أعادت دراسة حديثة أجرتها جامعة بريستول البريطانية، بالتعاون مع باحثين من جامعة تينيسي الأمريكية، الجدل مجدداً حول العلاقة بين العلمانية والتنمية الاقتصادية.
وعلى مر التاريخ، ناقش الكثيرون من العلماء في العلوم الاجتماعية العلاقة بين العلمانية والازدهار الاقتصادي. على سبيل المثال تحدّث عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم (1858 - 1917) عن تراجع دور الدين حين تحقق التنمية الاقتصادية احتياجاتنا المادية.
كما أشار عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر (1864 –1920) إلى أن حدوث تغيّرات في فهم أبناء بلد ما للدين يمكنه دفع عجلة الاقتصاد في هذا البلد.
لكن النقاشات السابقة ظلت غير قادرة، من الناحية العلمية، على إثبات العلاقة بين تراجع تأثير الدين وانتشار الأفكار العلمانية من جهة، وبين حدوث تنمية اقتصادية من جهة أخرى.
ويمكن القول إن الدراسة التي نشرتها مؤخراً مجلة Science Advances ، وهي مجلة تصدرها الجمعية الأمريكية للعلوم المتقدمة، تحمل إجابات عدة على الأسئلة التي كثيراً ما شغلت المفكرين.
ورغم أن الدراسة التي حملت عنوان "التغيّر الديني سبق التغيّر الاقتصادي في القرن العشرين" لم تؤكد بشكل قطعي أن تراجع الدين في بلد ما هو السبب الأكيد لحدوث تنمية اقتصادية فيه، إلا أنها أكدت في المقابل أن حدوث تطور في تعاطي الدول مع الدين سبق ازدهارها اقتصادياً، وليس العكس.
وخلصت الدراسة التي قامت بقياس أهمية الدين في 109 دول، في القرن العشرين، إلى أنه يمكن للدول العلمانية توقع نمو اقتصادي في مستقبلها.
منهجية الدراسة
استعانت الدراسة ببيانات من المشروع البحثي "مسح قيم العالم"World Values Survey والذي يُعرف اختصاراً بـ (WVS)، وهو مشروع عالمي يسعى إلى اكتشاف قيم الشعوب ومعتقداتها، ويوضح كيف تتغيّر بمرور الوقت.
ومن خلال هذا المسح، تعرّف الباحثون على أهمية الدين لدى الكثير من الشعوب طوال 100 عام، وبالتحديد من عام 1900 وصولاً إلى عام 2000، أي طوال القرن العشرين.
ولحظت الدراسة في منهجيتها عدة عوامل، منها عامل يتعلق بأهمية الدين في حياة المرء، وهو العامل الذي حدد الباحثون على أساسه مقياس العلمانية في بلد معيّن.
وهناك عامل آخر اهتمت الدراسة برصده، وهو المتعلق بمدى تقبل المواطنين لبعض السلوكيات التي غالباً ما تكون ممنوعة اجتماعياً، ومنها الانتحار، المثلية الجنسية، أو الإجهاض، وأطلق الباحثون على هذا العامل اسم "عامل التسامح"، كما هناك عوامل أخرى كثيرة.
ورغم أن الدراسة لم تؤكد بشكل قطعي أن العلمانية هي السبب الأساسي للتطور الاقتصادي، إلا أنها أظهرت أن احترام الحقوق الفردية والتسامح معها، سببان رئيسيان للتنمية الاقتصادية في الكثير من البلدان.
وكشفت أن البلدان التي لديها قدر أكبر من التسامح مع أمور مثل الإجهاض والطلاق والمثلية الجنسية تنتظرها في المستقبل فرص أكبر للازدهار الاقتصادي، على عكس الدول التي لا تتسامح مع هذه الأمور، أو تعاقب أصحابها.
السبب هنا هو أن هذا التسامح تكون نتيجته مشاركة مزيد من الناس في الأنشطة الاقتصادية المختلفة الموجودة داخل هذه البلاد.
ولتبسيط الأمر، تخيلوا أن بلداً ما يقوم باعتقال المثليين جنسياً ويعتبرهم مجرمين، وبالتالي يلقي بهم في السجون. هذا يعني أن اقتصاده لن يستفيد منهم.
وفي المقابل تخيّلوا بلداً آخر يتسامح مع هذه الميول ويرحب بأصحابها في المصانع والشركات المختلفة. هذا سيحسن من اقتصاد هذا البلد.
وأشارت الدراسة بشكل خاص إلى أن البلاد التي تتسامح مع النساء، ولا تتعامل معهن بتمييز، يتحسن اقتصادها بدرجة أكبر من البلاد التي تمارس تمييزاً ضدهن.
وإلى جانب التسامح، أظهرت الدراسة عنصراً مهماً آخر يُحتمل كونه محركاً للتنمية الاقتصادية، وهو عنصر التعليم. فقد بيّنت أن تطوير نظام التعليم في بلد ما ينبئ بالناتج المحلي الإجمالي المستقبلي، وهو ما يبرر أن بعض الدول غير العلمانية التي توفّر دعماً كبيراً لتدريس العلوم يزدهر اقتصادها، حتى لو كانت دولاً دينية.
ويقول داميان روك، الباحث في علوم الصحة السكانية في جامعة بريستول، وهو الباحث الرئيسي في الدراسة، إن الدراسة بيّنت أن العلمانية لن تؤدي وحدها إلى التنمية الاقتصادية إلا إذا صاحب ذلك احترام أكبر للحقوق الفردية.
ويضيف روك أن نتائج الدراسة لا تعني أن الدول الدينية لا يمكن أن تصبح مزدهرة اقتصادياً، لكنها تحتاج إلى إيجاد طريقها الخاص في تطوير مفاهميها حول احترام حقوق الأفراد.
رصيف 22