عبد الرحمن عباس:
كلما سمعت رجل دين يقول إنه سيحسم الجدل حول قضية ما، تحسّست عقلي.
الجدل صحّي، لماذا يصرّون على إنهائه؟ حين قرأت أن الدكتور شوقي علام، مفتي الديار المصرية، ورئيس الأمانة العامة لدور وهيئات الفتوى حول العالم، حسم الجدل حول "حدّ الردّة" في الإسلام، بتأكيده أنه لا يوجد أي عقوبة دنيوية لمن يترك دينه، لم أتحسس عقلي فقط، بل هرولت لأعرف تفاصيل ما قاله بالكامل.
لأنه لو صحّ هذا، فإننا أمام قرار واضح يخرج لأول مرة من مؤسسة دينية لها ثقلها الإسلامي، وأمام اعتذار واضح عن فتاوى سابقة أقرّت هذا الحد أو لم تنفه في أحسن الأحوال.
فرغم ما يُشاع من أن الأزهر لا يعترف بـ "حدّ الردّة" وينفيه تماماً، وهو ما يتصدر عناوين الصحف في أحيان كثيرة، لكن قراءة بسيطة بعيداً عن العناوين تشير أن ذلك لم يحدث، ففي عام 2016 قال أحمد الطيب، شيخ الأزهر، إن "حدّ الردّة" مشروط بأن يكون المرتد خطراً على المجتمع، وفي هذه الحالة يُستتاب ثم يقتل، أي إنه لم ينفه.
ما قاله شوقي علام، مفتي الديار المصرية، لم يخرج عن تلك الرؤية، فرغم قول الرجل إن النبي لم يقتل مرتداً في حياته، وأن عقوبة من يترك الدين الإسلامي أخروية، لكنه يعود وفي نفس التصريح ليعلن أن قتل "المرتد" مشروط بمفارقة الجماعة، وبأن يكون التارك للدين يمثل خطراً عليه.
برأيي، ما سبق ليس ازدواجية كما يعتقد البعض، بل هي طريقة رجال الدين في التحايل علينا بإقناعنا أنهم يعتذرون عن الفتاوى التكفيرية أو يقدمون فكراً جديداً، ولكن في الحقيقة كل ما يفعلونه هو "إعادة تدوير" لتلك الفتاوى، لتظل حاضرة ولكن في ثوب جديد.
هذا التحايل يبدأ بتأطير الفتوى بدلاً من نفيها، وأقصد بذلك أن ما يتم هو وضع شروط وضوابط لتطبيق "الفتوى" فقط، وتقديم ذلك على أنه اعتذار عن الماضي وخطوة في طريق التجديد الديني.
هذا بالضبط ما فعله مفتي الديار المصرية، وقبله شيخ الأزهر، فهم لم ينفوا "حدّ الردّة" المتناقض مع القرآن، ولكنهم "قنّنوه" تحت دعاوى الضوابط والشروط، تماماً كما حدث في تسعينيات القرن الماضي، حين ظهرت "دعاوى الحسبة" التي منحت لأي مواطن حق رفع دعاوى قضائية تتهم المثقفين بالكفر، وكما يوضح جابر عصفور في كتابه "ضد التعصب"، حين أرادت الدولة وضع حدّ للأمر، جعلت النيابة العامة مسؤولة عن تقييم تلك الدعاوى قبل الفصل فيها، لتعطي للأمر مشروعيته بدلاً من القضاء عليه.
الأزمة في تلك الطريقة أنها لا تقترب من جوهر الفتوى، وهذا هو الأساس. إننا لا نرفض "حدّ الردّة" فقط، بل الأهم أننا نرفض معناه: أن يحكم أحد على إيمان أحد، أو أن يتعرض إنسان للقتل تحت أي ظرف، لمجرد اختيار ديني، خاصة وأن القرآن يوضح أن الحساب عند الله، وليس لأحد أن يُعاقب أحداً، وفي ظل هذا الالتفاف يبقى الجوهر ثابت: يمكن قتلك بسبب حريتك الدينية.
ثاني طرق التحايل التي يتبعها رجال الدين هو إضافة كلمات فضفاضة في الضوابط والشروط التي يضعونها في تطبيق مثل تلك الفتاوى، ففي حدّ الردّة، وكما أوضح مفتي مصر وشيخ الأزهر، يتم قتل من يفارق الجماعة أو يمثل خطراً على الدين، وإذا كان "المرتد" هو من يترك الإسلام فمن البديهي أن يفارق جماعة المسلمين.
أما مفهوم الخطر فهو أكثر اتساعاً، فكيف يمكن أن يسبب إنسان خطراً على أي دين؟ هل المقصود إنه يعلن تركه لهذا الدين، أو دعوته لدين آخر أو حتى الكفر بكافة الأديان؟ وأين هنا الحد الفاصل بين "حرية الرأي والاعتقاد" وبين مفهوم الخطر، ومن يقرر هذا الحد؟
ثم إذا كان المتبعون لكل دين، وهم بمئات الملايين، يرون الدين الآخر "ضلالاً" فماذا يضير "حراس الدين" أن يزيد هؤلاء فرداً "مرتداً"، ناهيك عن عبثية استثناء المرأة من القتل في حالة "الردّة"، لأنها لن تمثل خطراً، كما في المذهب الحنفي.
وأمام تلك التساؤلات، لن تخرج سوى بأن تلك الضوابط لم تضف شيئاً، وأن حياة كل من فارق الدين على المحك.
الأحاديث المنسوبة للنبي وتحضّ على القتل، تمثل ثالث طرق التحايل، لأن تلك الأحاديث يتم التمسك بها في عملية تأطير الفتاوى، فدار الإفتاء وهي تقنن "حد الردة" استشهدت بحديث منسوب للنبي، يحلّ دم المسلم التارك لدينه المفارق للجماعة.
وهذا التمسك بالأحاديث إقرار بصحتها، تماماً كما تفعل الجماعات الإرهابية التي بنت أيديولوجيتها التكفيرية على مثل تلك الأحاديث المنسوبة.
طرق التحايل تلك ليست خاصة بـ "حدّ الردّة"، بل هذا ما يحدث مع كثير من الفتاوى التي يخرج علينا رجال الدين ويعلنون إنهم يعتذرون عنها، لكنهم في الحقيقة يعيدون تدويرها، فمنذ أيام، خرج الداعية مصطفى حسني، ليعتذر عما قاله منذ سنوات فيما يخص "الحجاب الشرعي" ومواصفاته، لكنه في نفس الوقت أكد أن الحجاب "فريضة"، لكن يجب تطبيقها بكثير من الرحمة.
ولأن هذا التحايل مستمر، ويبدو أن رجال الدين والمؤسسات التي يعملون فيها لن يتخلوا عنه، فهم إما مقتنعين به أو يتربحون من خلاله، فإن أي حديث عن فقه ديني جديد أو اعتذار ليس أكثر من "أكذوبة" علينا ألا ننخدع بها أو نصدقها، أو على الأقل أن نقرأ ما يقولونه كاملاً.