وطني حيث كرامتي - مقالات
أحدث المقالات

وطني حيث كرامتي

وطني حيث كرامتي

الأخ رشيد

ما هو الوطن حين لا تستطيع أن تبوح بما في قلبك من معتقدات؟! حين تُرغم على النفاق أمام الناس والتمثيل أنك مثلهم، أنك صائم حين يصومون، وأنك مؤمن بما يؤمنون به، وتصلّي على من يُصلّون عليه. أي وطن هذا حين تستدعيك الشرطة وتسألك عن إيمانك، وهل أنت خرجت من الإسلام، وهل ما يقال عنك صحيح فعلًا؟ هل تروّج لأفكار ضد مقدّسات البلد التي أهمها طبعًا هو الدين الإسلامي؟!

مازلتُ أتذكر حين جاء مخبرون إلى مكتبي وكنت حينها خارج المكتب، فأخبروا السكرتيرة أنهم من الأمن ويطلبون مقابلتي. كانت السكرتيرة ترتعد وهي تقول لي على الهاتف: "الشرطة في المكتب عليك الإسراع للذهاب معهم". جئتُ إلى المكتب فأخذوني على المخفر، وهناك تركوني في الشمس لساعات طويلة أنتظر دوري، كنوع من الإذلال والقهر. بقيتُ هناك حتى الزوال دون طعام ولا شراب، أنتظر دوري في الاستنطاق، مُحتجَز دون أن أعلم حتى ما تُهمتي. كان المخبر الذي أتى بي يتفقّدني بين الفينة والأخرى. سألني في وقت من الأوقات هل أنت مسيحي؟ قلت له: نعم أنا مسيحي، هل هذه تُهمة؟ قال لي: لا ليست تُهمة، ثم سألني: هل تؤمنون بأنه لا إله إلا المادة؟ حينها نظرتُ إليه نظرة سخرية وابتسمتُ دون أن أجيبه، لأني علمت أن الشخص الذي يكلّمني لا يفقه شيئًا في المعتقدات، ولا يعرف الفرق بين الألف والعصا، والكلام معه سيكون مضيعة للوقت. بعدها قال لي: كن ما تريد، كن ملحدًا أو بوذيًا لا يهمّني، لكن لا تخلق لي متاعب. سألته: كيف أخلق لك المتاعب؟ قال لي: حين تتكلّم وتعلن ما تؤمن به تخلق لي المتاعب، ومن يخلق لنا المتاعب نخلق له نحن أيضًا المتاعب.

بعد مدة خِلتُها دهرًا جاء دوري في الاستنطاق الذي استمر لمدة طويلة أيضًا. سألوني عمّا فعلت منذ أن ولدتني أمي إلى اللحظة التي مثلت فيها أمامهم. سألوني عن كل صغيرة وكبيرة، وعن كل البلدان والأماكن التي زُرتُها، وعن كل الأشخاص الذين أعرفهم والذين لا أعرفهم. رجعتُ للبيت مرهقًا وأنا أقول لنفسي أي وطن هذا؟ أي وطن تُهان فيه كرامتي لمجرد أنني تركت دين الأغلبية؟ لم تكن تلك هي المرة الوحيدة، كانت فقط البداية، بعدها حدث نفس الأمر مرارًا.

كُنا نجتمع كمسيحيين داخل الشقق المغلقة. نترنّم فرحين والنوافذ مغلقة. ندخل اثنين اثنين وعلى فترات متباعدة حتى لا نثير الأنظار. نتظاهر بأننا مجتمعون عند صديق أو لأنه لدينا مناسبة. نلتفت يمينًا ويسارًا عند الدخول مخافة أن نكون مراقبين من أي جهة أمنيّة. ننحني للصلاة ونحن نتوقّع مع كل طرق على الباب أنه الأمن الذي سيأتي ويأخذنا متلبسين "بجريمة" الصلاة. ربما سيصادرون أناجيلنا بعد اقتحام اجتماعنا. ربما سيتهموننا بالخيانة والعمالة والتخابر مع الأجانب. ربما سيُلفّقون لنا تهمًا لا نعرف عنها شيئًا حتى نوقّع لهم على بياض. ربما سيتهموننا بزعزعة استقرار البلاد والمَسّ بالمقدّسات. ويمكنهم القبض علينا بتهمة التجمع من دون ترخيص، ... هذه كلها تهم جاهزة تحت الطلب. كنتُ أتوقع كل مرة أنه الاجتماع الأخير.

اعتدتُ أن أقول لنفسي متحمسًا لن أترك وطني. لن أترك أهلي مهما كان الثمن، سأناضل للنهاية، .. لكن حين علمتُ بأن زوجتي حامل، تخيّلتُ ابني يمُر بنفس الظروف التي أمر بها. تخيّلته يُهان أمام زملائه في المدرسة مثلما أُهينت والدته من قبل. تخيلتُ أن المعلمة  توقفه في كل حصة وسط الصف لتقول للتلاميذ كلهم أنه كافر ابن كافر. تخيّلته يبكي ويُنبذ من الجميع. تخيّلتني مسجونًا قبل أن يُولد. تخيّلته بعدما يكبر يرى أباه يُؤخذ لقسم الشرطة ويُهان بكل الألفاظ، ويرتعد كل مرة حين يأتي الأمن لأخذي من غرفة نومي. تخيّلته يعيش الرعب كل يوم لأن عائلته تركت الإسلام في يوم من الأيام. بل تخيّلتني مقتولًا على يد أفراد مجهولين كنت أراهم أحيانًا في الحي يتبعونني ويراقبون خطواتي. تخيّلته يكبر يتيمًا ويُجبر في يوم من الأيام على اعتناق دين لم يختره لنفسه. تخيّلت حياته كلها في ظل ما أعيشه أنا. وقتها قررتُ الرحيل، وقلت لنفسي ما هو الوطن يا ترى؟ هل الوطن هو أرض وتضاريس وجبال وبحار؟ هل الوطن هو الأكل والأهل والأقارب والعلاقات؟ أم الوطن حيث تُحفظ كرامتي؟ أليس وطني هو الذي أقول فيه رأيي بكل حرية، وهو الذي يضمن لي أن أعتقد ما شئتُ، وأن أعبد أو لا أعبد ما شئت دون أن أُحاسب من أحد؟

لا تغتروا؛ فالوطن ليس مجرّد قطعة أرض، ولا مجموعة من البشر. الوطن هو حيث تُحفظ كرامة الإنسان. وطني حيث كرامتي وحريتي. ذاك هو وطني الذي يستحق أن أموت من أجله وأضحّي من أجله، لا وجود للأوطان من دون كرامة الإنسان.

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث