إعادة قراءة في التاريخ المصري الحديث : الجنرال يعقوب - مقالات
أحدث المقالات

إعادة قراءة في التاريخ المصري الحديث : الجنرال يعقوب

إعادة قراءة في التاريخ المصري الحديث : الجنرال يعقوب

بقلم صامويل تادرس

جرى العرف على بدء تاريخ مصر الحديث بالحملة الفرنسية. ليس هناك شك أن الحملة مثلت لحظة فارقة في تاريخ مصر. صحيح أنه لوهلة عادت مصر بعد رحيل الفرنسيين إلى سابق عهدها من وجود وال عثماني ورجوع أمراء المماليك، لكنها كانت لحظة قصيرة دامت أربع سنوات قبل أن يتمكن محمد علي من السيطرة على مقاليد البلاد. الأهم من وجهة نظر المؤرخين هو الصدمة الحضارية التي مثلتها الحملة. استهتر المماليك بخبر وصول الحملة. ظنوها مثل الحملات الصليبية السابقة، التي وإن سيطرت على أجزاء من الشام قرابة القرنين، لكنها هزمت في النهاية. كانت الصدمة كبيرة. أوروبا تغيرت دون أن يدروا. الفرنجة صاروا فرنسيين. مرت منعطفات تاريخية كبيرة مثل عصر النهضة، حركة الإصلاح الديني، اكتشاف الأميركتين، و الثورة الفكرية دون أن يدري بها الشرق. الفرنسيون أتوا بصدمة الحداثة.

هذا الوصف صحيح جزئيا. لم تكن الأحوال في مصر مستقرة تماما قبل الحملة الفرنسية. مشروع علي بك الكبير للاستقلال بمصر كاد أن ينجح. و بينما ليس هناك جدال أن بعض المصريين قد أدركوا مدى تقدم الفرنسيين، لكن أغلب أولئك نظروا إلى التقدم العلمي بمفاهيم عصرهم. التاريخ يذكر حادثة طريفة. جاء نابليون بعلماء الأزهر ليشهدوا تجربة علمية في الكيمياء. كان يريد إبهارهم. تابع الأزهريون العلماء الفرنسيين وهم يخلطون المواد. بعد انتهائهم سأل أحد المشايخ نابليون إن كان علماؤه يستطيعون الذهاب إلى المغرب في دقيقة من الزمن. ذهل نابليون وأجاب بالنفي. إذا هم ليسوا سحرة جيدين أجاب الشيخ. لم يستوعب المصريون الحداثة بعد. الصدمة والمعرفة سوف تأخذ عقودا من الزمن قبل أن تستقر في وجدان المصريين.

تاريخ الحملة الفرنسية سجله كثير من الفرنسيين والمؤرخ المصري الجبرتي. في كتابات المؤرخين تبرز شخصية غامضة: المعلم أو الجنرال يعقوب. اسم الرجل صار مرتبطا بالخيانة. في نظر الجبرتي هو الذمي الذي استكبر وساد على المسلمين. لاحقا سيكتب الإسلاميون كثيرا عن الرجل وخيانته. حتي اليوم حين يريد الإسلاميون مهاجمة الأقباط يذكرون يعقوب. كل قبطي يعادونه من البابا شنودة إلى نجيب ساويرس هو امتداد ليعقوب. لم يكن حال يعقوب أفضل مع الكنيسة القبطية التي تبرأت منه. يسجل مؤرخو الأقباط العلاقة المتوترة بينه وبين البطريرك مرقس الثامن. يذكرون أنه تجرأ على الدخول إلى الكنيسة على صهوة جواده.

قبل الحديث عن الجنرال يعقوب يجب وصف الصورة العامة لأوضاع الأقباط قبل مجيء الحملة الفرنسية. عاش الأقباط على مدى قرون من الزمن كأهل ذمة تحت حكم الخلافة الإسلامية. الآية الحاكمة لوضعهم وردت في سورة التوبة "حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون". على مدى القرون تم اختراع ما يسمى بالعهدة العمرية. منع الأقباط من بناء الكنائس، ركوب الخيل، لبس الملابس الفاخرة، و إظهار دينهم. فرضت عليهم ملابس بألوان مميزة، والوقوف حين يمر مسلم أمامهم. تغيرت القواعد من حاكم إلى آخر، لكن بقي الغرض الأساسي: إذلالهم. هم سكان من الدرجة الثانية. التدمير الأكبر لحياة الأقباط جرى في العصر المملوكي. في عام 1200 كانت هناك 2048 كنيسة و 843 دير في مصر. مع نهاية القرن السادس عشر بقي منها 112 كنيسة و خمسة أديرة. برع الأقباط في الحساب. توارثوا مهنة المباشرين و كتبة الحسابات لدى أمراء المماليك. وصل بعضهم إلى المراتب العليا كموظفين مثل المعلم إبراهيم الجوهري وأخيه جرجس.

بدأ المعلم يعقوب حنا حياته مثل غيره من المباشرين الأقباط. ولد عام 1745 في ملوي، في سن العشرين صار كاتبا ثم صار كبير محاسبي سليمان بك أغا الإنكشارية. قبل مجيء الحملة ظهر تميز يعقوب عن أقرانه من المباشرين الأقباط. تعلم ركوب الخيل والقتال بالسيف من المماليك وشارك معهم في حربهم ضد الأتراك. بعد وفاة زوجته تزوج بسورية من حلب على عكس عادة قومه. الرجل كان مختلفا منذ البدء.

بعكس الصورة النمطية، نابليون لم يكن متعاطفا مع الأقباط. هدفه كان أن يوجد له شعبية لدى الأغلبية. قدم نفسه كمسلم لسكان مصر. حين اشتكى له المشايخ أن الأقباط لم يلتزموا بعدم الجهر بالإفطار في رمضان أجبرهم علي ذلك. بعد رحيله عن مصر كتب لكليبر أنه كان مزمعا على وضع نظام جديد للضرائب والاستغناء عن الأقباط. رغم ذلك مثلت الحملة فرصة ليعقوب في التحرر من القيد المفروض عليه كذمي. بدأ كبيرا للمحاسبين مع الجنرال ديزيه. لم يكتف بذلك. أثبت قدراته القتالية في موقعة عين القوصية. صار الساعد الأيمن لديزيه. في مجلسه كانت تدور حوارات حول أفكار الثورة الفرنسية. وعي يعقوب ما سمعه. الدنيا تغيرت ويجب علينا أيضا أن نتغير. شكل يعقوب الفيلق القبطي. ألفان من شباب الأقباط من الصعيد تم تجنيدهم وتدريبهم من قبل الفرنسيين في عام 1800. صار يعقوب قائدا لهم. الفيلق القبطي سوف يلعب دورا هاما خلال ما يسمي بثورة القاهرة الثانية. القائد العثماني المهزوم صرخ في أهالي القاهرة "اقتلوا النصارى وجاهدوا فيهم". يعقوب أقام قلعته في الأزبكية ودافع عن الأقباط هناك. لولاه لهلك أقباط القاهرة.

رحل الجنرال يعقوب مع الفرنسيين. مات على السفينة البريطانية بعدها بستة أيام. أغلب رجال الفيلق رفضوا الرحيل. من تبعه ظلوا يحاربون في الجيش الفرنسي حتي 1814. رفاعة الطهطاوي التقى ببعضهم في فرنسا. غاب ذكر يعقوب عن التاريخ إلا كمثال على الخيانة.

أول من تنبه إلى أهمية الجنرال يعقوب مؤرخ مصري يدعي محمد شفيق غربال. نشر كتاباً في ١٩٣٢ تحت عنوان "الجنرال يعقوب والفارس لاسكاريس ومشروع استقلال مصر في سنه 1801". الكتاب مبني على أربع وثائق عثر عليها في خزينة وثائق الخارجية البريطانية والفرنسية. تبعه في تحليله صبحي وحيدة ولويس عوض. في الستة أيام التي قضاها يعقوب على ظهر المركب البريطاني تحاور مع قبطان السفينة. قال له إنه على رأس وفد مصري يسعي لاستقلال مصر. هذه على الأرجح مبالغة. قدم يعقوب للقبطان خطابا للخارجية البريطانية. الخطاب في غاية الأهمية. يبدو واضحا تأثر يعقوب باختلاطه بالفرنسيين. الأفكار التي حملها الخطاب أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها سابقة لعصرها وثورية. يعقوب يتحدث في خطابه باسم المصريين، في وقت لم تكن فكرة وجود الأمة المصرية قد تشكلت بعد، لن تتشكل الفكرة بوضوح قبل أحمد لطفي السيد. الخطاب يصور مصر كمهد للحضارة و أوروبا لديها دين تجاهها. "تتداعى الإمبراطورية العثمانية في جميع أجزائها بالانحلال" ومصر صارت مطمعا للقوى الغربية. لن يسمح توازن القوى في أوروبا لدولة واحدة بالسيطرة على مصر. الحل يكمن في استقلال مصر. الحكومة الجديدة ستكون "عادلة حازمة وطنية" على مثال دولة شيخ الهوارة همام. لتحمي استقلالها مصر سوف تستعين بجنود أجانب سيكونون "نواة جيش وطني". استقلال مصر سينبع من مفاوضات مع القوي الغربية.

هذه الأفكار ستصير هي القاعدة التي سيبنى عليها خطاب الاستقلال المصري من أحمد لطفي السيد إلى مصطفى النحاس. قبل كل أولئك كان الجنرال يعقوب حاملا مشروعا وطنيا سابقا لعصره. الرجل هو أوضح مثل على التأثير الحقيقي للحملة.

الحرة

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث

اتصل بنا

*
*
*