عمرو بن العاص ونابليون بونابرت حين دخلا مصر.. هناك فرق - مقالات
أحدث المقالات

عمرو بن العاص ونابليون بونابرت حين دخلا مصر.. هناك فرق

عمرو بن العاص ونابليون بونابرت حين دخلا مصر.. هناك فرق

لماذا خرج كل العلماء الذين كتبوا باللغة العربية من أمصار تنتمى إلى حضارات أخرى؟ كيف كان العرب يحرقون كل الآثار التى تخالف السائد حتى لم يتبقَّ منهم أى شىء؟

سمير درويش

قبل البعثة كان العرب يقرضون الشعر، ويعرفون الأماكن عن طريق مراقبة النجوم، لكنهم لم يخلفوا آثارًا تدل على معرفتهم بالعلوم والفنون الأخرى؛ النحت مثلًا أو العمارة والهندسة والطب والكيمياء.. وغيرها، وبعدها ظلوا يعرفون الشعر والفلك أيضًا، وكما ذكرت سابقًا فقد كانوا أُميين لا يقرؤون ولا يكتبون، حتى إنه لم يعرف لهم كتابًا واحدًا قبل القرآن الكريم، الذى تم جمع معظمه من صدور الحُفاظ؛ لهذا لم يكن مستغربًا أنهم ركزوا فقط على «الخِراج» الذى يحصدونه من الأمصار التى يغزونها، دون أن يستفيدوا من فنونها وعلومها وحضاراتها، وليس أبلَغ دليلًا على ذلك من أن استقرار العرب فى مصر وتعريب لسانها ودخول أهلها الإسلام قد طمس كليًّا الحضارات السابقة فيها، فلم نعد نعرف الكتابة المصرية القديمة حتى فك شامبليون رموز حجر رشيد فى نهاية القرن التاسع عشر، وحتى اليوم لا نعرف أسرار التحنيط، ولا الحسابات الفلكية الدقيقة التى بُنى بها معبد رمسيس الثانى -مثلًا- بحيث تتعامد الشمس مرتين على وجهه كل عام: يوم 22 أكتوبر، ويوم تتويجه ملكًا فى 22 فبراير.

والملاحظ أن الأمصار التى دخلت الإسلام دون أن تتكلم العربية خرج منها «العلماء» الذين يفخر بهم العرب حتى اليوم؛ مثل ابن سينا «370- 427هـ»، الطبيب والفيلسوف الذى وُلد وعاش فى بخارى فى بلاد فارس، وابن الهيثم الذى ولد فى البصرة «354- 430هـ»، وقدم إسهامات فى الرياضيات والبصريات والفيزياء والهندسة، وابن النفيس مكتشف الدورة الدموية الصغرى، الذى ولد فى دمشق عام 607، ومات فى القاهرة عام 687هـ، وابن رشد «520- 595هـ»، وهو أندلسى من قرطبة، فيلسوف وطبيب وفقيه وقاضٍ وفلكى وفيزيائى، وابن خلدون «732- 808هـ» إشبيلى الأصل، الذى ولد فى تونس ومات فى مصر عن عمر يناهز 96 عامًا.. وغيرهم، والملاحظ أيضًا -غير أنهم ليسوا من أصول عربية- أنهم متأخرون، ولدوا بعد قرون من البعثة. صحيح أنهم كتبوا ما كتبوه باللغة العربية، لكن الصحيح أيضًا أنهم أبناء حضارات قديمة أخرى؛ مثل الفينيقية والآشورية والبابلية والمصرية والأمازيغية والفارسية والأندلسية. بل إن وجود العرب فى تلك الأمصار جلب لهم الحروب والصراعات على السلطة، فضلًا عن تحصيل الضرائب الباهظة.
فإذا قارنت مسلك العرب فى غزواتهم واهتمامهم بجمع الضرائب كأولوية أولى بما فعله نابليون بونابرت حين غزا مصر عام 1798، يمكن أن تقف على الفرق بين خلفية حضارية وأخرى، بين التفكير السائد هنا وهناك، فقد جلب نابليون معه -وهو جنرال عسكرى- مجموعة من العلماء فى المجالات المختلفة، درسوا كل شىء واستفادوا وقدموا خدمات جليلة للمصريين، إذا تجاوزنا عن كونهم غازين، فإنهم رحلوا بعد سنوات ثلاث، عام 1801 بعد قتل القائد العسكرى كليبر على يد سليمان الحلبى، وتركوا ما توصلوا إليه، خصوصًا ما يتعلق بفك رموز الكتابة المصرية القديمة، التى عرَّفت المصريين والعالَم أسرارًا لم تكن معروفة عن حضارتهم القديمة، بالإضافة إلى أن الرحّالة الأجانب وضعوا كتبًا مهمة تصف الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للمصريين وقت مرورهم، وهى المصادر الوحيدة -غالبًا- التى نتعرف منها على شكل الحياة القديمة عندنا، والعادات والتقاليد والطقوس وشكل العلاقة بين المُلاك والمستأجرين وبين الرجل والمرأة، والأساطير التى كان يتناقلها المصريون حينها.
أضف إلى كل ما سبق أن العرب كانوا يدمرون كل أثر يدل عليهم، وكل ما يخالف السائد لديهم، خصوصًا الروايات المختلفة والمعارضة. حدث ذلك مع القرآن الكريم نفسه بعد جَمعه فى عهد عثمان بن عفان، إذ جمع المصاحف السابقة عند بعض الأوائل، والآيات المكتوبة هنا وهناك عند بعض الصحابة، وأمرَ بحرقها، حتى لا يظل غير مصحفه، هذا الذى اندثر كذلك، وبالتالى فليس لدى العرب أى وثيقة مكتوبة قبل نهاية القرن الهجرى الثانى وبداية الثالث، والغريب فى الأمر أن الكتب القديمة تثبت بعض الرسائل والخطب بنصوصها المسجوعة، ويدافع المتحيزون للقديم عن ذلك بأن تلك الآثار تم تناقلها بين الأجيال، من الأب إلى الابن إلى الأحفاد، وأن الله قد حبا العرب بذاكرة قوية تحفظ ما تسمع، وكأن العرب جنس غير جنس البشر! وهو الأمر غير المنطقى وغير المقبول أو المعقول، والأقرب أن كثيرًا من تلك الآثار تمت صناعتها متأخرًا ونسبتها إلى بعض الصحابة لتأخذ قدسية ما، ولصناعة تاريخ من العدم.
والعرب الأوائل لم يكونوا يتحرجون من فكرة «غزو» الأمصار وفرض ضرائب باهظة على أهلها تُنقل إلى مركز الحكم، سواء فى المدينة ومكة أو دمشق والبصرة بعد ذلك، بل إن تقييم الخليفة كان على أساس ما يقوم به من الغزو وحصد الغنائم، حتى إن قرآنًا نُزل فى تنظيم توزيعها: «مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ ۚ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ» «الحشر: 7»، كما أنهم كانوا يسمّون الغزو غزوًا، ولم يتحول إلى «فتح» إلا عند المتأخرين الذين بدؤوا فى البحث عن مرادفات أكثر قبولًا للمصطلحات الأولى، ومن ذلك ما أورده الشريف الرضى فى كتابه «نهج البلاغة» من خطبة للإمام علِى: «قالها يستنهض بها الناس حين ورد خبر غزو الأنبار بجيش معاوية فلم ينهضوا. وفيها يذكر فضل الجهاد، ويستنهض الناس، ويذكر علمه بالحرب، ويلقى عليهم التبعة لعدم طاعته»، قال: «أما بعد، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة فتحه الله لخاصة أوليائه وهو لباس التقوى ودرع الله الحصينة وجنته الوثيقة فمن تركه رغبةً عنه ألبسه الله ثوب الذل وشمله البلاء وديث بالصغار والقماءة وضرب على قلبه بالإسهاب وأديل الحق منه بتضييع الجهاد وسيم الخسف ومنع النصف»، «ألا وإنى قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلًا ونهارًا وسرًّا وإعلانًا وقلت لكم اغزوهم قبل أن يغزوكم فوالله ما غزى قوم قط فى عقر دارهم إلا ذلوا فتواكلتم وتخاذلتم حتى شنت عليكم الغارات وملكت عليكم الأوطان».
الاقتصاد الإسلامي -إذن- قام على الغزو وتحصيل الضرائب من الأمصار المختلفة لتصب فى بيت المال، ويعيد الخليفة توزيعها على المركز المحدود فى مساحته وعدد سكانه، والمدهش أن المسلمين الأوائل كانوا يرون «العدل» و«الظلم» فى هذا النطاق، فالخليفة العادل هو مَن يقسِّم بالتساوى هذه الجباية الآتية من كَد وتعب أناس آخرين فى أمصار بعيدة، وغير العادل هو مَن يميز قبيلة عن أخرى أو أناسًا عن آخرين من المركز ذاته، دون أن تجرح أعينهم فكرة الحصول على أموال الآخرين، فهم يعتبرونها حقًّا لهم لأنهم الغالبون، بينما المتأخرون أجهدوا أنفسهم لإيجاد تخريجات تبدو مقبولة -وهى ليست كذلك- عن أن تلك الأموال كانت تحصَّل مقابل الحماية.. الحماية التى لم يطلبها أحد بالأساس، غير أن الحماية تكون من الغازى أساسًا! كما أنهم (المتأخرون) يقبلون هذا المنطق المنقوص باعتبارهم مسلمين الآن، وعلى الرغم من أن أصولهم ليست عربية فى الغالب، بل كانوا ينتمون إلى أولئك المغلوبين الذين أجبروا على دفع الضرائب المُبالغ فيها، فإنهم يتبنون وجهة نظر الغازى المسلم.
وليت الأمر كان يتوقف عند جباية الضرائب وتحويلها إلى المركز! بل إن الولاة كانوا يحصلون ضرائب كبيرة جدا، يحولون الكثير منها إلى خليفة المسلمين أينما كان كى يضمنوا البقاء فى أماكنهم، ويحتجزون لأنفسهم جزءًا -كبيرًا أيضًا- لحسابهم الخاص، ومن ذلك أن عمر بن الخطاب كتب إلى عمرو بن العاص، واليه على مصر، حين استبطأه فى الخراج، وكنت كتبت عن ذلك فى مقال سابق، ومما كتب إليه قوله: «ولم أقدمك إلى مصر أجعلها لك طعمة ولا لقومك ولكنى وجهتك لما رجوت من توفيرك الخراج وحسن سياستك فإذا أتاك كتابى هذا فاحمل الخراج فإنما هو فىء المسلمين وعندى من قد تعلم قوم محصورون»، «وفى كتاب ابن بكير عن ابن زيد بن أسلم عن أبيه قال: لما استبطأ عمر بن الخطاب عمرو بن العاص فى الخراج كتب إليه أن ابعث إلىَّ رجلًا من أهل مصر، فبعث إليه رجلًا قديمًا من القبط، فاستخبره عمر عن مصر وخراجها قبل الإسلام، فقال: يا أمير المؤمنين، كان لا يؤخذ منها شىء إلا بعد عمارتها، وعاملك لا ينظر إلى العمارة وإنما يأخذ ما ظهر له كأنه لا يريدها إلا لعام واحد»! هذا التسابق المحموم نحو حصد الضرائب من مواطنى الأمصار المفتوحة هو الذى صنع الاقتصاد الإسلامى، لذلك فليس ثمة ما يمكن البناء عليه فى هذا الباب سوى الجباية والغنم والبيع والشراء فى البشر.

الهوامش:
تعامد الشمس
كان يحدث يومى 21 أكتوبر و21 فبراير قبل عام 1964، وبعد نقل معبد أبو سمبل فى بداية الستينيات إلى موقعه الحالى، أصبحت تتكرر يومى 22 أكتوبر و22 فبراير. وقد اكتشفت إميليا إدواردز هذه الظاهرة عام 1874، إذ قامت والفريق المرافق لها برصد الظاهرة وتسجيلها فى كتابها «ألف ميل فوق النيل» المنشور عام 1899.

غزوات العصر النبوى
أو كما أطلق عليها المؤرخون «غزوات النبى محمد بن عبد الله». بدأت مع ظهور الدين الإسلامى فى القرن السابع الميلادى، وذلك بعد أن شُرع للمسلمين الجهاد، إذ إن هذه الغزوات، مع اختلاف أسبابها، جاءت بالتوافق مع مبدأ الحرب الدينية من مفهوم إسلامى أو ما يطلق عليه الجهاد.

المقال

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث

اتصل بنا

*
*
*