ترددت أصداء القتال في حي صغير من البلدة القديمة في الموصل حيث كان مركز المقدم سلام حسين العبيدي من قوات مكافحة الإرهاب العراقية، في مطلع تموز (يوليو) 2017. وكان المقدم يقف أمام باب المركز يراقب سيل النازحين الفارين من أحياء داعش الأخيرة، وهم الشهود على القتال الدموي الدائر هناك. وجوه الهاربين مجوفة، ومتفككة، أجسادهم نحيلة وضعيفة، وملابسهم خرق مهترئة. ويروي هؤلاء الجحيم الذي نجوا منه للتو وفروا منه. ويرى الضابط أن أسراً داعشية مندسة بينهم. ووصل صبي قصير القامة، إلى جنب الضابط، ونظر إليه نظرة تحد. ولم يفت الضابط النظرة، فطلب من عائلته التوقف. ومدّ إلى الصبي الصغير علماً عراقياً، فسارع إلى رميه. «لماذا ترمي العلم؟»، سأله الضابط سؤالاً نبرته تجمع الجد إلى السخرية والتهكم. «هذا لواء الكفار»، أجابه الصبي. فنقل الضابط سلام إبراهيم الصغير، ابن الأربعة أعوام، وعائلته إلى منزل تحوّل مركز قواته. والحرج بدا على شقيقتيه شاهد ابنة التسعة عشر عاماً، وشجن (17 عاماً)، على خلاف أشقائهن الأربعة الصغار، 3 أشقاء وشقيقة في الثانية من العمر، وهؤلاء سارعوا إلى الانقضاض على الغذاء حين قدمه إلهم جندي. وأخذ الضابط يتصفح صور عائلة شاهد على الكمبيوتر المحمول العائد لها: واستوقفته صورة والدها وهو يقف في صالون بيته حاملاً قاذفة سلاح على الكتف، فهو البائع في الحي الذي صار مقاتلاً مع داعش، وقرر وزوجته الثانية القتال حتى الموت في المدينة القديمة. وأوكل الزوجان أولادهما الأربعة مع رزمات دولارات ودينار عراقي إليها (شاهد، كبرى بناته). وفي صورة أخرى، ظهر زوجها مع شلة من أصدقائه المقاتلين. وهو سقط في أيار (مايو) في قصف على حي الزنجيلي. واحتفظت شاهد بصورة شقيقها «الشهيد» بلباسه العسكري، وهو قضى يوم كان في الخامسة عشرة في ضربة جوية على شرق الموصل في خريف 2016. وعلى الكمبيوتر، صورة لابنتها ماريا، التي لا يسع المرء رؤية عينيها المستترتين وراء نقاب صفيق، وهي ترفع إصبعها إلى السماء. وتقول شاهد إنها لا تعرف لماذا انضموا كلهم إلى داعش. ونادى المقدم سلام إبراهيم الصغير. ووقف أمامه الصبي المشاغب، ووجه منكمش. - «ابراهيم، هل تحب داعش؟». -«نعم أحب الدولة...». -«لماذا؟» -«لأنها تقتل الكفار من أمثالك». – «هل أنا كافر. وكيف سيقتلني داعش؟» - «بسكين في العنق والذبح هكذا»، يجيب إبراهيم وهو يحاكي غاضباً حركة الذبح على رقبة الضابط. ثم أحنى رأسه وبدأ بركله. فتدخلت شقيقته وأوقفت الركل، ولكنه يبدو أنه لم يفهم ما يترتب على ما يفعله. فهو في الشرنقة العائلية التي نذرت نفسها لـ «الخلافة»، تشرّب مثل إسفنجة بروباغندا داعش، وصار يعرف العدو حين تقع العين عليه. وأفرج الضابط عنهم ليواصلوا طريقهم إلى شرق الموصل حيث عمتهم تنتظر وصولهم. «ماذا سنفعل بهم؟ كثر من أمثاله سيكبرون حاملين بذرة الكراهية والتطرف، وليس في اليد شيء»، يقول الضابط متسائلاً بنبرة خطابية.
ولم يستخِف داعش بمشروع زرع الكراهية في صدور الأطفال. ورأى أن أطفال «الخلافة» بمثابة صفحات بيض، وسعت المجموعة «الجهادية» إلى طبع أو نقش أيديولوجيتها على «الصفحات» هذه، والتأثير في اليافعين قبل أن يشتد عودهم. ورفع التنظيم هذا لواء «باقية (الخلافة) وتتمدد». ورمى مشروع داعش الطويل الأمد إلى تنشئة الأطفال في «الدولة» وانغماسهم في تربة مشبعة بالعقيدة الدينية الداعشية، يقول نيكيتا مالك، وهو مشارك في صوغ تقرير مؤسسة البحوث، «كيليام»، عن الموصل.
وفي بعض الأحيان، أُلزم الأطفال الالتحاق بداعش، إثر خطفهم أو تهديدهم. وفي أحيان أخرى، انتخبتهم عائلاتهم، إلى القتال. وهؤلاء الأطفال شبّوا في بيوت ومدارس تغلب عليها الأيديولوجيا الداعشية. وتعيد إرادة إنشاء جيل «نقي» لم تفسده «العلمانية» وتتلمذ منذ نعومة أظافره على العنف، إلى الأذهان ألمانيا النازية وبعض الدول الأفريقية التي يعمها خطف الأطفال وتجنيدهم قسراً في القوات المسلحة. والنظام البعثي العراقي درج على تجنيد الأطفال في قواته المسلحة. وأثر هذا التجنيد بالغ في تجنيد الأطفال في مناطق داعش، وتسميتهم بـ «أشبال الخلافة» تيمناً ربما بـ «أشبال صدام». وتصدى أولاد في سن بين العاشرة والخامسة عشرة، وكانوا مدربين عسكرياً وحُملوا على ضرب الحيوانات وإلحاق الأذى بها في مخيمات عسكرية لتتبلد مشاعرهم ويألفوا العنف، للقوات الأميركية في 2003 في مدن مثل الناصرية وكربلاء والموصل. ولكن الأسر المتطرفة لم يسعها وحدها بث العنف في الأطفال، لذا تحولت المدارس ركن مشروع تجنيد الأطفال وتلقينهم العقيدة الداعشية (...) وحازت الحصص الدينية مكانة بارزة (40 في المئة من الحصص) في مدارس داعش. ولازمة كتب داعش المدرسية هي محاربة الكفار والولاء للدولة الداعشية. وتبدد أثر التاريخ المعاصر من البرامج المدرسية وتربعت محلها سير الفتوحات الإسلامية «الداعشية». ولقّن الاطفال سير قادة داعش الشخصية. والجغرافيا المُدرَّسة هي مرآة عالم داعش ونظرته إلى العالم الأوسع. وتربعت محل الدول الحديثة المولودة من انهيار السلطنة العثمانية، الخلافة الإسلامية وولاياتها (محافظاتها). وفي خريطة العالم العربي الداعشية، وهي تمتد من الأندلس إلى الأهواز الإيرانية، على ضفة الخليج الشرقية، يلفى المرء تسميات قديمة مثل الحجاز وبلاد الشام. وفي المواد المدرسية «الدنيوية»، صيغت الكتب المدرسية العراقية من جديد، وغلب عليها حشو ديني داعشي وعسكري أثير على قلوب القائمين على البروباغندا في التنظيم. واللواء الداعشي الأسود يزين الكتب كلها.
وفي كتاب الإنكليزية، التلامذة مدعوون إلى قراءة وتكرار كلمات مثل «سنايبر» (قناص) و «سيرينغ» (إبرة) و «غَان» (مسدس)، على الملأ. والوجوه كلها، البشرية والحيوانية، ضبابية ومغشاة. وفي الرياضيات، يحصي التلامذة عدد القنابل والدبابات، عوض أن يعدّوا التفاحات والإجاص. واستبدل رمز الزائد + بحرف Z لتفادي الشبه مع الصليب. والمعضلات الحسابية هي تدريب على الأعمال «الجهادية»، ومنها على سبيل المثل: «مصنع متفجرات يصنع 100 لغم يومياً، كم يصنع في الساعة؟». (...) ويقدر عدد الأطفال في سن متوسطها الثانية عشرة الذين جندهم داعش في الموصل في أعمال الرصد والتفجيرات الانتحارية والقتال، بحوالى 5 آلاف طفل. وهم في سن صغيرة، فلا تعصى استمالتهم وتدريبهم والتحكم فيهم. والأطفال الداعشيون هم من منابت مختلفة: أولاد المقاتلين الأجانب، ونظيرهم من أولاد المقاتلين المحليين، وأطفال هجرهم أهلهم وتركوهم لسبيلهم، والمجندون قسراً مثل الأيتام والمختطفين، والمتطوعون. وهؤلاء هم «أشبال الخليفة». وبعضهم يجند في سن بين الخامسة والعاشرة في معسكرات دينية.
ولم يكن عسيراً على داعش تشكيل احتياطيها الأول من المجندين. فإثر السيطرة على الموصل في حزيران (يونيو) 2014، سطا المقاتلون على دور الأيتام حيث يتكدس عشرات الأطفال في سن بين الثالثة والسادسة عشرة. وكانوا يُلحقون أسبوعيا بهؤلاء الأيتام يتامى جدداً، بعد أن يقتلوا الآباء «الكفرة»، أو بعد انتزاعهم من عائلاتهم. وجنّد داعش أطفالاً من الشيعة، وكثيراً من الأطفال الأيزيديين. فالتنظيم هذا قرر استعباد هؤلاء القوم الكرديّي اللسان وتحويلهم إلى الإسلام وإلزامهم نبذ معتقد عمره أكثر من أربعة آلاف سنة، بعد احتلاله قراهم في منطقة سنجار، غرب الموصل في آب (أغسطس) 2014. وفي الموصل، قضى عدد كبير من «أشبال الخليفة» في قتال القوات العراقية، وكثيرون منهم قادوا سيارات مفخخة وجهت إلى صفوف الأعداء. ولائحة الشهداء التي نشرها داعش تظهر وجوهاً طفولية، وبعضها في سن لا يزيد عن اثني عشر عاماً. وعلى بُعد عشرات الكيلومترات شرق الموصل، في بلدة بازوايا، جلس طفل وراء مقود سيارة مفخخة تتجه إلى مدرعات قوى مكافحة الإرهاب العراقية. وفي وقت تجمدت القوات في مكانها حين رؤيتها السيارة المسرعة، سمع عبدالستار جابر، المكلف سماع موجات راديو داعش، صوت طفل يصرخ والفزع يعلوه: «إلى أين أنا ذاهب؟ إلى أين؟»، وصوت رجل يجيبه: «هيا اصدمهم، اضرب الكفار»، قبل لحظات من انفجار السيارة. وغيره من الأطفال سقطوا وهم يحملون بندقية آلية أو في قواعد «داعش» ومستودعاته ومختبرات التفجير الموزعة في المدينة. وفي البلدة القديمة، حيث لجأ الجهاديون في حزيران (يونيو) 2017، وجدت قوات النخب في قوات مكافحة الإرهاب العراقية في مرماها عدد كبير من الأطفال المسلحين.
وبعض الأطفال يعاني من آثار عميقة خلفها ما تعرض له من عنف وكان شاهداً عليه من فظاعات تعصى التحمل. والتباين شاسع بين اللامبالاة الظاهرة على وجه فهد، المراهق البريء ابن الثانية عشرة من العمر، واضطرابه حين يصف عنف أول عملية إعدام شاهدها. فعيناه السوداوتان تتوسعان وتتجمدان من غير أن يرف له جفن حين يروي هذه الذكرى التي يشعر بالضيق والكمد حين روايتها وتذكّرها: «كان بعد الظهر، الحي كله اجتمع، فداعش دعا الناس كلهم إلى مشاهدة ما يجري. وكان رجال يرجمون امرأة ودماغها متناثر على الأرض. شعرتُ بالمرض طوال شهرين، وعجزت عن النوم، ولم تفارقني الكوابيس، وصرت أرى أنهم يرجمون أمي أمام عيني». ووالدته تروي حاله: «صار يمشي وهو نائم. وصار يدخل غرفتي ليلاً ويمسك ملابسي ويصرخ: إنهم هنا، جاؤوا ليأخذونا!». وحالف الحظ فهد، فتسنت له متابعة علاج نفسي واجتماعي مع جمعية «تير ديزوم» (أرض البشر)، التي وضعت الرحال في مخيم حسن شام حيث لجأ على حدود كردستان العراقي. والمنظمة الإنسانية هذه تدعمها اليونيسيف، وتتابع علاج 600 طفل، في سن بين الرابعة والسبعة عشر عاماً، وقعوا ضحية العنف في عهد داعش وطوال أشهر القتال التسعة. «أكثر ما يعانون منه هو توتر ما بعد الأزمة: ثمة أطفال فقدوا السيطرة على المثانة، وبعض آخر يعجز عن الكلام، وكثر يضطربون حين تهجم عليه مشاهد عنف سبق أن شاهدوها، وثمة من يرى كوابيس مدارها الإعدامات والقتل». وبعض الأطفال يتمردون على أهلهم. وتروي المعالجة النفسية قصة طفل بالغ العنف، ولا يكف عن الصراخ إذا لم ينل مراده. فوالدته كانت تخيفه بالتلويح بداعش. ومنعته من الخروج، والكلام مع الأجانب منذ كان في الثانية من العمر، أي منذ وصول داعش إلى الموصل. وحين خرج للمرة الأولى إلى العالم الخارجي، كان القتال يدور، وجثث المقاتلين الداعشيين مرمية في الشارع. ولكن آلاف من الأطفال يفتقرون إلى العناية والمتابعة النفسية، وهم معرضون لمخاطر التقوقع على النفس، والذهان والفصام، والكآبة، والانزلاق إلى العنف. وهذه المعاناة لا تقتصر على الأطفال، بل تشمل الشرائح العمرية كلها. وتقول منظمة «أطباء بلا حدود» أن 30 في المئة من مرضاها فحسب من الأطفال.
* مراسلة عن «ليتا إيسلاميك دي الموصل:غيستوار دون انتربريز توتاليتير» ) الدولة الإسلامية في الموصل: قصة مشروع توتاليتاري، دار لا ديكوفيرت، باريس 2018.(
إعداد منال نحاس