د. عماد بوظو:
تم الإعلان في أواخر عام 1987 عن تأسيس حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، التي تنص المادة الثانية من ميثاقها على أنها "جناح في التنظيم العالمي للإخوان المسلمين أكبر الحركات الإسلامية في العصر الحديث". وأعلنت الحركة فور تأسيسها أنها لا تؤمن بوجود أي حق "لليهود" على أرض فلسطين التاريخية التي هي "وقف" إسلامي، لأن المسلمين فتحوها بالقوة، والأرض التي تفتح عنوة تنتقل إلى سيادة الدولة الفاتحة، والفتح اختصاص إسلامي "لأنه جاء لإنقاذ العباد والبلاد وتحرير الإنسان، ولم يكن يوما احتلالا، ولذلك فقد أقر أهل البلاد السابقين المسلمين الفاتحين ورحّبوا بهم".
وبذلك أورث الله هذه الأرض للمسلمين إلى يوم القيامة، ولم يعد من الجائز التصرف بها إلّا وفق مراد الله، وهي وقف لجميع المسلمين من مشارق الأرض لمغاربها ولا تخصّ شعبا مسلما دون آخر، ومن المحرّم على أي شخص قبول تعويض عن أرضه في أي تسوية أو حل "لأن أوطان الإسلام لا تقبل التنازل أو التعويض عنها بحال من الأحوال ومن فعل ذلك فقد خان الله ورسوله وجماعة المؤمنين".
وترى الحركة أن فلسطين قضية دينية لأنها تضم مقدّسات إسلامية، وتحريرها لا يمكن أن يتم إلا بالجهاد الذي هو فرض عين على كل مسلم. وقال القيادي البارز في "حماس" محمود الزهار أن "تحريرها حقيقة قرآنية ستتحقق قريبا والجيل الحالي سيصلّي في المسجد الأقصى محرّرا".
وبما أن التسويات السياسية تعني التسليم ببقاء الاحتلال في بعض المناطق فإن هذا يدخل في نطاق المحظور الذي لا يمكن القبول به في الفقه الإسلامي، ولذلك يرفض ميثاق الحركة كل ما يسمّى الحلول السلمية للقضية الفلسطينية، كما يرفض استبدال إسلامية فلسطين الحالية والمستقبلية وتبنّي الفكرة العلمانية، فإسلامية فلسطين جزء من أساس الدين، وعلى أتباع الديانات الأخرى أن يكفّوا عن منازعة الإسلام في السيادة على هذه المنطقة حسب المادة 31 من ميثاق الحركة.
هذا المزيج من الأساطير وأحلام اليقظة هو البرنامج السياسي لحركة "حماس"، والذي لا يتضمن آليّات أو وسائل واقعية لتنفيذه. فأقصى ما بإمكان الحركة فعله على أرض الواقع هو إصدار بيانات شجب واستنكار وتنظيم مسيرات احتجاج في المناسبات الدينية والوطنية وبناء ورشات لتصنيع صواريخ بدائية، من غير المستغرب أن يتم تصنيف مستخدميها بالإرهابيين لأنها أسلحة عمياء غير دقيقة، كما أنها لا تستطيع إحداث فرق ذو قيمة في ميزان القوى العسكري فالفجوة التكنولوجية مع إسرائيل هائلة.
ومع تزايد صعوبة تسويق مثل هذا البرنامج قامت الحركة بإصدار وثيقة عام 2017، استبدلت فيها بعض مفردات الميثاق دون إحداث فروق جوهرية في مضمونه. وفي النتيجة لم ينجم عن سيطرة حركة "حماس" على قطاع غزة إلا مزيد من بؤس ومعاناة شعبها وانخفاض في مستوى المعيشة إلى أقل من نصف مستواه في الضفة. لكن في متناول الحركة ذريعة مثلى تستطيع إرجاع كل المصائب إليها وهي الاحتلال.
ولكن ذريعة الاحتلال لا تفسّر مغادرة الكثير من المسيحيين لغزة بعد انسحاب إسرائيل وسيطرة حركة "حماس" عليها، إذ رغم قول "حماس" بأنها لا تتعامل مع المسيحيين على أساس ديني، ولكن بعض أعضائها كتبوا على جدران منازل مسيحيين وقتها "بعد السبت يأتي الأحد" في إشارة إلى الرغبة بالتخلّص من مسيحيي غزة، مما لعب دورا في انخفاض عددهم من بضعة آلاف وقتها إلى بضع مئات اليوم. ونتيجة أسلمة المجتمع الفلسطيني بشكل عام فقد انخفضت أعداد المسيحيين في الضفة أيضا حتى وصلت عام 2017 إلى 45 ألفا 2 في المئة منهم في غزة.
ولو كان الاحتلال هو السبب لما كانت أعداد المسيحيين قد ارتفعت في إسرائيل نفسها من 34 ألفا عام 1949 إلى 177 ألفا عام 2019، لتكون إسرائيل البلد الوحيد في الشرق الأوسط الذي ازدادت فيه أعداد المسيحيين، بل يتميّز مسيحيو إسرائيل بأنهم أكثر تعليما من اليهود والمسلمين ولديهم أعلى نسبة من الأطباء ومن خريجات الجامعات من النساء.
وكذلك لا دور لإسرائيل في الهجوم العسكري الواسع الذي قامت به حركة "حماس" على أجهزة السلطة الفلسطينية ومؤسسات منظمة التحرير في غزة عام 2007 والذي قتلت فيه وأصابت بإعاقات دائمة مئات الفلسطينيين. ثم ما هي مسؤولية الاحتلال عن سياسة "حماس" الإقليمية التي لم تترك لها كثيرا من الأصدقاء، فالحركة تعتبر الحكم المصري خائنا لأنه وقّع اتفاق سلام مع إسرائيل، وبالمقابل تتهم السلطات المصرية حركة "حماس" بأنها قامت ببناء علاقات مع بعض عشائر سيناء لتهريب أسلحة وغيرها للقطاع مما ساعد على تحويل هذه المنطقة إلى بؤرة للتنظيمات الإرهابية.
وعلاقة "حماس" المتوترة مع الأردن هي نسخة مماثلة لعلاقتها مع مصر، كما تدهورت مؤخرا علاقة "حماس" مع دول الخليج لوقوف الحركة المكشوف مع إيران مما دفع السعودية لاعتقال عشرات الفلسطينيين بتهمة الانتماء لتنظيم إرهابي وجمع أموال بطريقة غير مشروعة، فما كان من الحوثي إلا عرض مبادلة هؤلاء المعتقلين مع أسرى سعوديين لديه، وما أعقبه من ترحيب "حماس" بهذه المبادرة لتؤكد الحركة بذلك أنها فصيل رئيسي في المحور الإيراني، رغم أن السعودية هي أكثر الدول العربية والإسلامية تبرّعا للشعب الفلسطيني، لكن إخلاص "حماس" الشديد لإيران تجلّى في وقوفها مع النظام السوري ضد الشعب الذي ثار عليه، مما يدل على أن "حماس" لم تدرك حتى الآن أنها لا تقف بسياساتها هذه ضد حكومات وأنظمة عربية بل ضد أغلبية شعوب المنطقة بما فيهم الشعب الإيراني نفسه.
وكما نجحت "حماس" في خلق الكثير من الأعداء الإقليميين فقد كان لها نجاح مماثل في خلق أعداء دوليين، لأنها بفكرها الأصولي القادم من غياهب التاريخ تعتبر الغرب "صليبي" وترفض ديمقراطيته وانفتاحه وحريّته ومفاهيمه، لكنها لا تستطيع إعلان ذلك فتقول أنها تختلف فقط مع بعض قادة الغرب حتى لا تبدو على حقيقتها تنظيم إسلامي متطرّف، خصوصا لأن الضفة وغزة تتلقّى أعلى معدلات المساعدات الدولية في العالم فقد حصلت بين عام 1994 وعام 2019 على ما يعادل 35.4 مليار دولار أتى أغلبها من الاتحاد الأوروبي وأميركا والسعودية والإمارات الذين تعتبرهم حماس من أعدائها.
أي أن برنامج هذه الحركة وضع الفلسطينيين أمام طريق مسدود. لا هم قادرون على تحقيق النصر ولا هم راغبون بالسلام فلم يبقى أمامهم سوى الإحباط والغضب الذي تستثمره الحركة في تجنيد جيل جديد من اليائسين في صفوفها، ولكن "حماس" اليوم ومع زيادة تعقيدات الموقف الإقليمي والدولي أصبحت أمام مفترق طرق: إمّا ترك السلطة والاعتراف بفشل برنامجها، أو الإصرار على متابعة خياراتها الخاطئة ودفع غزة نحو التحوّل رسميا إلى أمارة إسلامية لا تختلف كثيرا عن نظيراتها في الصومال وأفغانستان.