أحمد نظيف:
لا يكاد موضوع ممارسة "الذبح الشعائري" للحيوانات يختفي من دائرة الجدل داخل فرنسا حتى يعود مرّة أخرى، حاله حال الحجاب وحزمة أخرى من قضايا الجاليات المسلمة والمهاجرين على نحو عام.
في 18 آذار/ مارس الحالي، أعلنت المساجد الثلاثة الكبرى في فرنسا (باريس وليون وإيفري) عن خشيتها من احتمال فرض حظر على ذبح الدواجن الحلال، وقالت في بيان مشترك: "التعليمات الفنية التي أصدرتها وزارة الزراعة والأغذية الفرنسية في 23 تشرين الثاني/ نوفمبر 2020، والمتعلقة بالضوابط الرسمية في المسالخ الهادفة إلى حماية الحيوان خلال ذبحها، ستفرض من هنا فصاعداً شروط ذبح جديدة قد لا تجعل من الممكن تلبية المبادئ العقائدية الأساسية للذبح الحلال".
لكن وزارة الزراعة الفرنسية ردتّ بأنها لن تمنع "الذبح الحلال" بأي حال، وبأنها ما زالت مقيَّدة بقانون الصيد الريفي والبحري الفرنسي الذي يمنح الطوائف الدينية الحق في ممارسة الذبح وفقاً لشعائرها الخاصة، كما يفرض على الجزارين الذين يرغبون في تنفيذ هذه الاستثناءات ترخيصاً من إحدى المؤسسات الدينية المخولة.
ومع أن الجدل توقف بعد التوضيح الرسمي الفرنسي، إلا أن الرد القوي للمساجد الثلاثة الكبرى في فرنسا، والتي تملك امتيازاً حكومياً بمنح تراخيص الذبح الحلال للحيوانات، بدا لافتاً وفي خلفيته اهتمام كبير بقطاع "الحلال" يتجاوز "الحرص على الهوية الدينية".
خلفية تاريخية
ينص القانون الفرنسي "لحماية الحيوانات الأليفة وشروط الذبح"، منذ عام 1964، على وجوب صعق الحيوانات قبل الذبح لتجنب شعورها بالألم قدر الإمكان. لكن هذا القانون ينص على استثناءات في إطار الممارسة الحرّة للعبادة، فهو يأذن لأتباع بعض الديانات بذبح الحيوانات وهي بوعي كامل دون صعقها، بحال كان ذلك شرطاً لاعتبار اللحم حلالاً، على الطريقة الإسلامية، أو كوشيراً، وفقاً للعقيدة اليهودية، في ما أصبح يسمى بـ"الذبح الشعائري".
وينقسم الذبح الشعائري إلى نوعين: الأول هو الذبح "الحلال" على الطريقة الإسلامية ويُشترط فيه أن يكون الحيوان واعياً تماماً لحظة الذبح، موجَّه الرأس نحو القبلة (مكة) وأن تتم طريقة الذبح على نحو معيّن بحيث يقع قطع القصبة الهوائية والمريء والعرقين الوداجيين الداخليين والخارجيين دون لمس العمود الفقري، كما يجب أن تكون الإيماءة مباشرة وتُنفّذ دفعة واحدة باستخدام سكين حاد للغاية، ما يحدّ من معاناة الحيوان؛ أما النوع الثاني فهو الذبحّ "الشحيطة"، وفقاً للعقيدة اليهودية، وهو قريب جداً من الطريقة الإسلامية، إذ يجب ألا يُصعق الحيوان وأن ينزف من خلال تعليقه بالمقلوب حتى يكون النزف كاملاً، مع فارق أن اليهود يحظرون استهلاك أجزاء معيّنة من الذبيحة.
وعلى هذا الأساس الديني، منحت السلطات الفرنسية امتيازات محدودة للتمثيليات الدينية كي تصدر تراخيص لبعض المسالخ للقيام بالذبحّ الشعائري.
واليوم، يوجد في فرنسا حوالي 218 مؤسسة لتنفيذ طقوس الذبح الشعائري. وتطال هذه الممارسة 15% من الأبقار و27% من الأغنام، بحسب أرقام قدّمها وزير الزراعة، ستيفان لو فول، خلال جلسة استماع أمام لجنة التحقيق البرلمانية حول المسالخ.
وتُظهر هذه الأرقام أن فرنسا هي الدولة الأوروبية الأكثر تطبيقاً لهذا النوع من الذبحّ، متقدمة على هولندا والمجر، من بين دول الاتحاد الأوروبي الـ13 التي تسمح بالإعفاء من الصعق.
وفي لوائحها الخاصة بالذبح الشعائري، تضع وزارة الزراعة والأغذية الفرنسية قائمة من الشروط للتمتع بامتياز الإعفاء من الصعق قبل الذبح، بينها: ''يجب أن يتم الذبح الشعائري في المسالخ المعتمدة التي تستفيد من تصريح بالإعفاء من التزام الصعق، ويجب أن يكون القائمون على الذبح حاصلين على شهادة أهلية لحماية الحيوان (CCPA)ومرخّصين من قبل المنظمات الدينية التي يوافق عليها وزير الزراعة، بناءً على اقتراح من وزير الداخلية".
ويتمتع كل من المسجد الكبير في باريس (منذ 15 كانون الأول/ ديسمبر 1994)، ومسجد ليون ومسجد إيفري (منذ 27 حزيران/ يونيو 1996) بامتياز وزاري لمنح تراخيص الذبح الحلال.
وتشرف الحاخامية الكبرى لفرنسا على منح التراخيص للمسالخ التي تذبح حسب الشريعة اليهودية.
لكن هذه الاستثناءات "الدينية" التي ينص عليها قانون "شروط الذبح" لطالما تعرّضت للنقد، خاصة منذ نهاية ثمانينيات القرن الماضي، وقد تزامن ذلك مع تصاعد الجدل حول الإسلام في فرنسا، وكذلك نمو حركة الدفاع عن حقوق الحيوانات.
اقتصاديات الحلال
على هامش هذا الجدل، تبرز أسئلة كثيرة حول اقتصاديات الحلال في فرنسا، والتي تنامت بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة، ويشكل "اللحم" جزءاً أساسياً منها.
في الأسواق الفرنسية والأوروبية، تُطرح اللحوم المذبوحة على الطريقة الإسلامية بأسعار أعلى من بقية الأنواع، ما يرفع هامش الأرباح لدى المستثمرين في هذا القطاع. ويمكن أن يؤدي أي قرار بمنع أو تقييد الذبح الحلال إلى تداعيات اقتصادية سلبية على هذا السوق الموازي الناشئ.
ولئن كان سوق اللحوم "الكوشير" صغيراً جداً ومستقراً على نطاق واسع، إذ لا تتجاوز مبيعاته حوالي 100 ألف رأس من الماشية سنوياً، أو حوالي 1% من المذابح الشعائرية، فإن "سوق الحلال الإسلامي" يشهد توسعاً كبيراً.
وتقدّر شركة "سوليس للأبحاث" حجم هذا السوق بحوالي 5.5 مليارات يورو. وتشير تقديرات وكالة "زيرفي" إلى أنه سينمو مستقبلاً بنسبة 9%.
وتبلغ نسبة واردات فرنسا من اللحوم الحلال نحو 21%، فيما تؤمّن المسالخ المرخص لها محلياً الجزء الأكبر من حاجة سوق اللحوم من المنتجات الحلال. كما أن جزءاً من الإنتاج (بقر ودواجن) معدّ للتصدير إلى الشرق الأوسط، وفقاً لتقرير صادر عن مجلس الشيوخ الفرنسي.
وأدى تنامي سوق الحلال في فرنسا إلى تحولات اجتماعية رافقت التغيّرات التي طرأت على علاقات الإنتاج. في غضون سنوات قليلة، أصبح الحلال معياراً انتمائياً يدل على هوية محددة داخل المجتمع ويحدد بدقة المسلم من غير المسلم، في تعارض تام مع النهج الذي تريد الدولة الفرنسية تكريسه منذ إقرار قانون العلمانية عام 1905، إذ تسعى إلى ردم جميع الفوارق الظاهرة في قالب المواطنة.
ويتجاوز سوق الحلال اليوم اللحوم ويؤثر على منتجات كثيرة باتت تحمل "ختم الحلال"، بالرغم من عدم وجود أي موانع دينية حول استهلاكها، فهذا الختم تجاوز مسألة القواعد الشرعية فى ذبح الحيوانات نحو التوافق مع نهج عالمي لإعادة أسلمة المجتمع تقوده جماعات الإسلام السياسي.
وتستفيد هذه الجماعات من جزء كبير من هذا السوق المربح للغاية، والذي أخذ في التوسع والتعولم خلال السنوات الأخيرة اعتماداً على رافعة دينية مؤثرة، إذ يبلغ حجمه عالمياً حوالي 2000 مليار دولار سنوياً، منها 6 مليارات يورو في فرنسا.
وفهم رواد الأعمال الذين استثمروا في هذا السوق باكراً القوة المعيارية والمالية المزدوجة للحلال، أي ذلك الدافع الديني القوي الذي يجعل المسلم يفضّل "الحلال" عن غيره من المنتجات، الأمر الذي دفع كبرى شركات التجزئة في فرنسا إلى تخصيص أقسام خاصة بالمنتجات الحلال في المتاجر ومراكز التسوق الكبرى.
إسلام السوق
تطرح ظاهرة "سوق الحلال" في فرنسا وفي عموم أوروبا العديد من الأسئلة، باعتبار أن من شأنها أن تقدّم ممارسات جديدة وفقاً لتكوين جديد يتشابك فيه الدين والسوق. لكنها أيضاً تكشف عن تحولات اجتماعية عميقة شهدتها الجاليات المسلمة.
حتى التسعينيات من القرن الماضي، كانت النخب الحداثية في الجامع الكبير في باريس، والمعروف عنها أنها لم ترفض كأساً من النبيذ في العشاء الرسمي أو تناول الطعام في مطاعم مدينة النور، تعتبر مسألة استهلاك الحلال أمراً ثانوياً. ومع ذلك، وخلال وقت قصير، اضطرت هذه النخب نفسها، بعد تعرّضها لضغوط من القاعدة الاجتماعية المسلمة، إلى الامتثال للمتطلبات الجديدة لاستهلاك الحلال، كما تكشف فلورنس بيرغو بلاكلر، في دراسة لها حول قطاع الحلال.
منذ ذلك الحين، تجاوز سوق الحلال طبيعته الدينية وتحول إلى مسألة مصالح مالية على نطاق عالمي، ويمتد مجال الحلال الآن إلى ما يتجاوز الطعام، مثل المنتجات والخدمات المتنوعة كالمكياج والخدمات السياحية والأزياء والعطور والتأمين والمنتجات المالية وحتى الموسيقى.
ساهم عاملان في تطوّر استهلاك "الحلال" بشكل منتظم وليس عرضياً. أولاً، ساهمت أسلمة سلسلة مسالخ اللحوم المعدة للتصدير إلى الدول الإسلامية في إعادة توجيه جزء من الإنتاج نحو السوق المحلي الموجه لأبناء الأقلية المسلمة. ومن هنا تكاثرت منافذ بيع اللحوم الحلال خاصة في محلات البقالة الصغيرة وشركات الأغذية العامة التي يملكها مسلمون. ومع ذلك، ظلت هذه الظاهرة هامشية حتى نهاية الثمانينيات، لكنها تطورت في بداية التسعينيات، مع تصاعد حركات الدعوة الإسلامية العابرة للحدود ذات الاتجاه المحافظ، مثل جماعة التبليغ والإخوان المسلمين، بعد استقرار مئات المعارضين الإسلاميين من الجزائر وتونس ومصر وسوريا في فرنسا.
وثانياً، جرى هذا التطور بالتزامن مع توسع سياسة لم شمل الأسرة. فمن خلال انضمام النساء إلى أزواجهن، قدمن مع عاداتهنّ وثقافاتهنّ في أمور الطهي والغذاء، وخاصة في ما يتعلق باللحوم.
ويأتي هذا التوسع في الحلال في الوقت الذي شهدت فيه الإستراتيجية التوسعية للحركات الإسلامية، وخاصة في المناطق ذات الغالبية غير المسلمة، تغييراً على مدار الأعوام العشرين الماضية. فقد أصبحت تعمل على برنامج يهدف إلى القطع مع الإسلام السياسي الذي كان مشروعه أسلمة المجتمع من "فوق"، عبر السيطرة على الدولة، وتوجّهت نحو إعادة الأسلمة من "القاع"، بالاعتماد على مكونات الهوية المختلفة، الثقافية والتربوية، ومن بينها الاستهلاك وإنشاء سوق إسلامي عالمي، وهي النظرية التي طرحها الباحث السويسري باتريك هاييني، في دراسته الرائدة "إسلام السوق: ثورة المحافظين الأخرى".
يدمج هاييني البعد الاستهلاكي والنيوليبرالي في تحليل تحولات الإسلام السياسي، سواء في البلدان ذات الأغلبية المسلمة، في الشرق الأوسط أو في أي مكان آخر، خارج الحدود التي فرضها الإسلام السياسي، ويشير إلى وجود اتجاه إسلاموي جديد أطلق عليه اسم "إسلام السوق" نظراً لارتباطه بمؤسسات اقتصادية تدعمه.
ويسلّط الضوء على الطريقة التي يميل بها التدين، أي الدين على مستوى الأفراد، إلى اتخاذ أشكال جديدة متحررة من المصفوفة الثنائية "العلمانية في مواجهة الإسلاموية"، مشيراً إلى أن الاستهلاك الحلال يقع في قلب تحول عميق ومعولم للإسلام السياسي على وجه الخصوص، ولكن أيضاً للتدين بشكل عام.
إلا أن اعتناء الحركات الإسلامية بتجذير وجودها الاقتصادي في فرنسا أو في غيرها من الدول الأوروبية لا يعني أبداً نهاية البعد السياسي لهذه الحركات، بل إعادة تسييس الديني على أسس نيوليبرالية. فالإسلام السياسي لن يكف عن التعبير عن نفسه في لبوس ديني متجدد.
رصيف 22