بقلم د. عماد بوظو
يولي الإعلام والرأي العام الغربي حاليا اهتماما خاصا بالاعتداءات الجنسية التي قام بها بعض الأشخاص، بغض النظر عن منصبهم ومكانتهم وإنجازاتهم. كانت البداية في الولايات المتحدة مع سلسلة فضائح نتج عنها دعاوى قضائية وملاحقات جنائية لكهنة ورهبان كاثوليك نتيجة ممارسات ارتكبوها خلال العقود الماضية، حين قاموا بالاعتداء جنسيا على أطفال وقاصرين. فقد ادعى أكثر من عشرة آلاف شخص أنهم تعرضوا لاعتداءات جنسية في الفترة بين عامي 1950 و2002. تم التثبت من 80 في المئة من الشكاوى المقدمة.
منذ ستينيات القرن الماضي، بدأت النقاشات في الولايات المتحدة حول قضية الاعتداءات الجنسية؛ جرى أغلبها ضمن الكنيسة مع تغطية شبه معدومة في وسائل الإعلام، ولذلك كان العقاب يقتصر غالبا على نقل الكاهن أو القس المتهم إلى أماكن ومرافق كنسية ذات نظام أكثر صرامة. أما في الثمانينيات، فقد بدأ الإعلام يهتم بالإضاءة على هذه القضايا، وتزايد الوعي بموضوع الإيذاء الجسدي للأطفال، مما ساعد على خلق مناخ شجع على تقديم الشكاوى القانونية وما تبعه من اعترافات لرجال دين؛ وهو ما جعل هذه القضايا تخرج للعلن، وتتم إحالة المتهمين إلى القضاء المدني لمحاسبتهم.
في تسعينيات القرن الماضي، تم الكشف عما يحدث من الكنيسة الكاثوليكية في إيرلندا، وأطلقت السلطات الإيرلندية سلسلة من التحقيقات والمحاكمات الجنائية في ادعاءات باعتداء عدد من الكهنة جنسيا وجسديا على مئات من القصّر خلال السنوات السابقة. لكن عدد الملاحقات القضائية كان قليلا نسبيا؛ ونتيجة الاهتمام الإعلامي بهذه القضايا تم التبليغ عن اعتداءات جنسية طالت الأطفال والقاصرين في أوروبا وأستراليا ونيوزيلاندا وكندا وأميركا اللاتينية. في العام 1994، وجهت اتهامات ضد 47 رجل دين بالأرجنتين بتهم الاعتداء الجنسي، ومنذ عام 1995 أدين أكثر من مئة قسيس في أستراليا. ومؤخرا اتهم حوالي 80 كاهنا في تشيلي بتجاوزات جنسية مما أدى لتقديم كل أساقفة الكنيسة التشيلية استقالاتهم للبابا فرانسيس، وقدم البابا فرنسيس اعتذارا رسميا عن هذه الحوادث وتعهد بمنع المتهمين بهذه القضايا من العمل الكنسي.
وقبل بضعة أعوام، أقر حاخام يهودي بتصويره نساء عاريات بين العامين 2009 و2014 باستخدام كاميرات تم تركيبها في حمام معبد في واشنطن أثناء قيامهن بطقوس التطهر بعد الدورة الشهرية أو عند التحول لليهودية. وسبق أن اتهم حارس معبد يهودي بالقدس قبل سنوات بالتحرش واغتصاب أطفال خلال زيارتهم للمعبد، والقصة الأكثر شهرة هي إدانة محكمة دينية خاصة بالقدس أحد كبار الحاخامات الأرثوذكس اليهود بالاعتداء على قاصر.
أما في إيران فهناك قضية قارئ القرآن المفضل عند المرشد الأعلى والفائز بالعديد من مسابقات تجويد القرآن الذي وجهت إليه الاتهامات باغتصاب 19 طفلا من طلابه تتراوح أعمارهم بين 12 و14 عاما، وقد وصف طفل عمره 12 عاما التفاصيل الدقيقة للاعتداء عليه. ادعى المتهم بأن هذه الدعاوى كاذبة وهدفها تشويه صورته وصورة المرشد؛ وفعلا برأه القضاء الإيراني مطلع العام الحالي! وهناك قصة مدير إحدى مدارس الذكور في طهران الذي قال الادعاء العام إن ذوي 15 طالبا اشتكوا بأنه أساء لأطفالهم جنسيا، وقالت وسائل إعلام إيرانية إنه كان يعرض على الطلاب أفلاما جنسية ويدعوهم لممارسة الجنس مع بعضهم ومعه.
يقوم الإعلام العربي بنشر هذه الأخبار وكأنها أمراض اجتماعية تصيب فقط الشعوب والديانات الأخرى دون الاعتراف بإمكانية وقوع أمثال هذه الحوادث في الدول العربية؛ إذ ليس من المألوف في هذه المجتمعات وصول مثل هذه القضايا للرأي العام أو الإعلام والقضاء. لكن قيام رجال دين مسلمين بممارسات مماثلة في أوروبا، يؤكد وجود مثل هذه الحوادث في المجتمعات العربية. ومن الأمثلة، اتهام إمام من أصول باكستانية بأربع جرائم اغتصاب لأطفال داخل مسجد في إنكلترا بعد الدروس الدينية حيث كان يأخذهم إلى أي غرفة لا يوجد فيها كاميرات مراقبة.
كما اتهم المفكر الإسلامي طارق رمضان، وهو حفيد حسن البنا وأحد القيادات الإسلامية في أوروبا وأستاذ الفكر الإسلامي في جامعة أكسفورد، بعدة قضايا اغتصاب وتحرش؛ وقالت إحدى الصحف السويسرية إنها تحدثت مع أربع سيدات سبق أن كنا طالبات لديه في تسعينيات القرن الماضي، ونقلت عن إحداهن أنها صدت تحرشه حين كانت في سن الرابعة عشرة، بينما قالت الثلاث الأخريات إنه استغل سلطاته كمدرس لإقامة علاقات جنسية معهن عندما كانت أعمارهن بين 15 و18 عاما. وسبق أن قالت ناشطة فرنسية من أصول تونسية إن رمضان اعتدى عليها في أحد فنادق باريس أثناء فعاليات اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا عندما كانت قريبة من التيار الإسلامي السلفي.
وأشارت الكاتبة الفرنسية كارولين فورست إلى أن بعض ضحاياه روين لها ما حدث معهن، لكنها لم تستطع إقناعهن بتقديم شكاوى قانونية. كما اتهمت سيدة سويسرية اعتنقت الإسلام رمضان باغتصابها قبل عشر سنوات في جنيف واحتجازها في فندق رغم إرادتها.
تجدر الإشارة إلى أن المغرب بدأ عام 2018 بسلوك طريق مغاير لطريق الصمت العربي عن الاعتداءات الجنسية؛ إذ نشرت علنا قصة إمام مسجد، في مدينة مراكش، اتهم باغتصاب سبع طفلات تتراوح أعمارهن بين 7 و12 سنة بعد دروس الدين في المسجد، وقصة إمام مسجد آخر اتهم بالاعتداء جنسيا على ستة أطفال دون الثامنة من العمر، ومدير مدرسة كان يتحرش جنسيا بطالباته.
تدل هذه الأمثلة على أن الواقع في الدول العربية ليس مختلفا عن بقية العالم، وتجاهل هذه الحوادث سيعني السماح باستمرارها. تتعلق الأسباب الحقيقية لعدم الاعتراف بوجودها بالتركيبة الاجتماعية للمجتمعات العربية، حيث يسيطر الخوف من الفضيحة في هذه المجتمعات المغلقة والتي تستمتع بالنميمة.
كما أن هذه المجتمعات، وبعكس بقية العالم، تلوم الضحية دائما بدلا من التعاطف مع الطرف الأضعف الذي لا يستطيع الدفاع عن نفسه، وتجد وسيلة لكي تضع اللوم على الضحية. كما ترى الثقافة الشعبية في هذه المجتمعات التجربة الجنسية، خصوصا بالنسبة للمرأة عارا دائما يلاحقها حتى لو كانت ناتجة عن اعتداء جنسي، ولذلك تفضل هذه المجتمعات التكتم على هذه الحوادث.
تنتظر المجتمعات العربية الجهة التي ستملك الشجاعة اللازمة للبدء بالحديث عن هذه المواضيع المحظورة.
انتشر في الولايات المتحدة في نهاية عام 2017 هاشتاغ على مواقع التواصل الاجتماعي تحت شعار "مي تو" Me too، (أنا أيضا)، كشفت آلاف من النساء عبره عن تعرضهن لاعتداء أو تحرش جنسي. سرعان ما توسعت هذه الظاهرة، وتحولت إلى حركة عالمية، ونتج عنها كشف عدد كبير من حالات الاعتداء الجنسي التي طواها الصمت لسنوات طويلة.
شجعت هذه المبادرة من تعرض/ تعرضن لحوادث مشابهة للكشف عما عايشوه، وهو ما يساهم في فضح المعتدي، ومنعه من تكرار الاعتداء وربما محاسبته.
كانت البداية في هوليوود، ثم انتقلت الظاهرة إلى شركات خاصة ومؤسسات حكومية، ووصلت إلى مجالات الرياضة والطب. بعد أشهر، صنفتها مجلة تايم الأميركية كـ"شخصية العام" نتيجة لآثارها الإيجابية.
إذا أرادت المجتمعات العربية حماية أبنائها وبناتها، فما عليها سوى العمل على رفع الحظر عن تداول أمثال هذه المواضيع وكشف المسكوت عنه في هذه المجتمعات من أجل حماية النساء والأطفال. عندما تنتشر حركة على نمط "مي تو" في المنطقة العربية، وعندما يتم تشجيع من تعرض لاعتداء جنسي على عدم السكوت عنه، سنسمع قصصا تفوق ما سمعناه عن حوادث مماثلة في الغرب، وقد تخرج للعلن فضائح محرجة، لكن ذلك سيخفض احتمالات حدوث مثل هذه الحوادث في المستقبل وسيحمي الأجيال الجديدة ويجعل حياتها أفضل.