عصام الزهيري
للسحر في الإسلام قصة مدهشة ومحيّرة تستمد قدرتها على الإدهاش وإثارة الحيرة بفعل ما في طبيعة السحر نفسه من غموض وما في علاقة الإنسان به من غرابة، وبسبب ما يثيره ذلك كله في النفوس والعقول من قلق وحيرة وتوتر بين التصديق والتكذيب.
فمن معاني السحر الكثيرة كما نجدها في معجم "لسان العرب"، وهو أشمل وأغنى معاجم العربية، معنى "الأخذة"، والأخذة هي التي: "تأخذ العين حتى يظن أن الأمر كما يرى وليس الأصل على ما يرى"، وهو تعريف يربط بين السحر والشعوذة وخداع العين وخفة اليد.
ونصادف في معاني السحر أيضاً أنه "كل ما لطف مأخذه ودق"، وهو ما يجعل أصل السحر "صرف الشيء عن حقيقته إلى غيره فكأن الساحر لما رأى الباطل في صورة الحق وخيّل الشيء على غير حقيقته قد سحر الشيء عن وجهه، أي: صرفه عن حقيقته".
ورغم أن كل ما سبق يكاد يجعل السحر طريقاً من طرق الخداع والتزييف غير الحقيقي إلا أن صاحب "لسان العرب" يربط أيضاً بين السحر وبين معونة القوى الخفية الماورائية غير المنظورة (الشياطين) فيقول إنه: "عملٌ فيه تقرب إلى الشيطان وبمعونة منه وكل ذلك الأمر كينونة السحر".
السحر في القرآن
يرد السحر صراحة في القرآن الكريم، ففي سورة الفلق نقرأ {ومن شر النفاثات في العقد}، والمقصود بهنّ، بحسب تفسير الطبري، "السواحر اللواتي ينفثن في عُقَد الخيط حين يرقين عليها".
وفي الآية 102 من سورة البقرة، والتي تذكر "هاروت وماروت"، وهما شيطانان يعلمان السحر، جاء: {وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وماهم بضارين به من أحد إلا بإذن الله}.
ويقول الطبري "إن سحرة اليهود كانت تزعم أن الله أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داود فأكذبها الله بذلك، وأخبر نبيه محمداً أن جبريل وميكائيل لم ينزلا بسحر قط، وبرأ سليمان مما نحلوه من السحر، فأخبرهم أن السحر من عمل الشياطين، وأنها تعلم الناس ببابل، وأن اللذين يعلمانهم ذلك رجلان: اسم أحدهما هاروت واسم الآخر ماروت".
وبتأمل معاني هذه الآيات، يمكن القول إن الاستعاذة من "شر النفاثات في العقد" قد يكون للوقاية من أذى مادي خارجي في وسع ممارسات السحر إلحاقه بالناس، وقد يكون، في الوقت نفسه، استعاذة من إرادة أذى داخلية ومن أحقاد القلوب ونوايا الشر ليس أكثر.
كما أن قصة هاروت وماروت تتصل بواقعة في الماضي، وتنتهي آيات القرآن بما يفيد تهافت قوى السحر ومظهرية ممارسات السحرة: {وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله}.
هذا المعنى الذي يصرف السحر إلى وجه الخداع والإيهام والتخييل (الدجل والشعوذة) يصف به القرآن الكريم سحرة فرعون عند مواجهتهم موسى: {فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى} (طه: 66)، مع أنها مجرد حبال وعصي تحولت بفعل الإيهام والتخييل، وعبر الفزع والإبهار وخداع الأعين، إلى حيات تسعى.
أنواع من السحر
هذا الغموض الملتبس في طبيعة السحر كممارسة خفية لا تظهر للعيان، لا يطّلع عليها غير أصحابها، لا يمكن الاستدلال عليها إلا من آثارها التي تنسب إليها، والتي لا تثبت بالتجربة والمشاهدة. كل ذلك جعل المفسرين والعلماء يميلون إلى تقسيم السحر إلى أنواع: حقيقية أو تخيلية، ظاهرة وخافية، معروفة وغير معروفة.
ففي كتاب "فتح الباري شرح صحيح البخاري" يعمد ابن حجر إلى تقسيم أخبار ومعارف الغيب التي ترد عن طريق السحرة إلى صنفين: الأول ما يتلقاه السحرة عن الجن، والثاني ما يستند إلى الظن والتخمين والحدس والتجربة والعادة.
ويؤدي الافتراق بين أهداف السحرة إلى تقسيم للسحر يصنّفه إلى فئتين: فئة السحر المرغوب فيه وفئة السحر غير المرغوب فيه، أي سحر أسود وسحر أبيض، الأول يهدف إلى إلحاق الأذى والشرور بالناس، والثاني يهدف إلى منفعتهم أو على الأقل إلى مقاومة أعمال السحر الأسود باستخدام نفس وسائل السحر.
وربما يكون من أكثر أنواع السحر المرغوب فيه انتشاراً على نطاق واسع، على طول التاريخ الإسلامي، السحر الذي يصطلح عليه بلفظ "الخيمياء"، وهو لون من الممارسات التي اختلطت فيها الكيمياء وعلم التنجيم بالسحر ورمت إلى تحقيق أهداف خيالية مثل توليد "حجر الفلاسفة" الذي يمكن من خلاله تحويل التراب إلى ذهب.
أما ممارسة "السحر السلبي"، أو السحر لمقاومة السحر، فليس من مبالغة أن نقول إنها كانت البوابة الخلفية الواسعة للتصريح بممارسة السحر الحلال في الإسلام، وهي ممارسة استندت إلى ركائز قوية من النصوص، بدءاً من روايات الحديث التي ذكرت أن النبي نفسه تعرّض للسحر.
ففي الصحيحين (البخاري ومسلم)، ورد عن عائشة زوجة النبي: "سحر النبي صلى الله عليه وسلم حتى إنه ليخيل إليه أنه يفعل الشيء وما فعله، حتى إذا كان ذات يوم وهو عندي دعا الله ودعاه، ثم قال: أشعرت يا عائشة أن الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه؟ قلت: وما ذاك يا رسول الله؟ قال جاءني رجلان فجلس أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي، ثم قال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ قال: مطبوب (يعني مريض). قال: ومَن طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم اليهودي من بني زريق. قال: فيما ذا؟ قال: في مشط ومشاطة وجف طلعة ذكر (يعني مشط وشعر متساقط منها والغشاء الذي يكون على طلع النخل). قال: فأين هو؟ قال: في بئر ذي أروان. فذهب النبي في أناس من أصحابه إلى البئر فنظر إليها وعليها نخل، ثم رجع إلى عائشة فقال: والله لكأن ماءها نقاعة الحناء ولكأن نخلها رؤوس الشياطين. قلت: يا رسول الله أفأخرجته؟ قال: لا أما أنا فقد عافاني الله وشفاني وخشيت أن أثور على الناس منه شراً وأمر بها فدفنت (أي البئر)".
وفي "الموطأ" أن أبا بكر الصديق دخل على عائشة وهي تشتكي ويهودية ترقيها فقال: ارقيها بكتاب الله، يعني بالتوراة والإنجيل، لأن ذلك كلام الله الذي فيه الشفاء.
وفي "شرح صحيح البخاري" لابن بطال أن عائشة قالت: "أمرني النبي أن يُسترقى من العين". وروي عن سعيد بن المسيب أنه قال في الرجل الذي يلتمس مَن يداويه بالسحر: "إنما نهي عما يضر ولم ينه عما ينفع". ولذلك قال الطبري في تفسيره، في التفرقة بين السحر الحرام والحلال: "وليس ذلك عندى سواء؛ وذلك أن مسالة الساحر عقد السحر مسألة منه أن يضر من لا يحل ضرره وذلك حرام، من غير حصر معالجتهم منها على صفة دون صفة فسواء كان المعالج مسلماً تقياً أو مشركاً ساحراً بعد أن يكون الذى يتعالج به غير محرم، وقد أذن النبى عليه السلام في التعالج وأمر به أمته فقال: إن الله لم ينزل داء إلا وأنزل له شفاء، وعلمه من علمه وجهله من جهله".
فتح الباب لممارسة السحر
هكذا، فُتح الباب من جديد أمام ممارسة السحر بعد أن جرى تحريمه، وذلك رغم اتفاق الفقهاء على حرمة تعلم السحر وتعليمه وممارسته بالكلية، بل وإفتاء بعضهم بتكفير مرتكبه مستدلين بقوله تعالى: {وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر} (البقرة: 102)، ورغم الذهاب إلى قتل الساحر دون استتابة كما حدث بالفعل خلال فترات من التاريخ وحمل لنا المؤرخون أخباره.
يذكر المؤرخ ابن إياس أنه في عهد السلطان قنصوه الغوري (1446-1516م) حُمل إليه رجل من الصعيد متهم بأنه ساحر زنديق يتوضأ باللبن ويستنجي به، فأرسله إلى القاضي المالكي الذي حكم بكفره وأمر بضرب عنقه وشهر به على جمل وهو عريان.
ويروي المؤرخ "المقريزي" قصة حكم بقتل نصراني قصاصاً بتهمة قتل خوند زوجة السلطان وابنة أحد كبار المماليك مستخدماً "وسائل السحر".
لكن كيف يُقتل الساحر طالما أن الناس في حاجة إليه لمواجهة السحر ذاته؟ هذا ما لا تجيب عنه الأخبار. لكن في تفسير القرطبي خبر عن كتاب لعمر بن الخطاب يأمر فيه بقتل "كل ساحر وساحرة".
وقال "بجالة": "فقتلنا ثلاث سواحر"، كما جاء عن "حفصة" زوجة النبي أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها، فقُتلت.
ولا بد أن المفهوم من هذه الأخبار أن المعنيين بها هم ممارسو السحر الأسود وحده، وهو أمر يعز إثباته بيقين كامل، فالسحر لا يمكن تلمسه إلا من خلال شكوك ترتبط بنتائجه أو مظاهر لا يمكن الحكم على انتمائها للون محدد من ألوان السحر.
لكن هناك خبراً يورده الذهبي في كتاب "سير أعلام النبلاء" بثلاث روايات مختلفة، تدل مجتمعة على ما اكتنف حديث السحر وأخبار السحرة من مبالغات عبر التاريخ الإسلامي.
الخبر عن صحابي هو جندب الأزدي الذي عزا للنبي القول: "حد الساحر ضربه بالسيف". وفي الرواية الأولى للخبر: أن ساحراً كان يلعب عند الأمير الوليد بن عقبة وكان يأخذ سيفه فيذبح نفسه ولا يضره فقام جندب إلى السيف فأخذه فضرب عنقه.
وفي الرواية الثانية أن الوليد كان في العراق فلعب بين يديه ساحر فكان يضرب رأس الرجل ثم يصيح به فيقوم خارجاً فيرتد إليه رأسه، فلما كان من الغد اشتمل جندب على سيفه وضرب عنقه وقال: إن كان صادقاً فليحيي نفسه، فسجنه الوليد لكن السجّان هرّبه لصلاحه.
وفي الرواية الثالثة أن ساحراً جاء من بابل فأخذ يُري الناس الأعاجيب، يريهم حبلاً في المسجد وعليه فيل يمشي وحمار يشتد حتى يجيء فيدخل من فمه ويخرج من دبره، ويضرب عنق رجل فيقع رأسه ثم يقول له: قم فيعود حيا، ثم أخذ جندب سيفه وأتى الناس وهم مجتمعين على الساحر ودنا منه وضربه فرمى رأسه وقال: احيِ نفسك، فأراد الوليد بن عقبة قتله فلم يستطع وحبسه.
كان الوليد بن عقبة مشهوراً بالفسق وشرب الخمر وكان جندب الأزدي من أصحاب علي بن أبي طالب ومن أمراء جيشه وقتل في موقعه صفين، وهو ما قد يفسر التوتر السياسي الكامن في الخبر، وربما يفسر بعض الشيء المبالغة التي حوّلت الساحر من رجل يمارس خفة اليد وخداع العيون إلى ساحر جبّار يأتي بمعجزات مهولة، ساحر من بابل بلد "هاروت وماروت".