أحمد البرديني
يحيى السلفي ينسلخ من العباءة الأزهرية بفكر لا دينيّ. وكتابات نصر حامد أبو زيد تحرر الأسواني من قيود السياسة والدين. وحميدة يلجأ إلى المجوسية هرباً من الاتهام بالإلحاد.
كانت الأجواء مهيأة تماماً ليسير الطفل الأزهري على نهج أبيه السلفي في تعلم أصول الدين، ويحقق طموح الأسرة باعتلاء المنابر يوماً ما، بعد إتمام دراسته في الأزهر الشريف، إلى أن تغيرت حياة الشاب تماماً بابتعاده عن المسار الديني الذي حدده الوالد.
"كنت أعد منذ الطفولة في بيتنا السلفي لأكون شيخاً من خلال إمامة المصلين في زاويتنا في حي أبو قير، شرق الإسكندرية، فتدرجت في الدراسة الأزهرية من المرحلة الابتدائية إلى الجامعية، حتى ضاق صدري من الدين نفسه"، يقول أحمد يحيى (31 عاماً)، لرصيف22، عن رحلته من الأزهر إلى الفكر اللاديني.
أحمد يحيي
يحيى ككثيرين من الدارسين بالأزهر، الذين اعتنقوا أفكاراً مخالفة لظروف نشأتهم في مناخ ديني، وصل في بعض الأحيان إلى حد التشدد السلفي، لأسباب تنوعت بين صعوبة المناهج الدراسية، محل التشكيك، والبحث عن ضالتهم في أفكار أقرب إلى تفسيراتهم واحتياجاتهم العملية التي تتماشى مع الوقت الحالي.
على مدار 17 عاماً درس يحيى أصول الدين والمواد الفقهية، التي يتلقاها أبناء الأزهر في مراحل دراسية مختلفة. إذ يحفظ الأزهريون من المرحلة الابتدائية حتى الجامعة، القرآن، ويدرسون مواد شرعية ولغوية، تشمل السيرة النبوية والتوحيد "العقيدة"، والحديث النبوي والتفسير والفقه. وهي المواد التي ساهمت بشكل كبير في رسم صورة ذهنية سلبية، ما جعله يتعاطى معها باعتبارها دراسة إلزامية فقط، وإدراكه أنه لن يتبنى أسلوب الحياة الذي اختاره له والداه.
ويضيف: "كانت الصدمة المبكرة بالنسبة إلي، دراسة أجزاء مخصصة عن الطهارة والنكاح بمادة الفقه في وقت مبكر، لدرجة أن أحد معلمينا كان يدرسنا بطريقة الأفلام الإباحية".
ويشير يحيى إلى أن أكثر ما استوقفه في فترة الدراسة، هو مبالغة المناهج في رواية التاريخ الإسلامي في السيرة النبوبة. ويوضح: "وجدت الكثير من المبالغات في شكل الحروب والغزوات التي خاضها المسلمون القدامى. ومعاملتهم لغير المسلمين والمرتدين، بجانب اختلاف الرواة أنفسهم عن الأحداث. بصراحة كنت أستغربها ولا أصدقها".
تشكيك يحيى في رواية المناهج عن الغزوات الإسلامية، صاحبه تشكيك آخر في صاحب الرسالة، النبي محمد. يقول: "كنت أتساءل هل هو نبي أم مجرد انسان ذكي خدمته الظروف في توحيد الناس حوله؟".
ورغم حفاظه على تدينه الشكلي وسط أهله لفترة طويلة، فقد تخرّج من كلية اللغة العربية في الأزهر، محملاً بأفكار مشوشة عن الدين. فعززت شكوكه الحاجة إلى البحث عن أصل نشأة الكون من خلال قراءات كونية وفلسفية وتاريخية، رسمت له صورة ضبابية بين الوجود والعدم.
"دراسات الأزهر دائماً ما تنتج طلاب أسوياء وغير أسوياء، كما تفرز أصحاب الأفكار العلمانية والأخرى المتشددة"، يقول الشيخ محمد عبد الله نصر، مؤسس جبهة أزهريون مع الدولة المدنية. وهو معروف عنه خوضه مناظرات ساخنة مع شيوخ الأزهر، حول تنقيح المناهج وكتب التراث.
يفسر نصر ظهور جيل جديد من أصحاب الأفكار العلمانية، بوجود صدمة من الطلاب الأزهريين تجاه مؤسستهم. إذ يصطدمون بتلقي مواد دراسية متناقضة بين حرية الاعتقاد في الإسلام وأحكام الردة والجزية في بعض الأحاديث النبوية، لافتاً إلى أن المناهج المعتمدة لم تعد تصلح للعصر الحالي.
أقوال جاهزة
شاركغرد3 شباب يروون قصة انتقالهم من الدراسة في الأزهر، إلى التشكيك في الدين
وبرزت في الفترة الأخيرة نقاشات محتدمة بين الشيوخ الأزهريين والباحثين حول المناهج التي تحض على العنف في كتب التراث. وتحديداً في كتاب "الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع"، الذي يبيح أكل لحوم البشر وقتل المرتد وأكله، والجور على الزوجة في كتاب "الروض المربع"، الذي يدرس بالصف الثالث الثانوي الأزهري، ولا يلزم الزوج بدواء وأجرة الطبيب إذا مرضت. ولعل تشكيل شيخ الأزهر "أحمد الطيب" لجنة لتنقيح المناهج دلالة واضحة على وجود خلل في المنظومة الدينية الأعرق في مصر.
ويقول نصر لرصيف22 إن الطالب الأزهري أكثر عرضة للإلحاد أو التشدد الديني من غيره، بسبب اشتباكه المباشر مع الدراسات والآئمة في بيئة رجعية، وهذا لا يسمح له بالجدال أو التفكير خارج سطوة رجال الدين.
البيئة المنغلقة التي يتحدث عنها الشيخ الأزهري، هي نفسها التي دفعت محمد الأسواني، الطالب في سنته الأخيرة في كلية اللغات والترجمة في جامعة الأزهر، إلى البحث عن أفكار تنويرية لكسر جمود القيود الدينية التي أحاطته منذ انخراطه في الدراسة الأزهرية. وهو ما وجده الطالب الشاب في مؤلفات المفكر الراحل نصر حامد أبو زيد في علم اللاهوت ونقد الخطاب الديني، التي كانت بمثابة إرهاصاته الأولى في إنكار الغيبيات.
شكلت كتابات حامد أبو زيد، أحد أبرز مفكري حقبة التسعينيات، وعياً جديداً للأسواني، خصوصاً أن الباحث في الدراسات الإسلامية خاض معارك شرسة مع شيوخ الأزهر بسبب دعواته للتحرر من سلطة النصوص وإعادة فهم الدين حسب السياق التاريخي. واتهمت أبحاثه العملية بالإلحاد، على غرار أسلافه الذين سبحوا عكس التيار المسيطر.
وإذا كانت حالة الأسواني (21 عاماً) تشبه حالة يحيى في النشأة السلفية، فإن الأول تأقلم ولم يتمرد سريعاً على الدراسة الأزهرية، رغم إقراره بصعوبة المناهج، حتى اشتباكه مع الأحداث السياسية. ويوضح: "لم أكن اهتم بالمناهج حتى مرحلة الثانوية، لكنني انشغلت بالسياسة عام 2009، وبالحراك الحاصل حينذاك. وكنت بدأت أقرأ في الجرائد المستقلة، وكان هناك بعض الكتاب الذين لهم توجه مختلف يمكن تسميتهم بالتنويريين، بدأت أتناقش مع أهلي في كتاباتهم، وكانوا طبعاً ينتقدونهم ويقولون إنهم علمانيون ولا يفقهون شيئاً في الدين".
تغيرت حياة الأسواني بشكل كبير بالتزامن مع ثورة 25 يناير، إذ انغمس في قراءة أطروحات نصر حامد حول تاريخية النصوص، مع اشتراكه في تنظيم الاشتراكيين الثوريين. يقول: "وجهة نظري في كل شيء بدأت تتغير تدريجياً، أصبحت أشكك أكثر في الروايات الإسلامية الرسمية، وأقرأ الأطروحات التي تنتقدها، حتى بدأت تتبلور لدي فكرة أنه ليس هناك دين ولا أيديولوجيا، ومع الوقت فقدت حتى الإيمان بالجانب الميتافيزيقي".
"لم أعد أقتنع بالغيبيات أو بتشريع منفصل عن الزمان والمكان، وترسخت لدي قناعة أن الدين منتج بشري"، يقول الأسواني ذلك، بينما يخشى المجاهرة بإلحاده في دوائره الاجتماعية، تجنباً للصدام مع أهله أو فقدان أصدقائه ومحبيه، ولافتاً إلى أنه يدخر طاقته للحديث مع من يفهمون توجهه فقط.
لقد بات إشهار الإلحاد في مصر، أو التعبير بشكل جريء عن الأفكار تجاه الدين على الملأ، مسألة تخضع لحسابات الشخص نفسه ومدى قدرته على الصمود أمام طوفان الاتهامات والانقسامات، خصوصاً إذا كان هذا الشخص منتمياً لتيار ديني محافظ، سواء أزهري أو سلفي. هذا ما لم يكترث به أحمد حميدة (31 عاماً)، حين كشف ميوله الإلحادية لأسرته وأصدقائه، بعد مرور 6 سنوات على تخرجه في كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر.
أحمد حميدة
يعمل حميدة اليوم موظفاً في محكمة الإسكندرية الابتدائية، وقد قضى حياته داخل الأزهر، الذي أقنعه به الأهل، كطالب عادي لا يناقش ما يتلقاه. يقول: "في الدراسة كنت طالباً عادياً لا يقل غباءً عن أي طالب آخر، وكان محرم علينا أن نفكر بحجة أن الأوائل فكروا نيابة عنا". إلا أنه سجل ملاحظاته على الاختلافات بين المذاهب الثلاثة، وطريقة تدريس بعض المعلمين طرق النكاح في مادة الفقه.
درس كتاب تاريخ الخلفاء للإمام السيوطي وتاريخ الطبري وسيرة ابن هشام، وكلها سردت ملامح الحياة القديمة في عهد الخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين. ولدت لديه هذه القراءات وجهة نظر سلبية بسبب المغالطات المنطقية وصبغ الدين بالسياسية في الحروب الإسلامية، على حد قوله.
ظل حميدة محافظاً على ثباته الديني إلى ما بعد التخرج بـ6 سنوات، إذ عاد للبحث عن أصل تكوين الكون بين العلماء والقرآن. استغرق الأمر سنة كاملة من البحث وتخمير الأفكار حتى أعلن "الخروج الأعظم"، ليجد نفسه في وجه العاصفة. يقول حميدة: "أهلي كانوا يريدون قتلي وحرّموني على زوجتي، وألزموني بتطليقها، وأصحابي في العمل تعمدوا مقاطعتي".
حاول حميدة التغلب على الصعوبات التي واجهته عبر التحايل على الأهل وإقناعهم بأنه عاد مسلماً من دون إيمانه بالقصص القرآنية، في حين اقتصرت علاقته مع زوجته على تربية طفليهما.
لم تقتصر حيل حميدة على المنزل فقط، إذ اختار المجوسية ديناً له على صفحته الشخصية في موقع فيسبوك، للتعاطي مع نظرية الدينيين، موحياً أنه لا يستطيع العيش من دون دين. يعلق ساخراً: "المجتمع يعتبر الملحد شاذاً فكرياً وليس تحت سلطة إلهية بخلاف المجوسي، فهو يؤمن بالخالق، وهذا يعني ضمنياً أنه من المعترفين بالخالق".
رصيف 22