغرب ومن المسلمين المجددين الذين يعيشون فيه، وتحتاج إلى الدعم من أي مسلم يريد أن يعيش حياة بشر طبيعية. ومن شأن شيوع هذه النسخ أن يزيح بشكلٍ تدرُّجي الثقافة الإسلامية السائدة الآن والمنتجة للإرهاب.
يمكننا بذلك أن نغلق مصانع الإرهاب إلى حد كبير، ونفكك بنيته التحتية. وأمّا ما يتبقى منها، يمكننا أن نطارده ونعاقبه بالقانون من دون أي انتهاكات لحقوق الإنسان، وهذه مسؤولية أنظمة الحكم والمجتمعات في الغرب، والتي لا ينبغي لها أن تتنازل عن قيمها الحضارية الإنسانية في هذا الصراع الصعب. فلا يمكن أن تقضي على الكراهية بنشر كراهية مضادة، تدفع قطاعًا كبيرًا من المسلمين إلى جزء من المشكلة وليس جزءًا من الحل.
سعيد شعيب
كاتب وباحث