حسام الحداد
القرآن لا يحتوي بين طياته على نظرية للحكم، فهو في المقام الأول كتاب دين وليس كتاباً في علم السياسة، يؤكد الدكتور أشرف منصور في حوار مع رصيف22. وبرأيه، فإن إسكات العقل الفلسفي في الحضارة الإسلامية منذ فترة طويلة هو سبب ما نحن فيه الآن، ولاستعادة هذا العقل علينا استئناف المعركة الفكرية مع التراثيين.
منصور هو أستاذ الفلسفة بكلية الآداب في جامعة الإسكندرية وباحث في العلوم الإنسانية، ويقول عن نفسه إنه لا يقتنع بالانغلاق في فرع علمي واحد، لأنّ هذا يضرّ بتكامل المعرفة الإنسانية.
يهتم منصور بإعادة الاعتبار للفلسفة كسبيل لتجاوز المأزق الفكري العربي الراهن. وله كتب عدة منها "النقد المعاصر للفكر السياسي الليبرالي"، "الاتجاه النقدي في الفكر الفلسفي المعاصر"، "الليبرالية الجديدة - جذورها الفكرية وأبعادها الاقتصادية"، "العقل والوحي: منهج التأويل بين ابن رشد وموسى بن ميمون وسبينوزا".
وله مقالات وأبحاث كثيرة تعكس تعدد اهتماماته، إذ كتب عن "استراتيجية السلطة وتكتيك الأقلية"، وعن حسن حنفي والقراءة الفينومينولوجية للتراث الديني وعن الصدام بين المجتمعات التقليدية والحداثة...
إلى نص الحوار:
- كتبت: "يُقال إن نظام الحكم الإسلامي هو نظام الخلافة، ويقال إن هدف الحركات الإسلامية هو تنصيب خليفة. لكنهم ينسون أن كلمة ‘خليفة’ مذكورة في القرآن بمعنى الجنس البشري كله: ‘إني جاعل في الأرض خليفة’. الخليفة هو الإنسان، هو البشرية كلها، وليس شخصاً بعينه". هل هناك نظام حكم إسلامي، وما هي الفروقات بين رؤية المؤسسة الدينية لنظام الحكم ورؤية هذه الحركات له؟
ليس هناك نظام حكم إسلامي. فالقرآن لم يوصِ بنظام للحكم، في حين أنه فصَّل كيفية الوضوء. لماذا؟ لأنه كتاب دين وليس كتاب سياسة. لكن الذي حدث أن الإسلام نزل في سياق تاريخي معيّن وفي مجتمع معيّن، أي في سياق سياسي معيّن. أسس المسلمون الأوائل دولة، وفقاً لمقتضيات عصرهم، لكن ليس معنى هذا أن الإسلام جاء لتأسيس دولة أو تعيين نظام سياسي معيّن. إذا ربطنا بين الإسلام ونظام في الحكم، فإننا نربط المطلق بالنسبي، والأخلاقي بالقانوني والسياسي، وهو خلط يضر بالدين والسياسة معاً. المشكلة أن الكثيرين من المسلمين لا يستطيعون التمييز بين المجال الأخلاقي للدين والمجال السياسي للدولة ولنظم الحكم، ولذلك تسمعهم يتكلمون كثيراً عن ضرورة الاستقامة الأخلاقية للحكام، وضرورة توجيه الإسلام للسياسة، وهم يقصدون التوجيه الأخلاقي لها. كل هذا نتيجة الخلط وعدم القدرة على التمييز بين النظام السياسي القانوني المحايد القائم على التعاقد الاجتماعي من جهة، ومجال الأخلاق من جهة أخرى.
- يقول الروائي والباحث عبد الرشيد المحمودي في كتابه "فلاسفة الأندلس... سنوات المحنة والنفي والتكفير" إن من أسباب جهلنا بالفلسفة الإسلامية أننا لا نعنى كما ينبغي بدراسة الفلسفة اليونانية، وبخاصة أفلاطون وأرسطو وأفلوطين، ولا نحصّل من ذلك إلا القشور. وليس من الممكن لمَن لم يتقن دراسة أرسطو بصفة أخص أن يقدم دراسة جادة عن أي فيلسوف إسلامي، بما في ذلك الغزالي الذي كان خصماً لدوداً للفلاسفة المسلمين. ما رأيكم في هذه المقولة وما هو دور الفلسفة الآن؟
قوله صحيح تماماً. لكنه يكتب كباحث متخصص وتوصيته هي للباحثين المتخصصين. المثقف العادي لا يمكنه قراءة أرسطو على وجه الخصوص نظراً لصعوبة نصوصه، وكذلك الحال بالنسبة إلى أفلوطين، أما أفلاطون فلأنه كان يكتب في صورة محاورات فإن أسلوبه أسهل، وإن كان في حاجة إلى عرض أفكاره بصورة نسقية مركزة بعيداً عن أسلوب المحاورات. ويظل المثقف في حاجة إلى أعمال وسيطة تقرب إليه الفلاسفة الكبار.
أما عن دور الفلسفة الآن، فلم تمرّ على أمتنا فترة هي أحوج فيها إلى الفلسفة من هذه الفترة المعاصرة. الإرهاب منتشر، والسلفية صاعدة ومسيطرة، ولا يمكن القضاء على هذه الظواهر إلا بالفلسفة. لكن العقلية السلفية التراثية كانت قد حصنت نفسها ضد الفلسفة منذ زمن بعيد يرجع إلى بدايات ظهور الفكر العقلاني في العالم الإسلامي على يد المعتزلة والفلاسفة، فتمت معربة (تقبيح كلامهم) المعتزلة وتكفير الفلاسفة. ولذلك فإن الثقافة العربية المعاصرة ورثت الحرب على الفلاسفة وورثت تراث تكفيرهم وتكفير المعتزلة من التراث الفقهي والسلفي الإسلامي. وبالتالي فمن أجل إحياء الفلسفة يجب أولاً إزالة العداء التراثي السلفي للعقل والتفكير العقلاني. وهي معركة يجب علينا خوضها، لأن إسكات العقل، المعتزلي والفلسفي، كان نتيجة معركة، شنها التراثيون قديماً، واستعادة العقل مرة أخرى يتطلب استئناف المعركة. والمعركة تم استئنافها بالفعل من قِبَل الاتجاهات الظلامية المعاصرة، معركة ضد العقل والعقلانية.
- منذ محمد عبده وحتى الآن، هناك محاولات جادة للتنوير، وإعلاء قيم العقلانية والمساواة والمواطنة، ولكنها في الأخير لم تؤثر في حركة الواقع تأثيراً كبيراً، مثل ما قامت به الحركات الماضوية المتأسلمة من تأثير مستندة على تراث ابن تيمية من ناحية ومحمد بن عبد الوهاب من ناحية أخرى، فمن وجهة نظرك، لماذا فشل التنوير؟
لفشل التنوير أسباب كثيرة جداً، منها أنه كان نخبوياً ولم يصل إلى الطبقات الشعبية، ومنها أنه لم يستطع التعامل مع السلفية الفطرية للطبقات الشعبية وميلها لتصديق رجال الدين، ومنها أن التنوير كي ينجح كان يجب أن يكون جزءاً من حركة تحديث ناجحة، لكن التحديث فشل وفشل معه التنوير. ومن الأسباب أن التنوير دائماً ما يأتي في سياق معركة وصراع. خصوم التنوير يحاربونه حرباً شعواء، ويستخدمون سلاح التكفير ويشوهون خصمهم ويقتلونه معنوياً ويهددونه في حياته ورزقه وسمعته. ولم يكن رواد التنوير يملكون شيئاً لمواجهة هذا العدوان، فهم لم يكونوا بالشراسة التي يتمتع بها خصومهم، ولم تكن لديهم المنابر والمنصات الإعلامية والتمويل الضخم، هذا بالإضافة إلى أن الدولة نفسها لم تكن جادة في مشروع التنوير ولم تكن تقف بجانب التنويريين، بل وقفت ضدهم، إما بصراحة أو بسلبية.
- طغت شخصية ابن تيمية (661- 728هـ) ومنهجيته على الخطاب الإسلامي في المرحلة الماضية. هل ابن تيمية هو نموذج مناسب للمرحلة الراهنة والمستقبلية، أم علينا البحث عن نموذج آخر مثل الإمام الشاطبي (720-790هـ( كما يروّج البعض ومنهم مسفر بن علي القحطاني؟
سوف يظل ابن تيمية مسيطراً لفترة طويلة قادمة، طالما لم نستطع معالجة شرور التفكير السلفي. ولن يصلح الشاطبي لتخليصنا من هذه الورطة، لأنه يتكلم من داخل التراث وبنفس منطقه مهما كان تقدمياً بالنسبة إلى عصره وبالنسبة إلى الحالة المتردية لعصرنا. يجب تجاوز العقلية الفقهية كلها كي نتقدم. وإنني أرى أن التحدي الذي يمكن الاشتغال عليه لمواجهة السلفية هو إعادة إحياء فكر المعتزلة والمتصوفة والفلاسفة. كلهم تعرضوا للتكفير، وأي محاولة لإحياء أفكارهم سوف تقابل بالتكفير أيضاً، وعلى المثقفين الذين ينوون دخول المعركة أن يعملوا حساب حملات التكفير التي سوف تشن ضدهم. أرى أن الطريقة هي إعادة فتح الملفات المتروكة منذ هزيمة المعتزلة والفلاسفة: قضية التأويل ومجازية النص الديني، أولوية العقل على الوحي، العلاقة بين التصور الفلسفي والتصور الديني للإله ولعلاقته بالعالم. بالإضافة إلى طرح القضية الحديثة حول تاريخية النص أمام العامة لتكون قضية رأي عام. كل هذا من أجل إنقاذ النص الديني من سيطرة رجال الدين والتيارات السلفية.
ليس ابن تيمية هو المسيطر بين العامة، بل الشيخ الشعراوي الذي يقدسه الناس الآن. كي نواجه السلفية الشعبية، يجب علينا دراسة الشعراوي جيداً لمعرفة كيفية سيطرته على الناس وسر جاذبية خطابه. لاحظ أن الدولة نفسها أسهمت في تضخم ظاهرة الشعراوي، بإذاعتها لبرنامجه كل يوم جمعة على مدى عقود كثيرة، وفي رمضان يومياً. الشعراوي عمل على غسل أدمغة الكثير من المصريين، وتهيئتهم لقبول أفكار أكثر تشدداً. والمشكلة الكبرى أن الدولة ليست مع التنوير، بل هي ترضخ للتيارات السلفية خوفاً منها، وأحياناً بسبب سيطرة العقليات السلفية على الكثر من قياداتها.
- كثيراً ما نعترف بأن الظاهرة السلفية ليست مجرد سلوكيات ومواقف وبعضاً من الأفكار المتطرفة أو الفتاوى الشاذة التي تخرج علينا ليل نهار نتيجة لفهم متشدد للدين، فالظاهرة السلفية في حقيقتها منهج في التفكير يختلف كثيراً عن المناهج التي اعتمدتها المدارس الفكرية المختلفة. فمن وجهة نظركم كيف يفكر العقل السلفي؟ وما هي أهم ملامح السلفية؟ وهل هناك علمانية سلفية أو ليبرالية سلفية كما يردد البعض؟
العقل السلفي شفاهي، سمعي، متصلب حول النصوص، رجعي، بمعنى أنه يعتقد أن الماضي أفضل من الحاضر، ويقوم بإضفاء الطابع المثالي عليه، وهو مغترب عن عصره، لديه ثقة زائدة في النفس في غير محلها، منغلق على التيار الذي ينتمي إليه، لديه نزعة استعلاء على غيره من المسلمين، مُستعبَد تماماً لأشخاص، سواء كانوا شيوخه الحاليين أو شيوخه الأموات أو التراثيين، وهو انفعالي يميل إلى العنف، وتفكيره خطابي وليس برهانياً علمياً، يؤمن بالخرافات والخزعبلات، يقدس أحاديث الرسول ويتمسك بها أكثر من تمسكه بالقرآن، ويصدق ما يقال له من أن السنة تنسخ القرآن، السنة لديه أهم من القرآن. وهو يستمد ثقافته ومعلوماته شفاهة من الداعية ورجل الدين وخطيب المسجد والشيخ في الدرس الديني، ولا يقرأ، إلا في أضيق الحدود، وما يقرأه يؤكد لديه تعصبه ويثبته.
الطريقة الوحيدة للتعامل مع هذه العقلية هو أن تهز لديها الأرضية التي تقف عليها. سوف تقابلك هذه العقلية بانفعالات الغضب وسوف تجد منها أخلاقاً في منتهى السوء، فهذه النوعية من العقليات عندما تشككها في مسلماتها الخاطئة تقابلك بالتكفير والاستهزاء، ولذلك كن مستعداً لأسوأ أنواع الأخلاقيات والسلوكيات البذيئة. ووسط كل ذلك، عليك أن تتمسك بهدوء أعصابك ولا تنجرّ معهم إلى مناقشات جانبية. جادلهم بالتي هي أحسن، وكن على ثقة من أن الأفكار التي ستصلهم، بعد أن يرفضوها بعنف، كاشفين عن أعراض عصابية وأمراض نفسية متأصلة فيهم، سوف تؤثر عليهم في ما بعد.
أما ما يقال من أن هناك علمانية سلفية وليبرالية سلفية، فالمقصود منه تعصب أصحاب هذه التيارات لأفكارهم وتصلبهم حولها وعدم تمكنهم من مناقشتها، مثل السلفي الديني بالضبط. لكن التمسك بالأفكار والمبادئ حينما يكون عن دراسة وقراءة واعية وقدرة على البرهنة والحجة المقنعة، فلن يؤدي أبداً إلى سلفية من أي نوع.
- هل هناك سلفية محددة بطبيعة فكرية وإيديولوجية ناجزة، أم سلفيات متعددة؟ أم أنها في مجموعها تأتي رداً على التوجهات الإسلامية المعتدلة، أو بطش السلطة؟
السلفيات كثيرة ومتنوعة جداً، وبواعثها متعددة. لكن أخطر أنواع السلفية الذي أراه الآن هو السلفية المنتشرة بين الشباب. تجد شباباً في العشرينات والثلاثينات من العمر، يحافظون على مظهر سلفي في الزي وإطلاق اللحية، وبين الفتيات ينتشر زي يقال إنه إسلامي ويتشكل أغلبه من الخمار أو النقاب. أنا أتعجب من هؤلاء الشباب الذين كان من المفترض أن يكونوا أكثر تفتحاً بحكم سنهم وبحكم معايشتهم لعصر جديد وتكنولوجيا جديدة وأفكار جديدة. مهمتنا هي مع هذا الشباب، يجب إنقاذهم مما هم فيه.
- لك مقالة أو أكثر عن ابن رشد والرشدية وكيف اهتم الغرب به بعد موته ولم يهتم به العرب، وهناك التنويريون الرشديون في عصرنا الحديث، فكيف تعامل هؤلاء مع مقولات ابن رشد وفلسفته، وهل تصلح هذه المقولات الرشدية لعصرنا الراهن؟
الرشدية لا زالت صالحة في عصرنا، على الرغم من النقد الموجه لها الآن، من مثل أن ابن رشد نصوصي هو الآخر، إذ تقيد بنصوص أرسطو واتخذه سلطة مرجعية لا تُساءل ولا تناقش واعتبر أن قوله هو الحق. ومن الانتقادات أن مفهوم ابن رشد عن العقل والعقلانية لا يصلح الآن، لأنه تصور واحدي ماهوي وكلي ومجرد، في حين أن الخطابات الفكرية المعاصرة أكدت على تعدد معاني العقل والعقلانية، فصارت العقلانية مجرد اتساق داخلي لأي فكر، حتى لو كان فكر ابن تيمية.
كما أن هناك نقداً هاماً لابن رشد يركز على محدودية رؤيته التنويرية ونظريته التأويلية، فهو قسّم الناس إلى عامة وخاصة، وقصر التأويل على الخاصة ومنع العامة من الاطلاع عليه، وعمل على تثبيت معتقدات العامة في البعث والخلود وفي الذات والصفات.
وكل هذا النقد سببه أن مَن يوجهونه ركزوا فقط على كتابين لابن رشد، "فصل المقال"، و"الكشف عن مناهج الأدلة". في هذين الكتابين كان ابن رشد يتخفى ولا يظهر مذهبه الحقيقي، كنوع من التقية وكي لا يخيف العامة وفقهاءها من الفلسفة. هذان الكتابان موجهان إلى العامة وفقهاء العامة، لا إلى الخاصة من الفلاسفة، أما للأخيرين فقد كتب لهم "تهافت التهافت" وقام ببعثرة مذهبه الخاص عبر شروحاته المتعددة على أرسطو كأسلوب في الإخفاء والتقية.
وعند الكشف عن حقيقة مذهب ابن رشد، يتبين لنا أنه مفكر راديكالي حر، وعقلاني بمذهب خاص به مستقل عن مذهب أرسطو. ابن رشد هذا، باعتباره مفكراً حراً، عقلانياً، هو الذي أثر في أوروبا وأحدث نهضة فكرية فيها. ونحن في حاجة إلى ابن رشد الحقيقي.
- هناك مَن يدعون إلى قطيعة كاملة مع التراث، للدخول في حالة الحداثة الغربية، والخروج من أزماتنا الفكرية والسياسية والاجتماعية وبالتالي الاقتصادية، وهناك مَن يطالب بإعادة قراءة التراث، قراءة نقدية وتحليلية نستطيع من خلالها دخول الحداثة. أي طريق هو الأفضل برأيك، أم أن هناك طريقاً ثالثاً يمكن أن نسلكه؟
أعتقد أن أفضل طريقة للتعامل مع التراث، ليس رميه تماماً، بل دراسته دراسة موضوعية تماماً، كما لو أنه تراث أناس آخرين غيرنا. تراثنا مليء بالمهازل والأشياء المضحكة والمبكية، ومليء بالخرافات والخزعبلات والأمراض النفسية، ويجب علينا الانعزال عنه مع الاحتفاظ به موضوعاً للدراسة، فمن المهم للغاية أن تتعرف الأجيال الحالية والقادمة على التراث في سلبياته.
أما بالنسبة إلى الحداثة، فأنا أرفض النظر إليها على أنها حداثة غربية فقط، أو أوروبية. نقد الحداثة من منطلق أنها فكر غربي وثقافة أوروبية غير صحيح، لأن فيها مبادئ وقيم كلية.
صحيح أن الحداثة نشأت في الغرب، إلا أنها ليست قاصرة على الغرب ولا حكراً عليه. إنها في جانب منها تعبير عن خبرة تاريخية أوروبية، لكنها في جوانب كثيرة تتصف بالعالمية. ومن هذه الجهة فإن دخولنا الحداثة هو مشاركتنا في الهموم الإنسانية العالمية وفي تقديم الحلول لها، لا في التقيد بمشاكلنا التراثية التي تجاوزها الزمن.
- هل هناك حداثة واحدة أم حداثات يمكن استلهام واحدة منها والبناء عليها؟ وهل الأفكار الحداثية العربية قائمة على "الاتباع" و"التقليد" كما يتهمها البعض؟
أنا أنظر إلى الحداثة على أنها العقلانية والتوجه الطبيعي والمادي والنزعة الإنسانية. وكل تيار فكري في حضارتنا تظهر فيه هذه التوجهات يحوي بذور الحداثة. ستجد هذه التوجهات كما قلت لدى المعتزلة وفلاسفة الإسلام، كما ستجد البعض منها في شعراء مثل أبي العلاء المعري، ومفكرين مثل مسكويه والتوحيدي، وعلماء مثل الحسن بن الهيثم وجابر بن حيان. هؤلاء جميعاً أصحاب أفكار مبتكرة، خرجت عن السائد والمألوف، وهم لم يكونوا مقلدين أبداً.
- كيف تقرأ مصطلح "الإسلام السياسي"، في ضوء "ثورات الربيع العربي"؟
أتباع الإسلام السياسي لا يشعرون بأن فكرهم يسمى "إسلاماً سياسياً"، هم يفهمونه على أنه الإسلام ذاته. مصطلح "الإسلام السياسي" مصطلح علمي أكاديمي في بدايته، ثم صار مصطلحاً سياسياً منتشراً في النقاشات والنزاعات السياسية، ثم صار مصطلحاً إعلامياً. المصطلح يفترض التمييز بين الإسلام والإسلام السياسي، أي بين الإسلام كدين وأخلاق من جهة، والتوظيف السياسي للإسلام من جهة أخرى. طبعاً أتباع تيارات الإسلام السياسي يرفضون هذا التمييز ويصرون على أن الإسلام دين ودولة، أو دين وسياسة، وينظرون إلى الفصل بينهما على أنه غير مشروع وغير إسلامي. وهذه هي النقطة التي يجب التركيز عليها: يجب فصل الدين عن الدولة والسياسة في أذهان هؤلاء، قبل أن يتحول الصراع مع التيارات الإسلامية إلى حرب أهلية كما حدث في الكثير من الدول العربية. يجب أن يكون الصراع فكرياً وإيديولوجياً في المقام الأول.
بعد أحداث الربيع العربي، تراجعت تيارات الإسلام السياسي كثيراً، لكنها لم تنتهِ، بل ستظل قائمة وستغذيها العقليات السلفية المسيطرة على العامة. ويمكن أن تصعد هذه التيارات مرة أخرى وتصل إلى الحكم أيضاً كما وصلت إليه قبل سنوات. ولذلك يجب مواجهتها فكرياً قبل أن تواجهنا في الشارع أو تواهنا وهي في السلطة مرة أخرى.