محمد يسري:
في العام الثامن من الهجرة، أسلم خالد بن الوليد، بعد طول عداء للمسلمين، ولم تمرّ شهور قلائل حتى تمكن من إثبات نفسه كواحد من أهم القادة العسكريين الذين لعبوا أدواراً مهمة في تثبيت سلطة دولة الخلافة في شبه الجزيرة العربية، وكذلك في مدّ التوسعات الحربية على الجبهتين العراقية والشامية.
ولكن في الوقت الذي يظهر فيه ابن الوليد بشكل إيجابي، في المِخيال السنّي، بوصفه قائداً عسكرياً متميزاً، لا يُشق له غبار، فإنه، وعلى النقيض من ذلك، يظهر في المِخيال الشيعي بوصفه شخصية مكروهة، وذلك لموقفه المعادي لعلي بن أبي طالب.
سيرة ابن الوليد
ذكرت المصادر التاريخية الإسلامية الكثير من المعلومات عن شخصية خالد بن الوليد، وعن الأدوار التي لعبها على الساحتين السياسية والعسكرية.
وُلد ابن الوليد على الأرجح قبل الهجرة بثلاثين سنة، وكان أبوه الوليد بن المغيرة زعيماً لعشيرة بني مخزوم القوية في قبيلة قريش. في شبابه، اشتهر خالد ببراعته في فنون القتال، ما ضمن له موقعاً قيادياً في صفوف جيش قريش. وظهر ذلك في غزوة أحد، في العام الثالث من الهجرة، عندما تولى قيادة فرسان قريش ولعب دوراً مهماً في الانتصار على المسلمين. كذلك، شارك مع قريش ضد المسلمين في كل من غزوة الخندق/ الأحزاب، في العام الخامس من الهجرة، وفي الحديبية في العام السادس من الهجرة.
تختلف الآراء في توقيت دخول ابن الوليد في الإسلام، ولكن الأشهر أنه أسلم في شهر صفر من العام الثامن للهجرة، وأبرز القصص التي تحدثت عن إسلامه هي الرواية التي نُقلت عنه وذكرها ابن سعد (ت. 230هـ) في كتابه "الطبقات الكبير"، والتي تتحدث عن إسلامه مع كل من عَمْرو بن العاص وعثمان بن طلحة.
في كتابه "الإصابة في تمييز الصحابة"، تحدث ابن حجر العسقلاني (ت. 852هـ) عن أولى المهمات العسكرية التي شارك فيها خالد تحت راية الإسلام، وهي غزوة مؤتة التي وقعت في جمادي الأول في السنة الثامنة للهجرة، أي بعد أقل من ثلاثة أشهر من إسلامه. في تلك المعركة، تولى خالد قيادة الجيش بعد أن سقط القادة الثلاثة الذين عيّنهم الرسول، لينظم الصفوف، وينسحب بعدها بالمسلمين إلى المدينة المنورة.
اسم خالد سيظهر مرة أخرى بعد شهور معدودة، وذلك في فتح مكة، في رمضان من العام الثامن للهجرة، عندما تولى قيادة أحد أجنحة الجيش.
بعد وفاة الرسول، بدأ خالد مرحلة جديدة من مسيرته العسكرية، وذلك بعدما عيّنه الخليفة الأول، أبو بكر الصديق، قائداً على أحد الجيوش التي توجهت لقتال مَن وُصفوا وقتها بـ"المرتدّين"، ليحقق مجموعة من الانتصارات المتوالية على كل من بني أسد، وبني تميم، ومدّعي النبوة طليحة بن خويلد، قبل أن يتوج جهوده بالانتصار على قوات مسيلمة الكذاب في موقعة اليمامة.
وكان ابن الوليد من أهم القادة المسلمين الذين لعبوا أدواراً مهمة على مسرح التوسعات العسكرية الإسلامية المبكرة. يذكر المؤرخون أخبار انتصاراته المبهرة على الجبهة العراقية في معارك ذات السلاسل، والولجة، وعين التمر، كما يذكرون أخبار مشاركته الفعالة على الجبهة الشامية، في كل من أجنادين، واليرموك، هذا فضلاً عن دوره المهم في الاستيلاء على أهم مدن سوريا، كحمص ودمشق على سبيل المثال.
بعد وفاة أبي بكر، في العام الثالث عشر من الهجرة، أُسدل الستار على المسيرة القيادية لخالد، وذلك بعدما أرسل الخليفة الثاني، عمر بن الخطاب بكتاب عزله من قيادة الجيش، ليحل محله أبو عبيدة بن الجراح.
وبعد ما يقرب من السبع سنوات من ذلك، وبالتحديد في السنة الحادية والعشرين من الهجرة، توفى ابن الوليد في مدينة حمص السورية.
في المِخيال السنّي... سيف الله المسلول
تحظى شخصية خالد بن الوليد بأهمية بالغة في المِخيال السنّي، الأمر الذي يمكن تفسيره بالدور المؤثر الذي لعبه في فترة الحروب التوسعية، والتي حوّلت الدولة الإسلامية الصغيرة المتقوقعة داخل حدود شبه الجزيرة العربية إلى إمبراطورية كبرى، تفرض سلطانها على مساحات واسعة في كل من بلاد فارس والعراق والشام ومصر.
في هذا السياق، يمكن فهم تركيز المصادر السنّية على الموهبة العسكرية الفذّة التي تمتع بها الفارس المخزومي، تلك التي منحته النصر على أعدائه في ميادين الحروب وساحات المعارك، حتى نجد أن اسمه ارتبط في الذاكرة السنّية بنوع من أنواع النوستالجيا التي تمتزج فيها مفردات الماضوية والشعور بالهيمنة والسيادة.
بشكل عام، يمكن القول إن المبالغة في تعظيم شخصية ابن الوليد بدأت منذ لحظة مشاركته في موقعة مؤتة في العام الثامن من الهجرة، وكانت أولى معاركه بعد إسلامه. تجمع المصادر السنّية، ومنها "البداية والنهاية" لابن كثير الدمشقي (ت. 774هـ)، على أن تعداد جيش المسلمين في تلك المعركة كان لا يزيد عن الثلاثة آلاف، في حين اقتربت جيوش الروم وحلفائهم الغساسنة من المئتي ألف مقاتل، الأمر الذي يعكس الفارق الكبير في ميزان القوى العسكرية بين الجانبين.
روى ابن كثير كيف سقط سريعاً القادة الثلاثة الذين عيّنهم النبي، وهم زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة، وكيف وصلت الراية إلى يد خالد بن الوليد، فتغيّرت مجريات المعركة عندها، وتمكن فارس بني مخزوم من إنقاذ المسلمين من جحافل الروم التي كادت أن تقضي عليهم.
في الوقت الذي تسكت فيه المصادر البيزنطية عن إيراد تفاصيل تلك المعركة، سنجد أن المصادر السنّية بالغت في التأكيد على الشجاعة النادرة التي أبداها خالد يوم مؤتة، إلى درجة أنها قالت إن تسعة سيوف انكسرت في يديه أثناء القتال، بحسب ما ورد في صحيح البخاري (ت. 256هـ). كما أسهبت تلك المصادر في وصف عبقرية الخطط العسكرية التي وضعها خالد للانسحاب بالجيش بشكل آمن، إلى درجة أنه لم يصب أي مقاتل من المسلمين حتى رجع الجيش كله إلى المدينة المنورة بحسب ما يروي ابن كثير.
كل ذلك منح خالد لقبه الأشهر في الذاكرة السنّية، وهو "سيف الله المسلول"، والذي قيل إن النبي أطلقه عليه بعد عودته من مؤتة، بحسب ما ورد في مسند أحمد بن حنبل (ت. 241هـ).
الاحتفاء المبالغ فيه بما قام به خالد يوم مؤتة لم يقتصر على كتابات المؤرخين القدامى فحسب، بل يستمر أيضاً في صفوف المعاصرين. على سبيل المثال، وصف رجل الدين السوري المعاصر علي الطنطاوي ما قام به بـ"الأعجوبة"، وقارن بينه وبين معجزات الأنبياء موسى وعيسى. يقول في كتابه "رجال من التاريخ": "استطاع (خالد) أن يخرج من لجة البحر من غير أن يبتل، وأن ينسحب من وسط اللهب من غير أن يحترق، وأن يُسجل هذه المنقبة في تاريخ الحروب".
الاحتفاء السنّي بخالد وجد طريقه أيضاً إلى الكتابات المختصة بأخبار المعجزات والكرامات والخوارق. فعلى سبيل المثال/ تحدث هبة الله اللالكائي (ت. 418هـ)، في كتابه "شرح أصول أهل السنّة والجماعة"، عن أن خالداً عندما قابل بعض جنوده الذين يحملون الخمر في معسكره ذات يوم، دعا الله فتحول الخمر وهو بين أيديهم إلى عسل أو خل.
وفي روايات أخرى، يظهر خالد كإنسان خارق لا تؤثر فيه نكاية الأعداء، كما حين شرب السمّ ولم يؤثر فيه.
في السياق نفسه، عملت الذاكرة السنّية على تفسير انتصارات خالد في حروبه بشكل خارق أو غيبي، ومن ذلك ما ذكره شمس الدين الذهبي (ت. 728هـ) في كتابه "سيّر أعلام النبلاء" من "أن خالداً قد خرج مع رسول الله في حجة الوداع، فلما حلق رأسه، أعطاه ناصيته، فعملت في مقدمة قلنسوة خالد، فكان لا يلقى عدواً إلا هزمه".
على جانب آخر، وحتى لا يتم التشويش على الصورة المثالية المُتخيلة لخالد، اختارت الذاكرة السنّية أن تهمش الأخطاء التي وقع فيها الفارس المخزومي أثناء حروبه، والتي كان من أبرزها قتله لعدد من المسلمين الأبرياء من بني جذيمة في العام الثامن للهجرة، وقتله لمالك بن نويرة اليربوعي وزواجه بأرملته في العام الحادي عشر من الهجرة.
في ما يخص حادثة بني جذيمة، سنجد أن الذهبي يلتمس لخالد الأعذار، ويحمل فعله على كونه نوعاً من الاجتهاد الذي قد يصيب أو يخطئ، فيقول معلقاً على تلك الحادثة: "ولخالد اجتهاده، ولذلك ما طالبه النبي -صلى الله عليه وسلم- بديّاتهم".
وحاولت بعض المصادر الحديثية أن تُظهر الأمر على أنه خطأ وقع فيه المقتولون من بني جذيمة أنفسهم، عندما لم يعبّروا عن إسلامهم بالشكل الصحيح، إذ ورد أنهم لما وجدوا خالداً ورجاله وقد أغاروا عليهم، "لم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا"، بحسب ما ورد في صحيح البخاري على سبيل المثال.
مبررات مشابهة تظهر في حادثة مقتل مالك بن نويرة، فالكثير من المصادر السنّية، ومنها على سبيل المثال "وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان" لابن خلكان (ت. 681هـ)، تذكر أن عمر بن الخطاب لما طالب معاقبة خالد على ما اقترفته يديه من جرم، التمس الخليفة أبو بكر الصديق له الأعذار، وقال: "ما كنت لأرجمه فإنّه تأوّل فأخطأ".
في المِخيال الشيعي... خاض في دماء المسلمين
على النقيض التام من النظرة السنّية، تُعَدّ شخصية خالد بن الوليد من الشخصيات المكروهة على نطاق واسع في المِخيال الشيعي الإمامي، الأمر الذي يمكن رده إلى سببين رئيسين، أولهما هو ما أُشيع عن معاداته لعلي بن أبي طالب ورفضه لتوليه منصب الخلافة، وثانيهما النظرة الشيعية السلبية للتوسعات العسكرية التي وقعت في عهود الخلفاء الثلاثة الأوائل.
مصادر شيعية مهمة كثيرة أقحمت اسم خالد في بعض المواقف المؤثرة، والتي تعرض فيها رموز التشيع المبكر، علي وفاطمة والحسن والحسين، لما يعتبره الشيعة ظلماً وعدواناً من جانب الحزب القرشي المؤيد لخلافة أبي بكر.
من ذلك ما ورد في كتاب سليم بن قيس الهلالي (ت. 75هـ) من أن خالداً كان من بين الرجال الذين اقتحموا دار فاطمة الزهراء وأرادوا أن يحرقوه بمَن فيه، وكان أيضاً ممّن قاموا بضرب فاطمة وهي حامل، ما تسبب في إجهاض حملها وإسقاط جنينها.
من تلك المواقف أيضاً ما ورد في تفسير علي بن إبراهيم القمي (ت. 329هـ) من أن علياً لمّا تخلّف عن بيعة الخليفة الأول، أشار عمر على أبي بكر بقتل علي، ورشّح خالد لأداء هذه المهمة، واتفق الثلاثة على اغتيال علي بعد أن يسلم أبو بكر من صلاة الفجر، فجاء خالد إلى الصلاة يومها واضعاً سيفه في جنبه، ولكنّ أبا بكر غيّر رأيه في الثانية الأخيرة، وأمر خالد بألا يكمل بالاتفاق.
الملاحظة المهمة هنا أن العداء القائم بين خالد وعلي كانت له مجموعة من الشواهد التي ترجع إلى حياة النبي. فعلى سبيل المثال، يحكي جعفر مرتضى العاملي، في كتابه "الصحيح من سيرة النبي الأعظم"، أن الرسول في سنواته الأخيرة بعث بخالد في سرية إلى اليمن، ولمّا حاول أن يدعو أهل اليمن إلى الإسلام رفضوا، ثم بعث الرسول بعلي لنفس المهمة فنجح في استمالة قلوب الكثيرين من اليمنيين للإسلام، ما أثار حسد خالد وغيظه، فلمّا وجد بعدها أن علياً أخذ جارية من خمس الغنائم لنفسه، حاول أن يستغل الفرصة، وبعث بأحد رجاله برسالة إلى النبي، ليخبره بما وقع من ابن عمه، ولكن الرسول خيّب ظن خالد، وقال يومها إن علي يستحق من الخمس أكثر مما أخذ.
هذا العداء يظهر أيضاً في علاقة خالد بأنصار علي، وفي مقدمتهم عمار بن ياسر. يروي الحاكم النيسابوري (ت. 405هـ)، في كتابه "المستدرك على الصحيحين" أن عمار تخاصم مع خالد ذات يوم، فلما ذهبا للرسول أيد عماراً، وقال: "مَن عادى عمّاراً عاداه الله، ومَن أبغض عمّاراً أبغضه الله".
بناءً على كل ما سبق، ترفض المصادر الشيعية تسمية خالد بلقب سيف الله المسلول، وتدّعي أن عليّاً بن أبي طالب هو صاحب هذا اللقب، وذلك اعتماداً على الكثير من الآثار والأحاديث الواردة في المتون الشيعية.
من جهة أخرى، عملت المصادر الشيعية على تسليط الضوء على السقطات التي وقع فيها خالد في مسيرته العسكرية، ولا سيما في ما يخص حادثتي بني جذيمة ومقتل مالك بن نويرة. ففيما يخص الحادثة الأولى، أكد الشيعة أن الرسول رفض ما اقترفه خالد، وقال لما عرف بما وقع "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد" مرتين. أما في ما يخص الحادثة الثانية، فقد عمل الشيعة على ربطها بمسألة إمامة علي بن أبي طالب، فأكدوا أن مالك بن نويرة كان من شيعة علي بن أبي طالب، وأنه لم يُقتل إلا دفاعاً عن حق علي في الإمامة، بعدما رفض تسليم صدقات قومه لأبي بكر، لأنه لا يجوز دفع الزكاة إلا للإمام الشرعي المُعيّن من قِبل الله عز وجل، بحسب ما يذكر الوحيد البهبهاني (ت. 1206هـ)، في كتابه "تعليقة على منهج المقال".