إعادة قراءة في التاريخ المصري الحديث: الكنيسة القبطية وأزمة الحداثة - مقالات
أحدث المقالات

إعادة قراءة في التاريخ المصري الحديث: الكنيسة القبطية وأزمة الحداثة

إعادة قراءة في التاريخ المصري الحديث: الكنيسة القبطية وأزمة الحداثة

بقلم صامويل تادرس

ترك الخديوي إسماعيل مصر في أزمة مالية وسياسية عميقة دفع ثمنها ابنه توفيق. ظل إسماعيل طوال حكمه يلاعب الأقدار حتى غلبته وترك لتوفيق الذي لم يكن بنفس مهارة أبيه، وضعا يصعب على أفضل اللاعبين إدارته. لم يمض عامان على تولي توفيق مقاليد الأمور حتى كانت البلاد تشهد انفجارا سياسيا انتهى بالاحتلال الإنجليزي. أحمد عرابي كان الاسم الأبرز في تلك الفترة حتى سُميت الأحداث باسمه، فدعيت بـ"الهوجة" أو الثورة العرابية. تقييم الرجل اختلف مع تعاقب العهود. ظل عرابي طويلا بعدها مثارا للسخرية. كتب محمد عبده أن كل هم عرابي كان الحصول على المناصب والجاه. مصطفى كامل وصفه بـ"رجل تهور جبانا واندفع جاهلا". حين عاد إلى مصر عام 1901 استقبله أمير الشعراء أحمد شوقي بقصيدته "صغار في الذهاب وفي الإياب... أهذا كل شأنك يا عرابي".

بعد استيلاء الضباط الأحرار على السلطة في مصر عام 1952 وفي إطار بحثهم عن شرعية تاريخية لدورهم وتهميش شرعية حزب الوفد وزعمائه، جرت إعادة اكتشاف لعرابي الذي تحول إلى زعيم لثورة. ربما لم توجد شخصية تاريخية على هذا القدر من الهزل تم تحويلها إلى زعيم وطني من قبل. القارئ لمذكرات عرابي وللأبحاث التاريخية عن تلك الفترة يفجع من مقدار عدم الجدية التي تمتع بها الرجل. يهاجم الإنجليز الإسكندرية، فيعقد عرابي مجلس ذكر. يواجه أزمة مالية فيبحث في إمكانية بيع الآثار المصرية. يتولى السلطة فيأمر بمنع المراقص والحفلات التنكرية. البلاد في أزمة طاحنة فيشجع عرابي الدهماء على تحطيم التماثيل لمخالفتها للشرع. يُهزم الجيش المصري فيرسل عرابي الأنباء بالانتصار.

في إطار اختراع بطولة عرابي ونفي أي إطار ديني لحركته، طاب لبعض الكتاب الحديث عن الوحدة الوطنية التي مثلتها. يذكرون أن بطريرك الأقباط وبطرس غالي باشا شاركا في اجتماعات الثورة ووقعا على بيان عزل توفيق. في الحقيقة، إن البطريرك وغيره لم يكن أمامهم بديل آخر. وجدوا أنفسهم تحت تهديد السلاح. هددهم علي الروبي، زميل عرابي، إن هم وقفوا ضد عرابي. خلال انسحاب العرابيين من الدلتا شجع الضابط سليمان داود الغوغاء قائلا: "انهبوا واحرقوا فإن أموال النصارى غنيمة للمسلمين وأولادهم". لدينا الآن السجلات الكاملة لتلك الحقبة. لم يتولَ قبطي واحد الوزارة، هذا أمر مفهوم في تلك الفترة. لكن الأمر الملفت للنظر هو عدم وجود ضابط قبطي واحد ضمن حركات الترقيات في الجيش المصري من رتبة رائد إلى لواء.

غاب الأقباط عن المشهد السياسي المصري طوال فترة الفوران السياسي 1879 ـ 1882. غابوا أيضا طوال فترة الركود التي تلتها 1882 ـ 1892. الغياب القبطي لم يكن وليد الاستبعاد فقط. الأقباط وجدوا أنفسهم في أزمة شغلت أذهانهم منذ أواخر عصر إسماعيل: أزمة الحداثة داخل الكنيسة القبطية.

إن كانت أزمة الحداثة في مصر ذات وجهين: اكتشاف التقدم الغربي والتأخر المشرقي مع وصول نابليون إلى البلاد ومحاولات التحديث التي جرت بعدها على أيادي الحكام، والتي أدت إلى انفصام بين المفاهيم الإسلامية للسياسة، والاقتصاد، والقانون مع الواقع الجديد، فإن أزمة الحداثة في شكلها القبطي هي أيضا وليدة وجهين: مجيء المبشرين البروتستانت ومشروع التحديث الذي قاده البابا كيرلس الرابع.

عرفت مصر المبشرين الأجانب لقرون سابقة. نشطت إرساليات كاثوليكية عدة في البلاد. نجحت في ضم بعض الأقباط إليها ولكنها لم تشكل تهديدا عميقا للكنيسة القبطية. الكنيسة الكاثوليكية رغم الاختلافات العقيدية لديها نفس الإطار العقيدي والتنظيمي، فلم تطرح إطارا مختلفا في مصر عن الموجود. الأهم أن الكنيسة القبطية على مدى القرون قد طورت إجابات مطولة في هذه الاختلافات. الوضع كان مختلفا مع مجيء المبشرين البروتستانت. فوجئ الأقباط بمفاهيم لم يعرفوها: رفض للرهبنة والقديسين، رفض للتقليد والرتب الكنسية، التركيز على الإنجيل كمصدر وحيد للإيمان، التركيز على العلاقة الشخصية مع الله والرسالة الشخصية للخلاص.

الحضور البروتستانتي الأول جاء على يد البعثة الانجليزية في العام 1825. لم تهدف البعثة إلى إنشاء كنيسة مستقلة. نظرت إلى الكنيسة القبطية باعتبارها كنيسة حقيقية ذات تاريخ مجيد، تمر بكبوة وتحتاج إلى مساعدة للنهوض مرة أخرى، لذلك ركزت على التعليم. الأزمة ولدت مع مجيء المبشرين من الكنيسة المشيخية المصلحة في أمريكا في 15 تشرين الثاني/نوفمبر 1854. نظر المبشرون الأميركيون إلى الكنيسة القبطية ككنيسة ميتة وهدفوا إلى تبشير الأقباط بالمسيحية من جديد وإنشاء كنيسة مستقلة. البداية كانت بطيئة. عام 1859 كان لديهم اثنان فقط من الأعضاء. سرعان ما زادت الوتيرة. عام 1865 بدأت الخدمة في أسيوط، عام 1866 في الفيوم، وفي نفس العام في المنصورة. سرعان ما تبعهم مبشرون من الكنيسة الألمانية 1864 والهولندية عام 1880.

جاء المبشرون بالترجمة العربية الأولى للكتاب المقدس عام 1864، وأنشأوا مدارس وصل عدد طلابها عام 1890 إلى أكثر من ستة آلاف طالب. عقدوا اجتماعات للصلاة باللغة العربية، قدموا تعليما روحيا خاليا من التقاليد ومركزا على الفردية. جذبت رسالتهم الكثيرين. في نفس عام وصولهم إلى أسيوط قام ثلاثة أقباط انضموا إليهم بمحاولة حرق الكنيسة القبطية في المدينة نظرا لاحتوائها على صور للقديسين رأوها أوثانا يجب القضاء عليها.

لم تكن الكنيسة مستعدة لهذا التحدي. الخطاب الروحي القبطي عانى من الضعف الشديد. أغلب الكهنة في تلك الفترة كانوا من الأميين توارثوا الكهنوت والصلوات عن أجدادهم. لم تكن هناك خدمة منظمة. الفراغ الروحي سيملأه المبشرون. حاول البطاركة الأقباط تدارك الأمر. قام كل من البابا ديمتريوس الثاني وكيرلس الخامس برحلات إلى الصعيد حيث تركز الوجود البروتستانتي لمقاومتهم. قام كيرلس الخامس بإنشاء الكلية الإكليريكية عام 1893 وأرسل بعض الرهبان إلى اليونان للدراسة الدينية. لم تنجح الجهود كليا. الرسالة البروتستانتية وجدت أذانا صاغية. بجانب الرسالة الروحية فتح المبشرون الأبواب لكثير من الأقباط للتعليم وللحصول على مميزات مادية من خلال العمل كقناصل للدول الأجنبية.

إن كان التحدي البروتستانتي قد مثل الوجه الأول لأزمة الحداثة القبطية فإن مشروع البابا كيرلس الرابع للإصلاح قد فتح الباب أمام التحدي الثاني. حمل مشروع الإصلاح جانبين: تنظيم الكنيسة والتعليم. في البداية لم يكن هناك تناقض بينهما. مع مرور الوقت، صار التناقض صارخا. تنظيم الكنيسة أدى إلى تقوية مركز رجال الدين في الكنيسة وإلى مركزية القرار. فتح المدارس أدى إلى نشوء جيل جديد من الأقباط يتمتعون بتعليم حديث ومنفتحون على العالم وأفكاره. تخرجوا من المدارس وحصلوا على الوظائف الحكومية. سرعان ما ترقوا في مناصبهم، اشتروا الأراضي، وأصبحوا ذوي شأن. أنبغ هؤلاء، كان بطرس غالي باشا الذي كان أول قبطي يتولى الوزارة.

الصدام صار أمرا حتميا. لم تكن المرة الأولى التي تشهد صراعا بين رجال الدين والعلمانيين. على مدى تاريخها الطويل، كانت الكنيسة القبطية تثمن دور العلمانيين فيها بعكس كنائس أخرى. أدار كبار المباشرين الأقباط في العصر العثماني شؤون الكنيسة في الكثير من الأحيان. تصادموا في بعض الأوقات مع البطاركة وقتلوا اثنين منهم حين رفضوا انتشار الجواري بين الأقباط في هذا العصر. لكن الصدام هذه المرة كان مختلفا. كان صدام أفكار وليس أشخاص. رجال الدين ضد الباشوات الأقباط. الديمقراطية وحق الشعب القبطي في إدارة أموره صارت الشعار الذي جري الصدام حوله. الصدام حمل جانبا اجتماعيا وطبقيا. رجال الدين كانوا من الطبقات الأفقر. احتقرهم الباشوات. كانوا يرون أنفسهم الأحق في إدارة شؤون الكنيسة المالية والإدارية. الأمر كان أعمق من هذا. من ناحية، يفكر الباشوات في "الشعب القبطي" وحاله، ويريدون العمل على نهضته، ومن الناحية الأخرى يفكر رجال الدين في "الكنيسة القبطية" التي يريدون الحفاظ عليها.

في فترة خلو الكرسي البابوي 1870 ـ 1874 نجح العلمانيون في إقناع النائب البابوي بإنشاء مجلس يعاونه في إدارة شؤون الكنيسة. الأهم من ذلك، أنهم حصلوا على أمر من الخديوي بإنشاء المجلس الملي في 15 شباط/فبراير 1874. سبقهم في الاتجاه ذاته اليهود والأرمن في مصر. في تشرين الثاني/نوفمبر من نفس العام تم اختيار الراهب يوحنا الناسخ ذي الخمسين عاما بابا للكنيسة تحت اسم كيرلس الخامس. ظن الباشوات أن الأمر دان لهم. هم أصحاب السلطان والراهب العجوز لن يستطيع الوقوف في وجههم. خاب أملهم سريعا. رفض البابا دورهم، ونظر إلى الأمر كاعتداء على سلطته، وتأثرا بالأفكار البروتستانتية. لم يكن ظنه بعيدا عن الواقع تماما. سرعان ما توقف المجلس عن العمل نتيجة رفض البطريرك له. أعادوا المحاولة عام 1883 لكن الفشل كان من نصيبهم مرة أخرى.

المحاولة الثالثة كانت الأهم. في العام 1892 حصل الباشوات على أمر جديد بإنشاء المجلس الملي. كان كرومر (القنصل البريطاني في مصر) الحاكم الفعلي لمصر في تلك الفترة وكان متعاطفا معهم. أمام رفض البطريرك انعقاد المجلس استغلوا علاقتهم بالدولة. في الأول من أيلول/سبتمبر 1892 صدر الأمر بنفي البابا إلى الدير وتعيين أسقف صنبو نائبا بابويا. هو الانتصار أخيرا. أو هكذا ظنوا.

البابا العجوز حرم أسقفهم. الشعب القبطي هاله إهانة البابا. حتى المتعاطفين مع المجلس رفضوا الخطوة. هجر الشعب الكنائس، ورفض أن يصلي في كنيسة تتبع المجلس. وهجر الأساقفة أسقفياتهم، وتوقف الكهنة الأقباط عن إقامة الشعائر الدينية: لم تعد تقام مراسم الزواج أو المعمودية أو الصلاة على الأموات. حياة الأقباط كأقباط أصيبت بالشلل. حتى أسقف صنبو، رغم تبعيته لرجال المجلس، لم يجرؤ على تحدي الحرمان الذي وقع عليه ولم يصلِّ أي قداس. البطريرك العجوز أثبت أنه أقوى من الباشوات. فإذا كان لديهم سلطان الدولة فهو لديه سلطان أبائه أثناسيوس وكيرلس عمود الدين. الأهم، أن الشعب أيد البابا. أمام فشلهم التام لم يكن أمامهم سوى مطالبة الدولة بإعادة البابا إلى كرسيه. عاد كيرلس الخامس منتصرا في الرابع من شباط/فبراير 1893 وسط احتفال شعبي. الرجل الذي تولى البطريركية في الخمسين من عمره سوف يجلس ثلاثا وخمسين سنة على الكرسي.

أزمة الحداثة القبطية بوجهيها لم تنته عام 1893. من ناحية سيعيد الباشوات محاولتهم عامي 1906 و1927. وسيواصل خلفاء كيرلس الصدام مع المجالس الملّية. من الناحية الأخرى، لن ينتهي التحدي البروتستانتي للكنيسة القبطية. سوف يقع عاتق المقاومة لمدة نصف قرن بعدها على تلميذ كيرلس الخامس الشماس حبيب جرجس الذي اعترفت الكنيسة بقداسته مؤخرا. أهم ما في الأمر الدروس المستفادة.

مثلت تجربة 1892 المرة الأخيرة التي سيتورط فيها بطرس غالي باشا في الشأن القبطي الداخلي. أسرته ستتبع خطاه. علاقاتهم وعلاقة كبرى العائلات القبطية بالكنيسة ستظل ملتبسة. بعض الذين يأسوا من التغيير وجهوا جهودهم إلى العمل الخيري. وسوف تكون الحقبة اللاحقة الحقبة الذهبية للجمعيات القبطية والمجتمع المدني القبطي. الأهم، أن الباشوات فتحوا الباب لتدخل الدولة في الشأن الكنسي. الباب المفتوح لن يغلق منذ ذلك الحين. في 1892 استغل الباشوات الدولة، رجال الدين سيعون الدرس جيدا وسيقومون بالأمر عينه لاحقا. والدولة بدورها، سوف تدرك أهمية المنصب الديني وستسعى للسيطرة على من يتولاه. على المهتمين بعلاقة الكنيسة بالدولة في مصر في يومنا هذا، أن يدرسوا تلك الفترة وما نتج عنها. سيدرك الجميع مقدار السلطة التي يحظى بها البابا. الباحثون عن الإصلاح من الأقباط سيعون الدرس جيدا. لا إصلاح أو تغيير من خارج الكنيسة. ما فشل فيه بطرس غالي باشا سينجح فيه سعد عزيز (الأنبا صموئيل) ونظير جيد (البابا شنودة)، ولكن تلك قصة أخرى.

الحرة

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث

اتصل بنا

*
*
*