بابكر فيصل:
دخلت ثورة السودانيين شهرها الثاني وما يزال مدّها يتعاظم ويتصاعد، رغم العنف الشديد الذي تواجه به مليشيات نظام الإخوان المسلمين وأجهزة أمن الجنرال عمر البشير المتظاهرين العزل حيث حصد رصاصهم الغادر أرواح خمسين محتجا وجرح المئات بينما امتلأت السجون والمعتقلات بالآلاف من النساء والرجال.
وعلى الرغم من الحجم الكبير للتظاهرات وحملة القمع الشديدة التي أطلقها النظام بوجه المحتجين، فإن وسائل الإعلام الرئيسية، في الدول الغربية على وجه الخصوص، لم تقم حتى الآن بتغطية الأحداث بالصورة المناسبة التي تعكس للعالم حقيقة ما يدور في السودان.
كذلك بدت مواقف المجتمع الدولي غير متناسبة مع التنكيل الشديد بالمحتجين، حيث صمتت الدول المجاورة للسودان عن القتل المجاني للمتظاهرين ولم تبد مواقف متعاطفة مع الشعب السوداني، بل إن بعضها عبر عن دعمه للنظام الحاكم مثلما فعلت مصر وجنوب السودان، بينما صمتت إثيوبيا عن جرائم الجنرال البشير.
أما المنظمة القارية، أي الاتحاد الأفريقي، فقد آثرت أن تسير في نهجها الدائم الذي لا يراعي لمشاكل الشعوب ولا يعبر عن تطلعاتها المشروعة، حيث وضعت الجاني مع الضحية في كفة واحدة ودعت على لسان رئيس مفوضيتها، موسى فكي، "جميع الأطراف إلى ممارسة أقصى درجات ضبط النفس في الفترة المقبلة"، وعجزت عن إدانة استخدام الحكومة للعنف المفرط في مواجهة التظاهرات السلمية.
وكذلك الحال مع جميع الدول العربية، ومنظمتهم الصورية "جامعة الدول العربية" التي فشلت في الإعلان عن مواقف صريحة وواضحة تحمِّل النظام الاستبدادي مسؤولية إراقة الدماء وإزهاق الأرواح ومصادرة الحريات، بل إن جلّ هذه الدول عبرت بطرف خفي عن مساندتها لنظام الجنرال القاتل.
أما الدول الغربية الراعية لقيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وعلى رأسها دول أوروبا والولايات المتحدة الأميركية وكندا، فقد اقتصرت مواقفها على إصدار بيانات تعرب فيها عن قلقها من استخدام الحكومة للعنف المفرط تجاه المتظاهرين، كما أنها ناشدت الحكومة بضرورة السماح بتسيير المواكب السلمية كما هو منصوص في القانون.
ومثلها فعلت الأمم المتحدة التي انتقدت على لسان المفوضة السامية لحقوق الإنسان, ميشيل باشليه، "استخدام الأجهزة الأمنية في السودان للعنف المفرط والذخيرة الحية ضد المتظاهرين" ودعت لحماية الحق في التجمع السلمي.
ومن ناحية أخرى فإن الدول الحليفة للنظام، أي قطر وتركيا وروسيا، أعلنت بوضوح وقوفها ومساندتها لحملة الديكتاتور في مواجهة شعبه؛ وقد أشارت عديد من الصحف من بينها صحيفة "التايمز" البريطانية إلى أن مرتزقة من شركة "واغنر" الروسية القريبة من الكرملين يساعدون الجنرال البشير في قمع المتظاهرين الذين يواصلون الاحتجاجات ضد حكمه.
إن اكتفاء الدول الكبرى، وأعني على وجه التحديد الولايات المتحدة الأميركية، بمجرد إبداء القلق إزاء أفعال النظام المجرم يلقي بظلال كثيفة سالبة على مواقفها كدولة عظمى، فالأخيرة هي زعيمة العالم الحرّ ويتوقع منها أن تتخذ مواقف تتناسب مع حجمها، حيث لم يصدر عن الرئيس دونالد ترامب أو وزير خارجيته حتى الآن أية تصريحات جدية من شأنها أن تجعل الجنرال البشير يفكر مليا قبل أن يستمر في قتل شعبه!
من المعلوم أن للولايات المتحدة الأميركية وحلفائها الأوروبيين الكثير مما يمكن تقديمه لوقف القمع الذي يمارس على المواطنين العزل، ومن ضمن ذلك التحذير الواضح بأن القتلة من أفراد الأجهزة الأمنية والمليشيات الموازية يتحملون بصفتهم الشخصية مسؤولية جرائمهم، كما أن عقوبات رادعة يمكن أن تفرض على النظام وعلى المسؤولين الحكوميين الكبار الذين يصدرون أوامر القتل والتعذيب.
كذلك يمكن للإدارة الأميركية أن تعلن الوقف الفوري للمرحلة الثانية من الحوار المباشر الذي بدأته مع نظام الخرطوم، وهي المرحلة التي من شأنها أن تفضي للتطبيع الكامل للعلاقات بين البلدين، خصوصا وأن هذه المرحلة تتضمن بنودا حول مدى التزام الجنرال البشير وحكومته بإتاحة الحريات والسير في طريق التحوّل الديمقراطي واحترام حقوق الإنسان.
إن التباطؤ في اتخاذ قرارات حاسمة من قبل المجتمع الدولي سيعطي النظام الضوء الأخضر للاستمرار في تنفيذ حملة القمع والقتل الممنهج المستمرة منذ أكثر من شهر، وهو الأمر الذي ستترتب عليه نتائج كارثية في المستقبل إذا ما ضاق الشعب السوداني بالطرق السلمية في التعبير وقرر الانتقال لشكل آخر من أشكال المقاومة، وهو الأمر الذي رأينا عواقبه في دول مثل ليبيا وسوريا.
من المعلوم أن للنظام السوداني تفاهمات مع الدول الغربية في ملفات متعلقة بقضايا الإرهاب والهجرة غير الشرعية وتهريب البشر، وهو الأمر الذي يجعل تلك الدول تتأنى كثيرا في ممارسة الضغط على الجنرال وحكومته، ولكن من المهم الإشارة إلى أن استمرار حملة العنف والتنكيل بالشعب السوداني، ستؤدي إلى ردة فعل غير محسوبة العواقب ربما تكون نتيجتها خلق حالة من الفوضى في بلد ينتشر فيه السلاح بكثافة وهو الأمر الذي سيخلق أجواء مناسبة للحركات الإرهابية ومنظمات الجريمة العابرة للحدود.
قد أوضحت التجارب في سوريا وليبيا أن غضّ الطرف عن ممارسات الحكام الديكتاتوريين وتركهم يعبثون بمقدرات شعوبهم ويصادرون الحريات وينهبون ثروات بلادهم ستكون له عواقب وخيمة لا يقتصر أثرها السلبي على تلك الدول فحسب، بل يمتد إلى بقية دول الإقليم والعالم. بالتالي، يجدر بالمجتمع الدولي، حرصا على مصالحه إن لم يكن دفاعا عن القيم الإنسانية، أن يسعى لإيقاف نزيف الدم في السودان على وجه السرعة وقبل أن تتفاقم الأوضاع.