صفحات من التاريخ الإسلامي... كيف استُخدم سلاح التكفير للقضاء على المعارضة؟ - مقالات
أحدث المقالات

صفحات من التاريخ الإسلامي... كيف استُخدم سلاح التكفير للقضاء على المعارضة؟

صفحات من التاريخ الإسلامي... كيف استُخدم سلاح التكفير للقضاء على المعارضة؟

محمد يسري

شهد التاريخ الإسلامي، عبر عصوره المتلاحقة، تداخلاً بين الدين والسياسة وصل إلى حد التماهي. ويُبرز مصطلح التكفير هذا التداخل، فرغم أنه مصطلح ديني في المقام الأول، إلا أنه استُخدم، في حالات كثيرة، لتمرير بعض القرارات السياسية، أو للتخلص من بعض الخصوم من معارضي السلطة.

ثلاثة نماذج مهمة من التاريخ الإسلامي تساعد في فهم كيفية استخدام سلاح التكفير ضمن نطاق العمل السياسي، وترينا كيف قام عدد من كبار العلماء بتكفير بعض جماعات المعارضة، لصالح سلطة يخضعون لها.

فضائح الباطنية... دور الغزالي في القضاء على الإسماعيلية

في النصف الأول من القرن الخامس الهجري، استطاعت مجموعة من القبائل التركية القوية، التي عُرفت باسم السلاجقة، أن تفرض سلطتها على الخلافة العباسية في بغداد. فصار سلاطين السلاجقة في ذلك مدافعين عن العالم السني ضد الخطر الشيعي الذي كان يتمثل في الخلافة الفاطمية في القاهرة، والحركة الإسماعيلية النزارية النشطة التي يقودها الحسن بن الصباح من قلعة ألموت في شمال إيران.

عمل الوزير السلجوقي الشهير نظام الملك، بكل وسيلة ممكنة، على تقويض الخطر الإسماعيلي. ففي عام 1064، قام بتأسيس المدرسة التي عُرفت باسمه في بغداد، واستقدم إليها كبار العلماء السنة بهدف مواجهة المد الشيعي.

ويبدو أن الوزير أغدق في الإنفاق في سبيل تحقيق هدفه، إلى درجة أنه كان ينفق كل سنة على مدارسه ما يقارب الـ700 ألف دينار، بحسب ما يذكره الدكتور محمد أبو النصر في كتابه "السلاجقة: تاريخهم السياسي والعسكري".

وبعد أن توفي أبو المعالي الجويني عام 1085، استدعى نظام الملك تلميذه أبا حامد الغزالي، ليحل محله في التدريس بمدرسة بغداد، فعمل القادم الجديد على التنظير الفكري لتكفير العدو السياسي الأول للدولة السلجوقية.

في بغداد، كتب الغزالي كتابه "فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية". ورغم أن الكتاب كان بالأساس كتاباً دينياً، إلا أن عنوانه حمل رسالة سياسية واضحة، لأنه عبّر عما ستحتويه صفحاته من نقد وتكفير للشيعة الإسماعيلية الذين سماهم الغزالي بالباطنية، وأيضاً من مدح وتقريظ للمستظهرية، وهم أهل السنة والجماعة الموالين للخليفة العباسي في ذاك العصر، المستظهر بالله.

في الفصول الأولى من كتابه، يهاجم الغزالي جميع طوائف الشيعة، فيعدد مثالبها، ويفتي بفسقه أتباعها، ولكنه، في الباب الثامن من الكتاب تحديداً، وتحت عنوان "فتوى الشرع في حقهم من التكفير وسفك الدم"، يستخدم سلاح التكفير ضد الإسماعيليين تحديداً، ويذكر رأيهم في وجوب تأويل الآيات القرآنية التي تصف الجنة والنار.

وكتب: "والذي نختاره ونقطع به، أنه لا يجوز التوقف في تكفير مَن يعتقد شيئاً من ذلك، لأنه تكذيب صريح لصاحب الشرع ولجميع كلمات القرآن من أولها إلى آخرها".

ويبني الغزالي على مسألة تكفيره للإسماعيلية أحكاماً فقهية أخرى، إذ يعتبرهم مرتدين، ويقول: "والقول الوجيز فيهم أنه يُسلك لهم مسلك المرتدين في النظر في الدم والمال والنكاح والذبيحة...".

والمهم هنا أن اعتبار الإسماعيلية مرتدين أطلق يد ولي الأمر في التعامل معهم والقضاء عليهم قضاءً مبرماً، لأن المرتدين بحسب قول الغزالي "لا سبيل إلى استرقاقهم، ولا إلى قبول الجزية منهم، ولا إلى المن والفداء، وإنما الواجب قتلهم وتطهير وجه الأرض منهم".

ويبالغ الغزالي بعد ذلك، عندما يُفتي بقتل نساء الإسماعيلية وأبنائهم، إذ يقول: "وأما النسوان فإنا نقتلهم... أما صبيانهم، نعرض الإسلام عليهم، فإن قبلوا قُبل إسلامهم، وردت السيوف عن رقابهم إلى قربها، وإن أصروا على كفرهم متبعين آباءهم، مددنا سيوف الحق إلى رقابهم وسلكنا بهم مسلك المرتدين".

هكذا استطاع الغزالي في كتابه أن ينظّر لتكفير الإسماعيلية، بل إنه فوق ذلك، أعطى السلطة السياسية السلجوقية-العباسية المسوغات الفقهية اللازمة لاستئصال جذور الدعوة الشيعية الإسماعيلية في إيران والعراق وسوريا، وهو الأمر الذي تمخض في النهاية عن مجازر كبرى وأحداث عنف متبادلة بين الطرفين، كان الوزير السلجوقي نظام الملك نفسه، أحد ضحاياها، وذلك عندما قُتل على يد أحد الإسماعيليين عام 1092.

ابن تومرت... كفّر المرابطين وأسقط دولتهم

النموذج الثاني لاستخدام التكفير في العمل السياسي يتمثل في حركة محمد بن تومرت التي قامت في بدايات القرن السادس الهجري، في منطقة المغرب الأقصى، وسرعان ما امتدت لتفرض سلطانها على بلاد المغرب والأندلس.

قامت حركة ابن تومرت بالأساس على فكر إصلاحي ثوري يدعو إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى تأويل الصفات الإلهية والبعد عن التجسيم، وكان ابن تومرت قد استخدم سلاح التكفير للطعن في شرعية الدولة المرابطية القائمة، بحيث تبرز دعوته على أنها طوق النجاة الوحيد للعودة لصحيح الدين وثوابته.

وتنوّعت الأسباب التي بنى عليها ابن تومرت فتواه بتكفير المرابطين، إذ هاجمهم في بعض الأحيان لأسباب عقائدية، كما كفّرهم في أحيان أخرى بسبب عدد من ممارساتهم.

بالنسبة إلى الجانب العقائدي، كان معظمه ينصب على نقد عقائد الصفات الإلهية عند المرابطين، وجعل ابن تومرت من هذا السبب حجر الأساس في الهجوم عليهم، حتى أنه ألّف رسالة بعنوان "بيان طوائف المبطلين من الملثمين والمجسمين وعلاماتهم"، حسبما يذكر الدكتور عبد المجيد النجار في كتابه "تجربة الإصلاح في حركة المهدي بن تومرت".

في تلك الرسالة، وصف ابن تومرت المرابطين بأنهم كفرة مجسمون، وقال إن غزوهم واجب على كل مسلم، وكان يرى أنهم جسموا الله تعالى وأنهم حاولوا إعطاء الذات الإلهية صورة مادية ملموسة.

ويرى محمد زنبير في كتابه "المغرب في العصر الوسيط" أن حادثة حرق المرابطين في الأندلس لكتاب إحياء علوم الدين، وهو أحد كتب الغزالي، ساعدت ابن تومرت كثيراً في تدعيم مزاعمه حيالهم، كما ساعده في حملته ضدهم أن الفقهاء المرابطين كانوا بعيدين كل البعد عن قضايا الذات والصفات، واقتصرت جهودهم العلمية على الفروع فحسب.

ولم يكتفِ ابن تومرت بتكفير الحكام المرابطين وعلمائهم، بل ندد أيضاً بالعمال والموظفين الذين يعملون في الدولة المرابطية، ووصفهم بأنهم "عبيد الدينار والدرهم"، حسبما يذكر النجار في كتابه السابق ذكره.

أما بالنسبة إلى الممارسات العملية التي استشهد بها ابن تومرت على فسق وكفر المرابطين، فقد لخصها الدكتور فتحي زغروت في كتابه "الجيوش الإسلامية وحركة التغيير في دولتي المرابطين والموحدين"، في ثلاثة نقاط هي شرب الخمور وحرية بيعها في الحانات، تدخل النساء في سياسة الدولة، ومسألة اللثام، ذلك أن المرابطين كانوا معتادين على ارتداء اللثام، في حين أن نساءهم كنّ سافرات لا يرتدين الحجاب الشرعي المعروف.

وحاول المرابطون أن يدفعوا تلك التهم عن أنفسهم. فبحسب ما يذكر ابن القطان المراكشي في كتابه "نظم الجمان لترتيب ما سلف من أخبار الزمان"، أشاع المرابطون أن ابن تومرت منشق وخارج عن سلطة الدولة الشرعية، ووصفوا أتباعه بالخوارج، فرد عليهم الأخير بأن أطلق على دعوته اسم "الدعوة الموحدية" وقام بتسمية اتباعه بالموحدين لإيهام الناس بأن دعوته تتجه إلى إحياء عقائد التوحيد الخالصة.

ابن تيمية... فتوى تكفير الكسروانيين

على الرغم من أن شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية توفي عام 1327، في محبسه الذي اقتيد إليه بأمر من السلطان المملوكي، إلا أن في سيرته عدداً من اللحظات التي شهدت تقارباً بينه وبين السلطة المملوكية، وعمل فيها على إعطاء المبررات والمسوغات الشرعية لبعض الحملات والغزوات المملوكية ذات الطابع السياسي البحت.

في بدايات القرن الرابع عشر، كانت منطقة الشرق الأدنى تشهد صراعاً محتدماً بين المماليك في مصر والشام من جهة والمغول الإيليخانيين في إيران والعراق من جهة أخرى.

وعام 1299، تعرض المماليك لهزيمة قاسية على يد قوات غازان خان، في معركة وادي الخازندار، وأثناء انسحابهم من المعركة، تعرّض جيشهم لهجوم مفاجئ من أهل جبل كسروان (في لبنان حالياً)، الذين وجدوا في هزيمتهم فرصة مؤاتية للانتقام من الظلم الذي تعرضوا له على أياديهم، خلال عدد من السنوات السابقة.

تلك الهجمة الكسروانية شغلت بال سلاطين المماليك كثيراً، ولذلك راحوا يُعدون العدة للانتقام مما لحق بهم، بعد انتصارهم على المغول في معركة شقحب عام 1302.

كان ابن تيمية معاصراً لتلك الأحداث المتسارعة، وبادر بتقديم الحل للسلطة المغولية، عندما أفتى بتكفير أهل كسروان وباستحلال دمائهم.

ووقع اختلاف كبير بين المؤرخين والباحثين حول ديانة ومذهب أهل كسروان في تلك الفترة، وتأرجحت الأقوال بين كونهم مسيحيين موارنة ويعاقبة، أو علويين أو دروز، ولكن أقرب الأقوال إلى الترجيح ترى أن الكسروانيين كانوا شيعة إمامية إثناعشرية، وذلك حسبما يؤكد الدكتور محمد جمال باروت في كتابه "حملات كسروان: في التاريخ السياسي لفتاوى ابن تيمية".

وبحسب ما يذكره تقي الدين المقريزي في كتابه "السلوك لمعرفة دول الملوك"، توجّه ابن تيمية ومعه الأمير بهاء الدين قراقوش المنصوري إلى أهل جبل كسروان عام 1304، "يدعوهم إلى الطاعة فلم يجيبوا‏، فجمعت العساكر لقتالهم‏، وفي المحرم 705 هـ‏ (1305 م.) سار الأمير جمال الدين أقوش الأفرم نائب الشام من دمشق في عساكرها لقتال أهل جبال كسروان ونادى بالمدينة: مَن تأخر من الأجناد والرجال شنق‏.‏ فاجتمع له نحو خمسين ألف رجل وزحف بهم لمهاجمة أهل تلك الجبال ونازلهم وخرب ضياعهم وقطع كرومهم ومزقهم بعدما قاتلهم أحد عشر يوماً وملك الجبل عنوة ووضع فيهم السيف وأسر ستمئة رجل وغنمت العساكر منهم مالاً عظيماً"‏.‏

ورغم أن نص فتوى ابن تيمية التي ذهب فيها إلى تكفير الكسروانيين قد فُقدت ولم تحفظها لنا أي من المصادر التاريخية التي تؤرخ لتلك الفترة، إلا أن أصداءها تجلت في رسالة التهنئة التي أرسلها ابن تيمية إلى السلطان الناصر محمد بن قلاوون، والتي وردت بتمامها في مجموع فتاوي ابن تيمية.

في تلك الرسالة، يهنئ ابن تيمية السلطان بالفتح العظيم الذي شبّهه بالفتوحات الإسلامية الكبرى التي وقعت في فترة الخلافة الراشدة، ويصف أهل كسروان بقوله إنهم "أهل البدع المارقون، وذوو الضلال المنافقون الخارجون عن السنة والجماعة، المفارقون للشرعة والطاعة".

ويفسر الفقيه الشامي، السبب الذي دعاه إلى تكفير أهل كسروان، فيقول: "إن اعتقادهم أن أبا بكر وعمر وعثمان، وأهل بدر وبيعة الرضوان، وجمهور المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان وأئمة الإسلام وعلماءهم أهل المذاهب الأربعة وغيرهم ومشايخ الإسلام وعبادهم، وملوك الإسلام وأجنادهم، وعوام المسلمين وأفرادهم، كل هؤلاء عندهم كفار مرتدون، أكفر من اليهود والنصارى، لأنهم مرتدون عندهم، والمرتد شرّ من الكافر الأصلي".

ثم يدعو السلطان المملوكي في ختام الرسالة، إلى استكمال مجهوداته في القضاء على كافة أهل البدعة في جميع أنحاء مملكته، وخصوصاً في بلاد الشام والعراق والحجاز، وهو الأمر الذي يبدو وكأنه دعوة لاستكمال الفتوحات التوسعية المملوكية في منطقة الشرق الأدنى، على حساب رقعة السيادة الإيليخانية.

رصيف 22

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث

اتصل بنا

*
*
*