سحر الجعارة
فى لحظة قاسية من عمر الوطن، السبت الماضى، أقيمت صلاة الغائب على أرواح شهداء مسجد «الروضة» ببئر العبد بكل مساجد مصر، فيما كانت الكنائس تدق أجراسها الحزينة فى كل أنحاء الجمهورية، لتعلن أن الموت يجمعنا ولا يفرق بين فصيلة دم المسلم والمسيحى.. وأن عشق الحياة يجمعنا لننبذ التطرف ونحارب الإرهاب.
وفى توقيت الحادث الإرهابى البشع كان البابا «تواضروس» الثانى، بابا الإسكندرية بطريرك الكرازة المرقسية، يخضع لجراحة دقيقة فى أحد المستشفيات بألمانيا، ورغم وهنه وحالته الصحية حرص على بث رسالة صوتية لشعب مصر تقدم فيها بالعزاء لشهداء حادث تفجير مسجد الروضة، وقال البابا بصوت يملأه الألم: «أتقدم لكل الأسر بخالص العزاء ونعلم أن هؤلاء صاروا فى عداد الشهداء، وأيضاً أصلى من أجل المصابين والمجروحين وأصلى من أجل كل الأسر التى تضررت من هذا الحادث وأصلى من أجل مصر كلها وكل شعبها وكل المسؤولين والقيادات فيها، فقد تضرروا كثيراً وتأثروا بهذا الحادث الشنيع».
كم كنا بحاجة لهذا المدد الروحى، لتلك الصلاة، لنتجمع على قلب رجل واحد يصلى دون خوف، ويعيش دون ذعر، ويواجه دون تردد لتتأكد وحدتنا وثقتنا فى الله الذى حفظ مصر.. أو كما قال البابا «تواضروس»: «ستبقى وحدة مصر القوية هى السند القوى وهى النموذج القوى لحياة مصر والمصريين».
كانت الكنائس المصرية (الأرثوذكسية والإنجيلية والكاثولكية)، تدرك مسؤوليتها فى الدفاع عن حرمة بيوت الله، وتعلن إيمانها بقدسية المساجد، وتؤكد أنها تقف فى الصفوف الأولى للدفاع عن الوطن.. ليس لأن أبناءها ذاقوا مرارة التفجير والاغتيال، وصعدت أرواح الشهداء منهم إلى السماء وهم يصلون، بل لأن نزيف الوطن واستنزاف الشعب نفسه فى حرب مفتوحة ضد الإرهاب تحتاج إلى التكاتف والترابط بين كل الأديان والمذاهب، ونبذ الفرقة والعنصرية والأفكار المتطرفة، ونشر «المحبة والتنوير».. لأنهما وجهان لعملة واحدة.
وإذا بجموع المسيحيين تأخذهم صدمة مروعة من الإعلامى «تامر أمين»، الذى لا يدرك أبجدية الإعلام فى يوم حالك السواد كهذا، ولا يعى شيئاً عن مسئولية موقعه.. فخرج يحدث الناس عما أسماه «إرهابى مسيحى متشدد»، وهى المرة الأولى التى يُنطق فيها هذا اللفظ فى الإعلام المصرى، والذى يفقدك صوابك أنه كان يعلق على حادث مسجد «الروضة» الإرهابى، الذى استشهد فيه 305 مصلين.. مبرراً الحادث المروع بأن: «من فعلوا هذا يستحيل أن يكونوا أتباع أى دين»!.
من أين جاء «أمين» بمصطلح «إرهابى مسيحى متشدد»؟، نحن نعلم أن اليهود يقومون بعملية إبادة عرقية للفلسطينيين، ورغم ذلك نقول إن «الكيان الصهيونى» يقوم بتصفية أصحاب الأرض الفلسطينية ولا نقول «اليهود»!.. هل لدى «تامر» وقائع مثبتة عن أعمال إرهابية قام بها «مسيحى إرهابى» فى مصر؟.. هل جماعات «داعش» و«حسم» و«حزب الله» تجند «المرتزقة» من الأقباط؟.. وهل يمكن أن نعتبر هذه الخطيئة الكبرى مجرد زلة لسان أو أن «أمين» خانه التعبير.. أم يجب محاسبته من «المجلس الأعلى للإعلام» باعتبارها جريمة تتجاوز ما قامت به المذيعة «رشا مجدى» على قناة «صدى البلد»، حين قالت: «أنا عقلى مش قادر يستوعب الحادث، شفنا هجمات بين الإرهابيين والشرطة والجيش، وقلنا إنه عنف متبادل معاهم، وهذه الجماعات المتطرفة تهاجم العديد من الكنائس، وقلنا آه معتبرين إنه دين غير الدين الإسلامى وعدو ليهم برضه، وقلنا ماشى، لكن مسلمين إزاى»؟.
من الذى مكَّن هؤلاء من المنابر الإعلامية، وهم لا يعرفون الفرق بين الإرهاب و«العنف المتبادل»، ويعتبرون الأقباط مواطنين من «الدرجة الثانية».. العادى والطبيعى أن يتم تفجير كنائسهم وإهدار دمائهم.. ثم أخيراً وصمهم بتهمة «الإرهاب»؟!.
هذه ليست أخطاء مهنية يمكن التجاوز عنها أو الاكتفاء بإنذار، إنه «نمط تفكير وتكفير».. فالإعلامى -أيضاً- ابن مجتمعه يتأثر بالمناخ السلفى السائد، ويصدق فتاوى التطرف، وينحنى لمشايخ التكفير ويقبل أياديهم الملطخة بفتاوى الدم!.
لم يكن هناك أبلغ من الرد العملى الموثق بالصوت والصورة فى أروع لقطة فيديو يمكن أن تصادفها عيناك: رجل مسيحى مصرى اسمه «أشرف حنا» اتصل ببرنامج «هذا الصباح» على فضائية «سى بى سى إكسترا»، وقام بقراءة الفاتحة على أرواح الشهداء.. وأضاف «أشرف»: «أنا أعرف مسلمين على حق تربيت فى وسطهم، أعرف الدين الإسلامى جيداً وأحفظ الكثير من الآيات القرآنية.. إنه دين الأخلاق والمعاملة.. أما هؤلاء فدخلاء على الإسلام».
يؤمن كل مسيحى بوصية سيدنا «عيسى» عليه السلام: «أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ، بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ، أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ».. أما بعض الإعلاميين فيحترفون نشر الكراهية والتعصب والفتنة الطائفية!.