رفيدة طه
1- ظل الإمام
يبدو أن معتقدات وقرارات آية الله الخميني ستبقى ملقية بظلالها على الكثير من جوانب الحياة في إيران حتى أمد طويل.
ربما ليس في إيران فرد أو طبقة لم تتأثر بشكل أو بآخر – بشكل جيد أو سيء – بآراء الإمام ومعتقداته. لكن ربما قبل الجامعيين، العمال، الفنانين، النساء أو حتى العسكريين فإن الروحانيين هم من يمكن القول عنهم أن الخميني قد “غير مصيرهم إلى الأبد”. 35 عاما مضت على الثورة التي تزعمها الخميني، 35 عاما على ما يفترض أنه تطبيق لنظريات آية الله في كتابيه “كشف الأسرار” و”الحكومة الإسلامية”. وقت كافٍ ربما، لتتم دراسة السؤال المهم بجدية: ماذا فعل الخميني بالروحانية الشيعية؟! قد يبدو للناظر سريعًا على أحوال إيران أن المعممين قد كسبوا أيما مكسب، بينما دراسة أعمق لجوانب أبعد، قد تظهر ألا مكسب يخلو من خسارة – أو خسارات! – وربما وحده الزمن يستطيع أن يجيب السؤال المزعج: هل كانت المكاسب تستحق كل ما حدث–وقد يحدث–؟
2- زواج الثروة والسلطة
بنيت الجمهورية الإسلامية على نظام سياسي فريد من نوعه أسماه الخميني “حكم الولي الفقيه”، نظام قد يكون تعريفه الأكثر شعبية وبساطة أنه الحكم الذي يرأس ويشغل هيئاته ومجالسه: المعممون!
شورى الحراسة، مجلس الخبراء، القضاء، المراكز الكبرى في القوات المسلحة، المحافظون، رؤساء الجامعات وغيرها هي نماذج فقط للأماكن التي يسيطر عليها الروحانيون سيطرة تامة! هو امتياز لا يأخذ شكله المؤسسي فقط، بل هو مقنن بدءًا من أعلى مستوى قانوني وتشريعي، من دستور الجمهورية الإسلامية نفسه. ليس هذا فحسب، بل إن الروحانية والسلطة المصاحبة لها تنتقلان بالوراثة أيضا لأبناء الروحانيين الكبار، حتى صار أصلا لا يقبل منازعته بسهولة، بل إن الاعتراض على هذا يكلف المعترضين الكثير.
كانت النتيجة المنطقية للسلطات المطلقة ثروات مخيفة أيضا! 35 عامًا من حكم المعممين كانت كفيلة بتحويلهم للطبقة الأعلى ماديا واجتماعيا وبشكل ممنهج تماما، تعيينهم وعائلاتهم في المناصب الكبرى بكل الجهات والهيئات الحكومية وصرف رواتب كبيرة لهم، منحهم العديد من التسهيلات في مشاريعهم الاقتصادية، التسامح الضريبي معهم بل وربما السماح لهم بتملك أجزاء هامة من أراضي الدولة ومشاريعها بأثمان زهيدة. هذه فقط بعض أشكال تغول وتوغل الروحانيين في اقتصاد البلاد. وهي فقط صور بسيطة لما آلت إليه الثورة بعد أن كانت ترفع شعارات المساواة والعدالة.
3- المجتمع “روحانيًا”
سلطات وثروات غير محدودة إذًا، مما سيعني القدرة على فرض “نمط الحياة الروحاني” على المجتمع بأكمله بالقهر أو بدونه. الحلم الذي لطالما راود المعممين صار حقيقة بشكل أو بآخر. فالمعممون ربما كمعظم الجماعات والحركات التي تضع في تعريفها كلمة “إسلامية” يرون المدينة الطوباوية متحققة كثيرًا – على الأقل بشكلها الخارجي – في نساء يرتدين الحجاب ورجال يحلقون شعورهم ولحاهم بأشكال محددة، وأعمال فنية مسيطر عليها، وحياة اجتماعية خاضعة لمعاييرهم في تجمعاتها واحتفالاتها.
ربما كان “الشق الاجتماعي لنصر الثورة” تحديدًا من أصعب تحديات الجمهورية الإسلامية، التحدي الذي بذلت الحكومة – ولا تزال – جهودًا هائلة في تحقيقه. فالمظاهر الاجتماعية لانتصار الثورة هي القادرة وحدها على استدعاء صورة “الدولة القوية المسيطرة” في الأذهان بمجرد المشي في أي شارع من شوارع البلاد.
تتزايد صعوبة إبقاء المجتمع على حالة مظهرية تناسب دولة يحكمها الروحانيون، خاصة مع التراجع الكبير في شعبيتهم التي لم تعد معها دروسهم وخطبهم ذات تأثير كافٍ! ليس هذا فحسب، بل صرنا نشهد أحيانًا تراجعًا في الاهتمام بالدروس الدعوية أو حتى الرغبة في إلقائها لدى بعض المعممين. فربما هم الآن لا يحتاجون “الخمس” – أحد أركان المذهب الشيعي، وهو نسبة يستحقها أولياء الله وأهل بيت النبي من الأرباح السنوية للشيعة –. وهي النسبة التي طالما أرهقت المعممين في عملية جمعها وابتكار الأساليب لذلك. لكن ربما لم يعد المعممون الآن بحاجة لامتهان المدح والإنشاد الديني للحصول على بعض الريالات من خمسهم، وربما لم يعد قوت يومهم معتمدًا على العدد التقي الصالح من الشعب الذي يقرر بذل خمسه بإرادته!
4- الثمن!
لطالما تبنت المؤسسة الروحانية الشيعية “الكفر القانوني” إذا صح التعبير! المؤسسة التي لم تؤمن بالمنظومة القانونية بشكلها الحداثي قبل الثورة وظلت تؤكد على وجوب استمداد المنظومة كلها من الشريعة، لم تستطع حتى بعد الثورة إجبار جميع أبنائها على الإيمان بالشكل الجديد للشريعة في شكل قانون حداثي أصيل! الشريعة التي اعتاد الروحانيون أن تكون قابلة للتفسير والتأويل على حسب علم وفهم كل مرجع شيعي، لم يكن من السهل استقرارها في ضمائرهم كقانون واحد لا يتغير. ظلت إذًا سلوكيات الروحانيين انعكاسًا لما اعتادوه من عدم وجود نظام تشريعي دقيق أو معايير أخلاقية شديدة التحديد في مؤسستهم!
ربما ساعد هذا كثيرًا في الفساد الأخلاقي السريع للروحانيين بمجرد أن ذاقوا طعم السلطة المطلقة. وربما لا يسهل علينا هذه الأيام العثور على روحاني واحد لم يستغل روحانيته بشكل يخدم مصالحه ومصالح عائلته، كالحصول على منح دراسية أو وظائف أفضل. فيبدو أن النصوص القانونية مازالت بالنسبة لهم حتى في زيها الشرعي خاضعة للتأويل والتفسير، وربما لأن الكائن البشري بطبيعته يمتلك قدرات هائلة على التبرير لنفسه إن وجد نصوصًا كثيرة تعينه على ذلك.
فحتى الروحانيون الذين ظل ضميرهم الديني يقظًا بما يكفي، يستطيعون بسهولة كبيرة تسكين ضمائرهم بتعاليم الخميني نفسه.
سلط الخميني الروحانيين على البلاد والعباد دون بنائهم بناءً أخلاقيا وقانونيا بشكلٍ كافٍ! ربما بهذا خسر ثقة الناس في المؤسسة الروحانية كلها في وقت قياسي، الثقة التي تطلب بناؤها جهدا كبيرا وزمنا طويلا. وربما لهذا السبب تحديدا عارض العديد من الروحانيين نظرية ولاية الفقيه. المعارضة التي لم يستجب لها الخميني بالتأكيد. بل شوه بعض معارضي الفكرة ووصفهم أحيانا بروحانيي السلطة أو “الخونة الذين بيننا”.
تغولت الروحانية إذًا، فأصبح الروحانيون المعارضون لنظرية الولي الفقيه أصدق إثبات على حكمة معارضتهم. إذ تراجع معظمهم عن أفكارهم أمام بريق السلطة المطلقة بل ورحبوا بنظريات الإمام! كسب الروحانيون السلطة وخسروا ثقة الشعب، ذاك الذي أصبح الروحانيون لا يذكرون أنهم كانوا منه يوما إلا ربما في خطابات الاحتفالات بذكرى الثورة، حين يجب أن يصعد معمم ما على منصة ما ليذكر مآثر “الثورة الشعبية”!
كان المواطنون يوما يعتبرون الروحانيين وعاظهم ومشاوريهم، لكن بعد عشرين عامًا من الثورة وقبل قمع مراكز الإحصاء شبه المستقلة كانت شعبية الروحانيين قد وصلت إلى أرقام أحادية. وبلغ الفساد حدًا يُرى معه أحيانًا في الآونة الأخيرة طلبة شرعيين لا يتحرجون من التأفف علنًا مما يصدر من روحانييهم الذين كانوا يظنونهم أمثلة عليا في طاعة الله.
5- المستقبل الغامض!
كانت الكارثة الأكبر ربط الروحانية بالدولة، الروحانية التي طالما كانت مؤسسة مدنية شبه مستقلة ذات تمويل مستقل غير معتمد على من في الحكم، جعلها الخميني جزءًا أساسيا من النظام لا ينفك أيهما عن الآخر. وتابع الإمام اللاحق خامنئي مشروع الإمام السابق في ربط حتى المؤسسات المتفرعة من المؤسسة الروحانية بشكل كامل بالنظام، إداريا وماليا ومعنويا. ربما كان هذا إجراءً ضروريا للحفاظ على استقرار النظام وضمان تابعية المؤسسة الأهم له، لكنه أيضا كان له أثره البالغ على فقدان الروحانية بشكل كبير لدورها في المجتمع.
ربما بدون تلك السلطة المطلقة مع الاحتفاظ بالظهير الشعبي كان من الممكن للمؤسسة الروحانية أن تصبح يوما مؤسسة كبرى لا تهتز ركائزها بما حولها من حوادث اجتماعية وسياسية. مؤسسة شبيهة بالكنيسة الكاثوليكية مثلا. لكن الآن سيعني انتهاء النظام الإيراني سواء بحملة خارجية أو ثورة داخلية، سيعني بالتأكيد موت المؤسسة الروحانية الشيعية في إيران وموت معظم المؤسسات التابعة لها موتا تدريجيا. ربما دون أن يدري الخميني هدمت نظريته كل الإصلاحات التي كانت قد بدأتها الحركة الروحانية قبل الثورة بعشرين عاما. يبدو إذًا أن الروحانيين استبدلوا مصدر سلطتهم الذي كان يوما الشعب، بالحكومة وتشكيلاتها النظامية وشبه النظامية وصواريخها وملفها النووي. لكن ربما كان عليهم أن يسألوا أنفسهم يومًا أي مصدر للسلطة أكثر دوامًا من الآخر؟!
ساسة بوست