التحولات السريعة للعولمة.. وضرورة التأقلم - مقالات
أحدث المقالات

التحولات السريعة للعولمة.. وضرورة التأقلم

التحولات السريعة للعولمة.. وضرورة التأقلم

ما نوع العلاقة التي يمكن أن توجد بين التصويت لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي في بريطانيا وانتخاب دونالد ترامب في أميركا، من جهة، والتطور التكنولوجي المتسارع، من جهة ثانية؟ في كتابه الجديد «شكراً على تأخرك»، يَعتبر الكاتب والصحفي الأميركي توماس فريدمان، الحائز على جائزة بوليتزر ثلاث مرات وكاتب العمود الشهير بصحيفة «نيويورك تايمز»، أن التحولات المتلاحقة التي جلبتها رياح العولمة، إلى جانب التطور التكنولوجي المتسارع، باتت تحدث بسرعة كبيرة جداً تفوق قدرة كثير من الناس في الغرب على فهمها والتأقلم معها ومواكبتها، وهو ما أدى في نهاية المطاف إلى رد فعلهم الرافض والمحتج في الانتخابات، بعد أن باتوا يشعرون بأن الشيئين اللذين يربطانهم بالعالم -مجتمعاتهم ووظائفهم- باتا في مهب الريح.

فالعديد من الغربيين فقدوا وظائفهم، إما نتيجة العولمة (ترحيل الوظائف إلى بلدان حيث كلفة الإنتاج أقل)، أو نتيجة التطور التكنولوجي (الأتمتة والاعتماد المتزايد على الروبوتات التي حلت محل العمال البشر)، وحسب فريدمان، فإن التحولات المتسارعة باتت تطوّقهم في مختلف مناحي الحياة، ذلك أنهم حينما يذهبون إلى بقالة الحي، باتوا يجدون بائعاً أجنبياً يتحدث لغة غير لغتهم، وحينما يذهبون إلى حمام الرجال، باتوا يجدون شخصاً يبدو أنه لا من الذكور ولا من الإناث، وحين يذهبون إلى العمل، يفاجَؤون برجل آلي استحوذ على وظائف أربعة منهم. ولئن كان البعض يثمّن هذا التنوع في الأفكار والأشخاص ويحتفي به، فإنه بالنسبة للكثيرين تغيرٌ يحدث بسرعة تفوق قدرتهم على التكيف معه.

وقد استشعر ترامب وأنصار خروج بريطانيا هذا الاستياء والسخط الذي يشعر به كثيرون، فوعدوا بإقامة جدران في وجه رياح التغير العاتية هذه، وهو ما منح هؤلاء الزعماء جاذبية وشعبية، زعماء يزعمون أنهم «يقولون الحقيقة كما هي»، من دون تزويق أو مواربة، ويشيرون بأصابع الاتهام إلى أكباش فداء سهلة، مثل المهاجرين أو الاتحاد الأوروبي.. يحمّلونها وزر مشاكل البلاد وأزماتها، والحال أن ما يحتاجه هؤلاء الناس حقاًّ هو شرحٌ صريح وصادق، لأن الفهم الجيد والتشخيص الصحيح هما أولى خطوات العلاج، وهو ما يحاول القيام به فريدمان في هذا الكتاب، على غرار ما فعل في كتبه السابقة التي تميز فيها بقدرته المثيرة للإعجاب على شرح وتبسيط ظواهر صعبة ومركبة، مثل العولمة، حتى تصبح في متناول فهم القارئ العادي.

في كتاب «شكراً على تأخرك» يريد فريدمان أن يشرح للقارئ لماذا أضحى العالم على ما هو عليه الآن، ولماذا بات يبدو أن كثيراً من الأشياء قد انفلتت وخرجت عن السيطرة، خاصة بالنسبة إلى الطبقة المتوسطة البيضاء في ولاية مينيسوتا التي ينحدر منها. وبعد ذلك، يسعى إلى طمأنته على أن الأمور عموماً ستكون بخير، غير أنه بشكل عام يمكن القول إن الشرح أكثر إقناعاً من الطمأنة.

يحاجج فريدمان بأن الإنسان مخلوق قادر على التكيف مع الأوضاع الجديدة، لكن المشكلة هي أن قدرتنا على التأقلم باتت متأخرة عن يسميه «سوبرنوفا»، أو اتحاد ثلاثة قوى سريعة هي: التكنولوجيا، والسوق، وتغير المناخ، ثم يستفيض في شرح كل واحد من أضلع هذا المثلث، ففيما يتعلق بالتكنولوجيا، مثلاً، يحاجج المؤلف على نحو مقنع جداً بأن عام 2007، الذي شهد قدوم ابتكارات مثل «آيفون» و«أندرويد» و«كيندل»، كان العام الذي بدأ فيه العقل الإلكتروني «يلتهم العالم»، حسب تعبير مؤسس شركة «نيتسكايب»، كما يعرّفنا على خدمات إلكترونية حيوية وغير معروفة كثيراً، مثل «جيت-هاب» و«هادوب»، ويعتبر أنه لو تسنى تطبيق «قانون مور» (الذي يقول بأن قدرة الرقائق الإلكترونية الدقيقة تتضاعف كل سنتين تقريباً) على قدرات السيارات، وليس رقائق الحاسوب، فإن السرعة القصوى للنسخة المعاصرة من سيارة فولكسفاجن الخنفساء 1971 كانت ستبلغ اليوم أكثر من 480 ألف كيلومتر في الساعة، وكانت كلفتها ستبلغ 4 سنتات، كما أنها كانت ستستعمل خزان وقود واحد طيلة عمرها الافتراضي.

الفصلان المخصصان لتغير المناخ والسوق يتضمنان كماً مماثلاً من المعلومات والمعطيات، لكن فريدمان يحرص على شرح وتوضيح كيفية تفاعل كل هذه القوى الثلاث فيما بينها، مما يزيد من تعقيد وتسريع بعضها بعضاً، ففي النيجر، مثلاً، يتسبب تغير المناخ في تدمير المحاصيل الزراعية، بينما تساعد التكنولوجيا في الإبقاء على مزيد من أطفال هذا البلد على قيد الحياة، وهكذا فإن سكان البلاد البالغ عددهم 19 مليون نسمة حالياً سيرتفع إلى 72 مليون شخص جائع بحلول 2050، كما ينبّه فريدمان إلى أن كل الأشياء ستظل تزداد سرعة. وعلى سبيل المثال، هناك 10 مليارات شيء على الأقل متصلة بالإنترنت حالياً، غير أن ذلك ما زال يمثل أقل من 1% من مجموع الممكن في وقت يتواصل فيه انضمام عدد متزايد من السيارات والأجهزة إلى «إنترنت الأشياء».

وفي الأثناء، يواصل الإنسان تقليص زمن استجابته للتحولات التكنولوجية والتأقلم معها، حيث لم يعد بحاجة سوى إلى 10 إلى 15 سنة للتعود على التغيرات التكنولوجية التي كنا نحتاج عدة عقود من أجل استيعابها في السابق، غير أن هذا يثير بالمقابل سؤال الجدوى، إذ ما الفائدة من تكنولوجيا تصبح قديمة ومتجاوَزة كل خمس أو سبع سنوات؟ فاليوم، تكافح الحكومات والشركات والأفراد جميعاً من أجل مواكبة هذه التحولات السريعة والمتلاحقة، لا بل إن الأمر قد يكون محيراً حتى بالنسبة لأشخاص يدركون طبيعة هذه التحولات، على غرار فريدمان نفسه. ففي 1978، كان هذا الأخير يقف في طابور ينتظر دوره من أجل إرسال تقاريره من صناديق الهواتف البريطانية الحمراء الشهيرة. أما اليوم، فقد بات باستطاعته إرسال عموده عبر البريد الإلكتروني من أعماق أفريقيا ليظهر مباشرة على موقع صحيفة «نيويورك تايمز» الإلكتروني ويثير ردودَ فعل سريعة من بلدان على الجانب الآخر من الكوكب مثلاً، وكمثال آخر على هذه التغيرات السريعة جداً، قام فريدمان، في غضون العامين ونصف العام التي استغرقها إنجاز هذا الكتاب، بإجراء مقابلات مع خبراء في التكنولوجيا، ثم اضطر لإعادة إجرائها مرة أخرى على الأقل، بسبب التطور السريع جداً للأشياء، لاسيما في مجال تكنولوجيا المعلومات. أما بخصوص عنوان الكتاب، فقد اقتبسه من ردٍّ عفوي على صديق أتاحَ له قدومُه المتأخر بضعَ دقائق ثمينة ومرحب بها من أجل التفكير والتأمل في عصر بات فيه من الصعب جداً على المرء الاختلاء بنفسه من أجل التدبر وإعمال النظر بسبب زحمة الحياة وسرعتها.

«شكراً على تأخرك»، يُعتبر من بعض النواحي تتمة لأعمال فريدمان السابقة («العالم مسطح»، و«ساخن ومسطح ومكتظ».. إلخ)، ويضم بين دفتيه قصصاً شخصية دالة ومعبِّرة، ومن ذلك نقاشات صادقة حول معنى أن يكون المرء كاتب عمود، غير أن ما يمنح كتابه نكهة خاصة ربما هو اعتقاده بأن الأحداث الجسام التي عرفتها سنة 2016 كانت أكثر دراماتيكية من فترات سابقة، وهو أمر يعزى جزئياً إلى التغير التكنولوجي المتسارع، لكن أيضاً إلى حقيقة أن قوى السوق باتت تربط العالم بشكل أقوى من أي وقت مضى، وكل ذلك إلى جانب تغير المناخ الخطير.

«ليس لدينا أي خيار سوى أن نتعلم كيفية التأقلم مع هذه الوتيرة الجديدة للتغيير»، يقول فريدمان: «لكن ذلك سيكون صعباً وسيتطلب مزيداً من التحفيز الذاتي، وهذه الحقيقة -بلا شك- واحدة من الأشياء التي أثّرت على السياسة عبر أميركا وأوروبا».

لكن هل ثمة أي حلول؟ فريدمان، وخلافاً للشعبويين، لا يقدّم أي أفكار سهلة، وإنما يقترح 18 خطوة من أجل النمو المستديم، خطوات تتراوح من خفض الضرائب على الشركات إلى حظر للسكر، إلى زيادة برامج التعلم الخاصة بالكبار، وتشديد مراقبة الحدود، كما يوصي بتحقيق «استقرار ديناميكي»، إلى جانب إعادة تصميم أماكن العمل والسياسة والأخلاق والمجتمعات، لكنه يحاجج أيضاً بأن على الأميركيين إعادة اكتشاف حس «المجتمع»، ويستعمل مدينةَ مينيابوليس للتدليل على ذلك، ففي اثنين من أكثر فصول الكتاب إثارة وتشويقاً، يعود المؤلف إلى المدينة التي رأى فيها النور أول مرة ويشرح كيف تبنّت خلال العقود الأخيرة أسلوبَ حكم براجماتياً ومنسجماً ومستوعباً للجميع نسبياً، وهو ما جعله على قناعة بإمكانية الحفاظ على «الأخلاق» و«المجتمع» في أي مكان، وأنهما السبيل للصمود في وجه التغيرات السلبية، وبخاصة في عالم السياسيين الشعبويين هذا.

إنه شعور رائع يضخ جرعة ضرورية من التفاؤل في النقاش المعاصر، غير أنه من الصعب جد، مثلما يقر فريدمان بذلك، إقناع الناخبين بمواصلة تصديق فكرة «مينيسونا الجميلة»، بالنظر إلى أن التحولات السريعة والكبيرة التي باتت تصدم الطبقة العاملة وتقلب حياتها رأساً على عقب. ويقول فريدمان في هذا الصدد: «عندما تخرجتُ في الجامعة كان علي أن أبحث عن عمل. أما بنتاي، فعليهما أن تبتكرا عمليهما»، وهنا بالضبط تكمن مشاعر الخوف والقلق التي أوصلت ترامب وأمثاله من الشعبويين إلى السلطة.

الكتاب: شكراً على تأخرك.. دليل رجل متفائل للازدهار في عصر السرعات

المؤلف: توماس فريدمان

الناشر: فرار، شتراوس آند جيرو

تاريخ النشر: 2016

نقلا عن صحيفة الاتحاد

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث

اتصل بنا

*
*
*