تلخيص كتاب: الشتاء العربي - مقالات
أحدث المقالات

تلخيص كتاب: الشتاء العربي

تلخيص كتاب: الشتاء العربي

روبرت ر. رايلي (*)

إن إحدى رواياتي المفضلة هي كوميديا بعنوان حمى الربيع وهناك كتاب جديد بنفس الاسم، لأندرو مكارثي، سوف يوفر لنا بعض التسلية. وليس ذلك هو القصد. إن كتاب;حمى الربيع لمكارثي عبارة عن عمل جدلي، تتخلله اللغة العامية نظراً إلى السخرية الموجودة فيه. هذا ليس نقداً، إنما وصف.  إن العنوان الفرعي للكتاب هو وهم الديمقراطية الإسلامية والغرض منه، كما يقول مكارثي، ليس رواية تاريخ نهائي;للربيع العربي وإنما تقديم طريقة بديلة للتفكير في الظاهرة التي تتكشف أمام أعيننا هذه الظاهرة، بحسب تشخيصه، ليست دمقرطة، بل أسلمة مع رغبة في الصميم بحكم الشريعة.
هذا ليس، في حد ذاته، كتاباً عن الإرهاب، وهو موضوع يعتبر مكارثي خبيراً فيه. فبصفته مساعد المدعي العام الأميركي، فقد قاد دعوى قضائية ضد الجاني الرئيس في تفجير مركز التجارة العالمي، عمر عبد الرحمن عام 1993. إذ من كان يتصور في ذلك الوقت، في عام 2012، أن رئيس جمهورية مصر العربية الجديد، محمد مرسي (والسابق الآن)، سيدعو صراحة وعلناً إلى عودة عبد الرحمن إلى الوطن؟ وشارك أيضا مكارثي في محاكمة الإرهابيين الرئيسيين الآخرين. ومن خلال تجاربه، طوَّر فهماً عميقاً للإيديولوجية الاسلامية التي تقف وراء هذه الأعمال الإرهابية. إن كتاباته حول هذا الموضوع عميقة. وهو مؤلف كتاب العمى المتعمد: مذكرات الجهاد (2008) والجهاد الكبير: كيف خرَّب الإسلام واليسار أميركا (2010). وقد وسع الآن نظرته إلى المشكلة الأكبر المتعلقة بآفاق الإصلاح في الشرق الأوسط وألقى نظرة فاحصة على الربيع العربي.
إنه يركز على موضوعين: تحول ما قبل الربيع العربي في تركيا- المتميز بانتصار حزب العدالة والتنمية وانتخاب رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان - والنجاح السابق لجماعة الإخوان المسلمين في مصر. وهو يصنع هنا قضية مقنعة بقوله إنه لو كان لدينا فهم حقيقي لطبيعة التحول في تركيا، لكنا رأينا ما الذي كان مقبلاً في مصر. لكننا لم نفهم ولم نر.
على الرغم من الانتهاء من هذا الكتاب القصير في صيف عام 2012، فإن أحداثاً وقعت في الآونة الأخيرة، بما في ذلك المصادقة على الدستور المصري الجديد، رغم أنه معلق الآن، تؤكد في معظمها على طرحه. أما ما لم يتمكن مكارثي من توقعه فهو الانتفاضة الواسعة ضد مرسي في صيف عام 2013، أي بعد عام واحد. ويبدأ ماكارثي باقتباس أصيل عن أردوغان في عام 1998 يقول فيه: الديمقراطية ليست سوى القطار الذي نصعد على متنه للوصول إلى وجهتنا في نفس العام، تم الدفع بقطار أردوغان جانباً بواسطة الجيش التركي، إذ سجن أردوغان مدة أربعة أشهر بتهمة التحريض الديني في بلد كان من المفترض أنه لا يزال جمهورية علمانية. أما هو فقد تعلم الدرس. عندما عاد إلى السلطة في عام 2003، وهذه المرة كرئيس للوزراء، مارس أردوغان السلطة بحكمة وصبر استثنائيين حتى لا يرعب العسكر مرة أخرى قبل أن يصبح في مركز يتمكن فيه من إخصاء الجيش. لقد كان ناجحاً بشكل عاصف على مدى الانتخابات الثلاثة المتعاقبة، مما زاد في الأغلبية النسبية لحزب العدالة والتنمية كل مرة-  الانتخابات الأخيرة قاربت النسبة 50٪. أما برنامجه بخصوص زحف الأسلمة فقد تسارع وفقاً لذلك، حيث إنه جد السير من خلال المؤسسات، بما في ذلك القضاء، والصحافة، وعالم التجارة والأعمال، والتعليم، والأهم من ذلك الجيش.
يشير مكارثي إلى المفارقة الهائلة وهي أن أردوغان فعل هذا بالامتثال الكامل للقوى الغربية، وحتى بتشجيع منهم. وكان الغطاء ترشيح تركيا المفترض للعضوية في الاتحاد الأوروبي. ومن أجل التأهل لذلك، كانت تركيا بحاجة إلى وضع جيشها في حالة خضوع تام للسلطات المدنية. ووفقا للدستور التركي، الجيش هو الضامن النهائي للنظام العلماني. فعندما كان هذا النظام مهدداً، أطاح الجيش بالقادة المدنيين في الأعوام 1960 و1971 و1980، وبطريقة خفية أكثر، في عام 1998 أيضاً. وقد استخدم أردوغان الغرب لتحجيم قوة الجيش التركي، وبالتالي إزالة الحامي الأقوى والوحيد للديمقراطية العلمانية في العالم الإسلامي. وبإشهاره تهم التآمر الملفقة واستخدامها ببراعة، تمكن أردوغان، وبنجاح، من قطع رأس الجيش سجن المئات من كبار الضباط. ووقف الغرب إلى جانبه، حتى أنهم صفقوا له، دون أن يدركوا أن برنامج الأسلمة لدى أردوغان يعني في نهاية المطاف نزع الدمقرطة عن تركيا. لقد كانت هذه الاستراتيجية المثالية: أسلمة باسم الديمقراطية. هذا الأمر أدى، بطبيعة الحال، إلى تغييرات في السياسة الخارجية التركية، وبصورة رئيسة بما يتعلق بالعداء الصريح تجاه إسرائيل، حليفتها السابقة. أما إلى أي مدى كان أردوغان على استعداد للذهاب في هذا الاتجاه فقد تجلى ذلك من خلال دعمه للمحاولة غير الحكيمة أبداً لسفينة مرمرة لكسر الحصار البحري على غزة.
مع ذلك، ووفقاً لدستورها، لا تزال تركيا دولة علمانية رسمياً. فرغم أن أردوغان زاد من دور الدين في الحياة العامة، فإن تركيا ليست دولة شريعة ولا زال أمامها مسافة لتقطعها قبل أن تصبح كذلك. وكي ينجح أردوغان بتحقيق مشروعه بالأسلمة، فإنه بحاجة في نهاية المطاف إلى وضع دستور جديد، الذي يبدو أن آفاقه وفرصه تتلاشى. وقد يعتمد أيضاً على قدرته على التمثل بفلاديمير بوتين، وهذا يعني التحول من كونه رئيساً للوزراء إلى رئيس في انتخابات عام 2014. وإذا أخذنا بعين الاعتبار المظاهرات الضخمة في الشوارع ضد أردوغان في بداية ربيع عام 2013، فمن المشكوك به بشكل متزايد أن يتمكن من تدبير هذا الأمر.
بما أن رأي مكارثي بالأحداث في تركيا ليس مشتركاً على نطاق واسع في مؤسسة السياسة الخارجية، فليس مفاجئاً ألا يكون المسار التركي قد عمل على تحذير دبلوماسيينا مما كان سيجري في مصر قريباً. فبعد الإطاحة بمبارك من قبل الجيش المصري في عام 2011، خرج قطار الديمقراطية عن سكته مع سيطرة الإخوان المسلمين. لم تشعر إدارة أوباما بالقلق. ففي جلسة الاستماع للجنة الاستخبارات في مجلس النواب في 10 فبراير، 2011، وصف مدير الاستخبارات الوطنية جيمس كلابر، وبشكل معيب، جماعة الإخوان المسلمين بأنها منظمة علمانية إلى حد كبير بدون أجندة شاملة وكما قال الروائي سول بيلو مرة، هناك قدر كبير من الذكاء يمكن استثماره في الجهل عند الحاجة لوجود وهم عميق إن عمق الجهل في هذا البيان كان صادماً. لقد تأسست جماعة الاخوان المسلمين عام 1928 في رد فعل على إلغاء كمال أتاتورك للخلافة في عام 1924. إن أجندتها الشاملة هي استعادة الخلافة وفرض حكم الشريعة. هذا لم يكن سراً أبداً. وقال خيرت الشاطر، نائب المرشد الحالي لجماعة الإخوان، المهمة واضحة: استعادة الإسلام ومفهومه الشامل؛ عبادة الناس لله؛ إقامة دين الله: أسلمة الحياة، التمكين من دين الله، وإقامة نهضة الأمة على أساس الإسلام.
إن آلية الإخوان لإنجاز هذه الأجندة، وفقا للمؤسس حسن البنا، هي نظام الحزب الواحد الأقرب ما يكون إلى ذلك الذي كان لدى الاتحاد السوفياتي في عهد ستالين. لقد توخى البنا استراتيجية من أسفل إلى أعلى تتم فيها أسلمة الناس على المستوى المحلي أولاً. ولهذا الغرض، أنشأ حزبه. وبعد الفوز بالجماهير، سوف يتولى الإخوان المسلمون السيطرة الكاملة.
حاول الإخوان المسلمون، كأردوغان وحزب العدالة والتنمية، وإن كان في إطار زمني متداخل للغاية، السير عبر المؤسسات في مصر. فإذا كانت تركيا تمر بأسلمة زاحفة، فإن مصر قد اندفعت تجاهها. ففي مارس/ آذار 2011، فاز الإخوان بأغلبية ساحقة في استفتاء وطني تطلب اجراء انتخابات برلمانية مبكرة.  ثم فازوا في الانتخابات البرلمانية. ثم فاز مرشح المنظمة محمد مرسي بالرئاسة. وأقر الدستور الذي صيغ حديثا (مع وقف التنفيذ الآن) في ديسمبر/ كانون أول 2012 بنسبة 64٪ تقريباً من الذين أدلوا بأصواتهم. وقبيل الانتخابات البرلمانية الجديدة، اختار مرسي المجلس الأعلى للبرلمان، المدعو مجلس الشورى (المنحل الآن)، من الأعضاء التابعين له، الذين كان لديهم سلطة التشريع لانتخاب مجلس النواب الجديد. وقام مرسي بقطع رأس الجيش المصري القوي وبدا أنه يصنع السلام معه. وأعطاه الدستور الجديد السلطة ليكون له القدرة على تطهير المحكمة الدستورية العليا عن طريق الحد من حجمه من 18 إلى 11 عضو. وقام باستبدال رؤساء وسائل الاعلام الرسمية. وبرغم المعارضة الكبيرة، في بعض الأحيان، فقد بدا أن الإخوان ومرسي قد قاموا باكتساح نظيف في توطيد سلطتهم.

لماذا كان هذا الأمر في غاية الخطورة؟ في مقابلة له في أغسطس/ آب 2010، قال مرسي إن الحرية تعني أن تكون تحكمها المبادئ الإسلامية المنفذة في الدستور هذا يعني الشريعة. وعلى عكس أردوغان (حتى الآونة الأخيرة)، مارس مرسي والإخوان سياسة التعقل والصبر في تحقيق الهدف النهائي. (وفي المقابل، شاهدوا الحذر الذي تمارسه جماعة الإخوان المسلمين التابعة لهم في تونس، أي حزب النهضة). وفي استعراضه هذا النوع من المرونة، أشار الشيخ يوسف القرضاوي، بحكم كونه المرشد الروحي الواقعي للإخوان، الى وجوب تنفيذ الشريعة الإسلامية تدريجياً في مصر: أنا أعتقد أنه في السنوات الخمس الأولى، لا ينبغي أن هناك أن يكون هناك بتر للأيدي كما هو الحال في تركيا بظل قيادة أردوغان، اتخذت مصر بظل حكم مرسي مقاربة ونهجاً جديداً في السياسة الخارجية. ففي مقابلة له في سبتمبر/ أيلول العام 2010، والتي أتاحها معهد بحوث وسائل الإعلام في الشرق الأوسط قدم مرسي نظرة عامة لما قد يكون عليه نهج مصر إزاء إسرائيل (على الرغم من أن مرسي مارس هنا بعض الحذر لدى تسلمه السلطة، برغم تملقه لحماس وإيران):
إما أن تقبل الصهاينة وكل ما يريدونه، وإلا فإنها الحرب. هذا ما يعرفه المحتلون لأرض فلسطين - مصاصو الدماء هؤلاء، الذين يعتدون على الفلسطينيين، ودعاة الحرب، أحفاد القردة والخنازير .... يجب علينا مواجهة الكيان الصهيوني .... نحن نريد دولة للفلسطينيين على كامل أرض فلسطين، على أساس المواطنة الفلسطينية. كل الحديث عن حل الدولتين والسلام ليس أكثر من وهم.
في ظهور آخر له عام 2010 في اجتماع حاشد في دلتا النيل، مسقط رأسه، قال مرسي: يجب علينا ألا ننسى أبدا، أيها الإخوة، تربية أطفالنا وأحفادنا على كراهيتهم: كراهية الصهاينة، كراهية اليهود وأضاف مرسي يقول ينبغي للأطفال المصريين أن يتغذوا على الكراهية؛ يجب أن تستمر الكراهية .... إن الكراهية يجب أن تستمر في سبيل الله باعتبارها شكلا من أشكال العبادة له
كل هذا، يقول مكارثي، كان متوقعا، وهو يخمن سبب اختيار الغرب عدم الاعتراف لنفسه بطبيعة التغيرات التي تحدث في الشرق الأوسط. إن الجهل هو أحد الأعذار وخداع النفس عذر آخر. أما عزام التميمي، كاتب سيرة راشد الغنوشي، رئيس حزب النهضة الإسلامي في تونس، فقال إنه يجب علينا الالتفات لشيء آخر. إن النضال الحقيقي في المستقبل، بحسب تعبيره، سيكون حول من هو الاسلامي ومن هو الأكثر إسلامية، بدلا من أن يكون حول العلمانيين والإسلاميين حتى وقت قريب، كان هذا الأمر، بالتأكيد، يثبت صحته في مصر، حيث كان السلفيون والإخوان يتنازعون حول من هو أكثر أصالة إسلامياً، وليس حول من هو أكثر ديمقراطية. إن الإطاحة بمرسي في مصر لا تدحض بالضرورة هذا التوقع، حيث إن الإسلاميين لا زالوا أكبر قوة سياسية منظمة مع احتكار تقريباً للشرعية الدينية. في أي حال، إن المفارقة الرهيبة، كما يشير مكارثي، هي أن هذا هو المستقبل الذي ساعدنا على تشكيله، لسوء الطالع.

إن أحد النواقص في الكتاب هو ندرة الهوامش. لقد أخفق مكارثي في تقديم مصادر العديد من الاقتباسات والمراجع. وأود هنا أن أضيف نقطتين أخريين. لقد أخفق مكارثي في هجومه على آية الله علي السيستاني في العراق بالإحاطة بواقع هو أن السيستاني، في معارضته لعقيدة ولاية الفقيه النهج السائد في ثيوقراطية إيران، يمثل التقليد الأهدأ والأكثر استكانة في المذهب الشيعي، والمعروف باسم الإرشاد والتوجيه. إن نجاحه في استعادة المذهب الشيعي التقليدي سيعيد نقل مركز الثقل الديني من مدينة قم في إيران إلى النجف في العراق، ما يشكل تهديدا قاتلاً للتبرير الأيديولوجي للنظام الإيراني. لو أننا كنا نعرف ما كنا نفعله في العراق، فإن هذا الأمر كان يجب علينا أن نصوِّب عليه من البداية. هذا هو السبب في أن إيران تحاول إدراج آية الله محمود هاشمي شاهرودي خلفا للسيستاني. وبقدر مقته لأحكام السيستاني حول المثليين جنسيا والكفار، بحسب ما ذكر مكارثي، فإن نجاحه في هذا المسعى الكبير ربما يمثل ربحاً صافياً ضخماً. وأنا مندهش لأن مكارثي لا يرى هذا.
أخيرا، يقول مكارثي إن مصر، وعلى خلاف تركيا، لم يكن لديها أبدا مشروع علمنة في الواقع، لقد كان لديها هذا المشروع. لقد كان يطلق على مصر اسم الإمبراطورية البريطانية. إذ كانت مصر تتمتع، بظل البريطانيين، بحكم ملكي دستوري، مع برلمان حقيقي، حكومة محدودة، قضاء مستقل، وصحافة حرة نسبياً. لم يكن هناك أبدا محاولة لمحو الإسلام من المجال العام كما كان الأمر في تركيا بظل حكم أتاتورك، إلا أن السؤال الحقيقي يصبح: لماذا لم تؤد الديمقراطية إلى مزيد من الديمقراطية في مصر، أو في أي مكان آخر في الشرق العربي الشرق؟ هذه النقطة وحدها تعزز الطرح العام لمكارثي.
إذا كان نقص الحواشي هو العيب الكبير الوحيد في كتاب مكارثي، فإن الإسراف في الهوامش في كتاب أندرو بوستوم;الشريعة مقابل الحرية هي أحد مقوماته الرئيسة. فهناك ما يقرب من 200 صفحة من هذه الهوامش. إن بوستوم، وهو طبيب، باحث مذهل. إن كتابيه الاولين، إرث الجهاد: الجهاد الإسلامي ومصير غير المسلمين التراث الإسلامي في معاداة السامية هما خلاصتان وافيتان لوثائق تاريخية ترسمان بتفصيل رائع ومتقن فقه الجهاد الإسلامي ومعاداة السامية في الإسلام، إلى جانب لمحات أكاديمية عامة معاصرة. هذه المجلدات الرصينة تجعل من الصعب جداً على أي شخص أن ينكر الدور المركزي للجهاد بوصفه شكلاً من أشكال عنف الفتح في الإسلام أو معاداة السامية كعنصر أساسي من عناصر العقيدة الإسلامية. فأي شخص يرغب في الترويج لرؤية الإسلام كمعتقد يستبعد التعددية سيعاني كثيراً حتى لا يتعثر بهاتين الصخرتين الكبيرتين في طريقه. يمكن للمرء أن يحاول القول بأن هذه المواد، التي تشكل بلا شك، صدمة لأولئك الذين لم يروها من قبل، قد تم استبدالها، قد عفا عليها الزمن، أو أنها أصبحت من التاريخ، لكنه لا يستطيع أن ينكر وجودها. في الواقع، يوضح بوستوم أن هذه المبادئ تتحقق في الإسلام المعاصر أيضاً، من خلال توفير أدلة وافرة عن تكرارها المتواتر. هذه هي الخدمات الاستثنائية التي قدمها بوستوم في بحثه الضخم. إن كتابه الجديد – مع مقدمة من أندرو مكارثي-  ليس تجميعا لوثائق وإنما مجموعة من مقالاته الخاصة، والكثير منها كنت قد قرأتها (وحفَّظتها) عندما نُشرت للمرة الاولى. وككل شيء يكتبه، هي مقالات منمقة بمواد مصادر كبيرة، كل مصدر منها موثق توثيقاً جيداً. هذا الأمر في حد ذاته، يجعل من الكتاب منجماً من الذهب لأي شخص مهتم بالموضوع. وكما يتوقع المرء من مجموعة كهذه، فإن معظم هذه المقالات قائمة بذاتها، وتعمل بشكل مستقل. لذا، فإن الكتاب لا يطور باستمرار موضوعاته بقدر ما يكررها، وإن كان ذلك في سياقات مختلفة، ليضيف كل تكرار إلى المعنى العام ويؤثر على أطروحة المؤلف.
إن بوستوم بالتأكيد من الرأي القائل بأن ما نشهده بشأن الإسلام اليوم هو انبعاث للماضي. فهو قد يقول ببساطة، كجيرترود شتاين، إن الإسلام هو الإسلام، واتركوا الأمر عند هذا الحد. في الواقع، إن تلك الأطروحة تستحق الاهتمام الجدي. فإذا كان على حق، فمن الأفضل لنا فهم الماضي جيداً إذا كنا نود أن نعرف ما الذي سيحدث، خصوصا بالنسبة لنا.
إنه يميل إلى اعتبار الإسلام بمثابة نظام ملموس بسبب تدوينه في الشريعة (الفقه الإسلامي، الذي ينظم كل جانب من جوانب الحياة). وبما أن الشريعة تعتبر شبه إلهية، بالحد الأدنى، فإن احتمال تحولها إلى شيء أكثر ليبرالية وإنسانية احتمال ضئيل. وأعتقد أنه، وبشكل رئيسي، محق بهذا، على الرغم من أن الشريعة يمكن أن تكون أكثر مرونة مما يوحي به. إن مفهوم المصلحة، أو الصالح العام، يفسح المجال لبعض التذبذب. وكما قال لي مرة أحد المعارف الفرنسيين ممن قضى سنوات في شمال أفريقيا: &qascii117ot;أنت تحصل على الفتوى التي تريد مقابل الدفع لقائها &qascii117ot;. مع ذلك، فإن الشريعة هي دائما الموضع الافتراضي للإسلام، كما هو واضح من تطورات ما يسمى اليوم بالربيع العربي. وهناك العديد من المسلمين، وربما معظمهم (وفقا لمسوحات المقابلات حول الرأي العام العالمي التي أجرتها جامعة ميريلاند والتي يستشهد بها بوستوم ست مرات) لديهم توق عميق إلى الشريعة، والسبب، في رأيي، هو أن الشريعة هي المصدر الوحيد للثقة واليقين الأخلاقي في حياتهم. ويصبح الأمر هاماً، خاصة خلال فترات الاضطرابات. شاهدوا هذه الظاهرة في شعب أفغانستان اليوم، فحتى المسؤولون الحكوميون، في أجزاء من البلاد التي هي تحت سيطرة حكومة كرزاي، يعبرون إلى أراضي طالبان لطرح قضاياهم وسماعها من قبل المحاكم الشرعية. وعندما وصل المتمردون الاسلاميون إلى بلدة ديابالي (Diabaly) في مالي في يناير/ كانون الثاني الماضي، كانت أحد أولى الأشياء التي قاموا بها الإعلان للقرويين بأن شخصا ما سيكون هناك قريباً لتعليمهم الشريعة الإسلامية.
وكما يذكر مكارثي في مقدمته وكما يقول بوستوم بإسهاب ويوضح مرارا وتكرارا طوال الكتاب، الشريعة معادية لحرية الضمير، حرية الدين، والمساواة أمام القانون، وهي معادية فحسب لكل العناصر الأخرى التي هي أساس الحكم الدستوري الديمقراطي. إنها تقنن وتنظم عدم المساواة بين الرجل والمرأة، المسلمين وغير المسلمين، والحر والعبد. لذلك، عندما سمعنا محمد مرسي، خلال ظهوره في الحملة، مردداً، الشريعة، ثم الشريعة، وأخيرا، الشريعة، كان ينبغي أن نشعر بالقلق.
إن المشكلة الأساسية هي أن الإسلام قد هبط إلى مستوى أحكام الشريعة. وقد فعل ذلك عن طريق اقتلاع الفلسفة ونزع الشرعية عن المنطق الأخلاقي بصرف النظر عن المصادر الكاشفة. وعندما أصبح شكلاً من أشكال الوضعية القانونية الإلهية، وضع الإسلام السني نفسه في سجن لاهوتي. ويعرف بوستوم زنزانة السجن بشكل جيد جداً، ليس فقط من معالمها في الوقت الحاضر، وإنما من المخططات الهندسية لها. أنا أعرف الكثير من المسلمين الذين يريدون الخروج من هذه الزنزانة. حتى أني أعرف بعض الذين لاذوا بالفرار منها.  في الواقع، إن الجزء الأخير من الكتاب مكرس لتضخيم رسالة تحذير من المرتدين المسلمين مثل ابن وراق، وفاء سلطان، وهيرسي علي. (وأعتقد أن من الإنصاف القول من كتاب بوستوم بأنه يعتبر المسلم الجيد هو فقط المسلم المرتد). وينتهي بتأمل جميل، مطول حول ويتاكر تشامبر وهو شيوعي أميركي سابق والذي حاول تحذير الغرب من الاتحاد السوفياتي؛ ويرسم بوستوم بشكل حاذق أوجه التشابه بين الشمولية الشيوعية والإسلام.
إنه يستهلك قدراً كبيراً من الوقت أيضاً على موضوعات معاداة السامية والجهاد في الإسلام في تجلياتهما التاريخية والمعاصرة. ويكتب باستمتاع خاص عن العلاقة بين النازيين والإسلام، وهو يزيل بالقوة جزءاً مهماً من مفهوم العصر الذهبي في الأندلس، في إسبانيا. وغالبا ما يواصل بوستوم ذكر موقف معاكس ومن ثم مهاجمته عن طريق مراكمة الاقتباسات التي تظهر خطأ الموقف أو تشويهه الصارخ للإسلام. بشكل عام، هذا الأمر فعال، حيث إن مصادره تعتبر جيدة جدا. كما أن تفسيراته هي كذلك، بصفة عامة. فهو لا يحتمل أي اعتراض إذا ما شرد أي شخص عن أطروحته أو كان، في الواقع، لا يؤكدها، وهو ميال لتحقيق هزائم جدلية للغاية. أنا أعرف ذلك لأني كنت الطرف المتلقي لها.
أترك جانبا حالات قليلة هامشية حيث كان حماسه ونبرته الحادة تخرجان ما هو الأفضل منه من أجل التركيز على الخلاف الأساسي والهام جداً بيننا. ففي الجزء الثالث من الكتاب، بعنوان الإسلام، الشريعة، وخيانة المثقفين هناك فصل مخصص لـ أوهام المعتزلة: التفاهة في العصر الذهبي لمنطق الإسلام. ويدعي بوستوم هنا أن أسطورة العصر الذهبي للعقلانية الإسلامية تلعب دوراً حاسماً في الحفاظ على سبات المؤسسة الأميركية في استيعاب حقد الجهاد السياسي وبعد أن عملتُ في السياسة الخارجية والأمن القومي لعدة سنوات، لا أعتقد أن بإمكاني العثور على واحد في المئة من الأشخاص سبق له أن سمع بمعتزلة القرن التاسع، أو أقل من هذه النسبة بكثير ممن يركنون إلى شعور زائف بالأمان بسبب معرفتهم بهم. مع ذلك، يقول بوستوم، وبشكل بعيد الاحتمال في كل حال، بأني قد ساهمت في تكريس هذه الأسطورة الخطيرة في كتابي إغلاق عقل المسلم (2010)
من ناحية أخرى، وفي الفصل الدقيق الرائع لبوستوم حول محاضرة ريجنسبورج للبابا بنديكتوس السادس عشر، لا يذكر أبداً ولو لمرة واحدة الأطروحة المركزية للبابا بأن مشاكل الإسلام مستمدة من التقليل من الحضارة الإغريقية، وفقدانه للمنطق والفلسفة. وهذا هو موضوع دراستي، والذي تطلب، بطبيعة الحال، التعامل مع فترة الحضارة الاغريقية الوجيزة التي سبقت الإسلام. وهي الفترة في أوائل القرن التاسع، التي تشكل فيها مذهب المعتزلة. ويضع بوستوم حجة يمكن إبطالها بسهولة عن طريق الإيحاء بأني وآخرين من أمثالي نعتبر المعتزلة مفكرين أحرارا وليبراليين لم ولن أستخدم مثل هذا التوصيف (وأعلم أن ليس هناك من سبق واستخدمه) وذلك لسبب واحد هو أنه غير قابل للتطبيق بالنسبة لهم أو بالنسبة لأي مدرسة فكرية في القرن التاسع، كما أنه، بما يتعلق بتلك المسألة، غير قابل للتطبيق بالنسبة لقرون عديدة بعد ذلك. نحن لا نتعامل هنا مع عصر التنوير، وإنما مع استيعاب التأثيرات الأرسطية في الدين الإسلامي. وبعد اتهامي بهذه المفارقة التاريخية، فإن بوستوم يستخدمها لانتقاد المعتزلة لعدم كونهم مفكرين أحرار ليبراليين، كما لو أن هذا يثبت قضيته ضدهم.
إن سبب كون هذه المشكلة تستحق البحث مطولاً إلى حد ما هو أن المرء سوف يكتسب فهماً أعمق بكثير للإسلام إذا ما علم المرء النزاعات التي حدثت بداخله. هذا النوع من التقدير يمكن أن يوفر الأساس لتقييم أكثر واقعية للآفاق التي يملكها المسلمون اليوم الهاربين من الاختلال الثقافي الذي جعلوا أنفسهم يعلقون في فخه. إن استيعاب حدود الزنزانة (تخصص بوستوم) أمر نافع وقيِّم، إنما أيضاً معرفة سبب بنائها، وسبب سجن المسلمين أنفسهم فيها هو أمر قيِّم ونافع أيضاً.
بعبارة أخرى، إن الأمر يستحق المعرفة عن الحضارة الاغريقية في الإسلام والتقليل من الحضارة الاغريقية لاحقاً، خاصة إذا كنت تود أن تتبين ما إذا كان بالإمكان إعادة استقاء هذه الحضارة ـ السبيل الوحيد للخروج من السجن. وكما يبين كتابي، هذا احتمال قاتم في الواقع. أعتقد أن من يعرف هذه الأمور سيكون ركونه إلى شعور زائف بالأمان أقل احتمالاً من شخص لا يعرفها. وعلى ما يبدو يعتقد بوستوم بأن لا شيء من هذا كله له أهمية، كما يشير، كما لو أن هذا يعتبر كشفاً، إلى الخلفاء الذين رعوا مدرسة المنطق الديني هذه والتي، مع ذلك، أدارت الجهاد. (بطبيعة الحال لقد فعلوا ذلك، كان لديهم التزام فقهي للقيام بذلك). كما يشير حتى ـ وهذه هي النقطة الحساسة ـ إلى أنه لو ظل المعتزلة في حالة صعود، فإن ذلك لم يكن ليجعل الأمور مختلفة إلى حد كبير، ولربما جعلها ذلك أسوأ حتى.
لقبول أطروحة بوستوم، سيكون علينا تجاهل أهمية الخلافات بين المعتزلة وخصومهم، والأشاعرة. تأمل في المسائل التالية التي كانت متعارضة تماماً ـ الموقف الأول هو موقف الأشاعرة والثاني هو للمعتزلة:
ليس للإنسان إرادة حرة /  لدى الإنسان إرادة حرة؛
\لا يمكن  للمنطق معرفة المبادئ الأخلاقية /  يمكن للمنطق معرفة المبادئ الأخلاقية؛
\لا توجد حقيقة خارج الإسلام / الحقيقة معيار عالمي شامل يمكن لكل الناس المنطقيين التوافق عليها، بغض النظر عن دينهم ومصدر هذه الحقيقة؛
ليس هناك شيء اسمه الطبيعة أو قوانين الطبيعة (كما يُفهم من الفلسفة الكلاسيكية ومن أرسطو) / هناك قانون طبيعي؛
وُجد القرآن مع الله  في السماء ومعاً منذ الأزل  / تم إنشاء القرآن في الوقت المحدد؛
الله  إرادة وقوة خالصتين / الله عدالة ومنطق.
إن الفرق بين مدرستي الفكر بما يتعلق بمكانة المنطق يمكن تلخيصه في عرضين. من مدرسة المعتزلة (عبد الجبار): من الواجب عليك تنفيذ ما يتفق مع العقل من مدرسة الأشاعرة (الجويني والغزالي): ليس هناك شيء إلزامي بواسطة المنطق .... ليس هناك من التزامات نابعة من المنطق وإنما من الشريعة لقد شرعن المعتزلة التحقيق العقلاني في طبيعة الله والقرآن. أما خصومهم فقد نهوا عن ذلك. إن القول بأن نتائج هذا النزاع لن يصنع فارقاً، أو أن الفرق الذي صنعه انتصار الأشاعرة كان هو الأفضل لما كان قد يحدث لو حصل خلاف ذلك، ما يعني إما أن المرء لا يفهم بأن الأفكار لها عواقب، وإما أنه لا يستوعب الأفكار نفسها. إذ كيف يمكن لبوستوم وضع كتاب ضد الشريعة، وفي الوقت نفسه، يقترب من تفضيل المدرسة الدينية التي اختزلت الاسلام بشيء لا يتعدى الشريعة؟  بعبارة أخرى، ولتقبل إدانة بوستوم للمعتزلة، فإن علينا أن نفترض بأن المستقبل من دونهم أفضل. لكن ليس لدينا تصور لما سيبدو عليه هذا المستقبل.  انه موجود معنا اليوم. مرحبا بكم في المملكة العربية السعودية، العدو المزعوم لبوستوم، ومرحبا بكم في الربيع العربي لجماعة الاخوان المسلمين.
لا أستطيع مقاومة أحد الاقتباسات، على الأقل، وهو من مصدر موثوق به لتوضيح الخطأ في وجهة نظر بوستوم. ففي أحد آخر حواراته، سُئل الملك حسين ملك الأردن الراحل هل توافق على أن الانحدار الإسلامي يعود بتاريخه إلى القرن التاسع عندما أضاع الإسلام فرصة بأن يصبح دين العقل والاعتدال عن طريق سحق حركة المعتزلة؟  ورد الملك حسين قائلاً هذا صحيح في الأساس، ويجب علينا أن نفعل ما في وسعنا لتغيير ذلك الآن
وعلى الرغم من هذه التحفظات ـ التي هي طفيفة، نظراً إلى نطاق العمل ـ فإني أوصي، وبحرارة، بكتاب بوستوم الجدير بالاهتمام. فهناك الكثير مما يمكن تعلمه من هذا الكتاب، وهو يشكل ثنائي رائع ولطيف مع كتاب حمى الربيع لمكارثي.
(*) روبرت ر. رايلي زميل كبير في مجلس السياسة الخارجية الأميركية ومؤلف كتاب إغلاق عقل المسلم: كيف أحدث الانتحار الفكري أزمة الأسلمة الحديثة.
ترجمة: إيمان سويد ـ المصدر: مجموعة الخدمات البحثية

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث