ما موقفنا نحن… من ضميرنا التاريخي عندما نعرف أننا رفضنا تحريم العبودية وتأخرنا عن الاعتراف بخطأ العبودية مائة سنة أو أكثر بعد تحريم الغرب لها؟ وما موقفنا من الشريعة التي لا زالت ترى أن العبودية حكم دائم لا ينتهي حتى ولو علقنا أحكامه اليوم للضرورة؟
لقد قرر الغرب أن يحاكم ماضيه بمعايير اليوم، ولم يقل إن العبودية كانت مقبولة في ذلك الحين وإن من مارسوها يظلون عظماء ومقدسين. فما هو موقفنا في هذه اللحظة التاريخية في الحرب ضد العنصرية وجذورها؟
حسين الوادعي:
جميعنا نتذكر كيف تفاعلنا مع قصة كونتا كنتي، الشخصية الرئيسية في رواية جذور، الذي استعبده البيض وانتزعوه من قريته الإفريقية ليرموه في مزارعهم الواسعة عبدا بلا حقوق ولا كرامة. وجميعنا قد لعنّا الاستعمار الغربي تأثرا بهذه الملحمة الروائية. لكننا ننسى أن الفقه الإسلامي حول العبودية إلى حكم شرعي… ولو أن رواية “جذور” قد كتبها مؤلف عربي في القرن الماضي، ولو كان كونتا كنتي عبدا لتاجر مسلم، لاحتج عليها الفقهاء لأنها تخالف صريح الإسلام عملا بحديث العبد الآبق في صحيح البخاري عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقول: (أَيُّمَا عَبْدٍ أَبَقَ مِنْ مَوَالِيهِ فَقَدْ كَفَرَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْهِمْ).
إن الغزو الاسلامي لإفريقيا لم يكن هدفه الرئيسي نشر الإسلام بقدر ما كان هدفه استعباد أكبر عدد ممكن من السكان الأصليين ونقلهم إلى أسواق النخاسة الإسلامية.
كان الأفارقة يختطَفون خصيصا للعمل في المزارع وفي الأشغال الشاقة التي تحتاج قوة بدنية، وهو أيضا نفس هدف البيض من تجارة العبودية عبر الاطلنطي.
بل أن لفظ “الزنجي” كان متداولا في الأدبيات الإسلامية قبل تداوله في الأدبيات الغربية بقرون. ومع كل هذه التشابهات بين بشاعة الاستعباد الغربي للأفارقة والاستعباد الإسلامي للأفارقة، إلا أن المسلم لا يكل ولا يمل من التنديد بالعبودية الغربية، دون أن يحس بأي تناقض أخلاقي وهو يقرأ عن استعباد أجداده لشعوب الأرض شرقا وغربا.
يبرر الاعتذاريون المعاصرون ممارسة الإسلام للعبودية بكونها كانت ممارسة معروفة وطبيعية ولم يكن الإسلام استثناء في ذلك. وهذا التبرير فيه كارثتان.
الكارثة الأولى أنه يساوي بين دين إلهي وممارسات بشرية. فإذا كان الناس قبل وأثناء ظهور الإسلام قد مارسوا العبودية، فالسبب في ذلك أنهم كانوا على ضلالة حسب التفسير الديني، وأن الله أرسل أنبياءه لهدايتهم. لكن، أن يرسل الله أنبياءه ليعيدوا ممارسة نفس الممارسات البشعة واللاإنسانية، فهذا ليس له إلا تفسيران، كل تفسير أسوأ من الآخر.
التفسير الأول أنه لم يكن هناك وحي ولا دين إلهي وأن الإسلام مجرد اجتهاد بشري من محمد، والتفسير الآخر أن الله سبحانه وتعالى ليس ضد العبودية ويراها ممارسة طبيعية ومقبولة دينيا.
والمخرج الوحيد من هذا المأزق هو المخرج الذي يتهرب منه أغلب المسلمين، هو الإقرار أن الاحكام التشريعية التي نزلت على الرسول هي أحكام وقتية محكومة بزمنها وكان يجب أن تنتهي؛ وأن استمرار العبودية لمدة 14 قرنا خطأ تاريخي كارثي يتحمله المسلمون فقهاء وفلاسفة وحكاما ومصلحين، ويجب الاعتذار عنه اعتذارا جماعيا صريحا.
فلو كنا قد حسمنا معركتنا مع العبودية، لربما تجنبنا فضيحة استعباد داعش لليزيديين، أسوأ وأوسع استعباد حصل لجماعة بشرية منذ إلغاء العبودية قبل 200 عام.
قلت إن العبودية في العالم الإسلامي انتهت في الواقع. لكنها لا تزال مقبولة من الناحية الدينية والفقهية. لكن كلامي هذا غير دقيق، فلا تزال العبودية موجودة في الواقع في اليمن والسودان وموريتانيا ودول أخرى قد لا نعرفها. وأنا هنا أتحدث عن العبودية بمعناها الكلاسيكي المتمثل في بيع وشراء الرجل أو المرأة كعبد أو جارية بعقد بيع شرعي يتم تعميده من المحاكم، ولا أتحدث عن العبودية الحديثة (تهريب البشر) السرية والمخالفة للقانون.
عام 2009، وثقت إحدى المحاكم في محافظة حجه شمال اليمن، عملية بيع العبد قناف ابن الجارية سيار إلى أحد مشائخ المنطقة مقابل حوالي 2500 دولار. بعد ذلك، قام الشيخ بإعتاق العبد تكفيرا عن ذنب ارتكبه!
كشفت هذه الحادثة عن ما أسميه تناقض الضمير الإسلامي تجاه قضية العبودية.
كشفت هذه الواقعة أيضا عن استمرارية الأفكار والتشريعات الدينية التي تراها ممارسة مقبولة. والأهم أنها كشفت عن استمرار العبودية في شكلها الكلاسيكي في مناطق مختلفة في اليمن، من بينها حجة وصعده والحديدة.
في إحدى الحالات، كان مالك العبيد يفتخر أنه يرسل عبيده إلى السعودية للتسول ويرى أن من حقه هذا لأنهم “مجرد عبيد” لا قيمة لهم.
اتضح أيضا أن ممارسات النوم مع الجواري كانت مستمرة أيضا في هذه المناطق. فمالك العبيد يرى من حقه ممارسة الجنس مع نساء عبيده عندما يصلن سن البلوغ. في نفس الفترة أيضا، كان هناك نقاش عن ظاهرة العبودية في موريتانيا واستمرار قبولها شرعا وقانونا.
كل هذه التناقضات كان لها أثرها في الموقف الفقهي والشرعي الإسلامي حول العبودية. من النادر جدا أن تجد رأيا شرعيا يقر بتحريم العبودية. بل إن الغالبية العظمى من الفتاوى (الإجماع حسب اللغة الفقهية القديمة) تدور حول نفس الفكرة (العبودية انتهت في الواقع لكن حكمها لا زال قائما شرعا)!
في هذه النقطة بالذات، يبدو العالم الإسلامي البقعة الوحيدة في العالم والمنطقة الثقافية الوحيدة التي لم تحسم موقفها الإخلاقي من قضية الحرية. أبسط تجليات ذلك هو استمرار الحديث عن عبيد وجواري الصحابة والخلفاء في الكتب المدرسية دون أي محاكمة أخلاقية أو توضيح تاريخي للسياق.
سيصبح المسلمون قادرين على فتح نقاش صادق حول العبودية والعنصرية في الحالات التالية:
– عندما يتوقفون عن الحديث عن تحرير بلال بن رباح، ويتحدثون عن مئات آلاف الأحرار من النساء والأطفال الذين تم استعبادهم في غزوات أوطاس وبني قريظة وحنين وبني المصطلق وحروب الردة والقادسية واليرموك و”فتح” الشام ومصر وإفريقيا والهند وغيرها.
– وعندما يتوقفون عن الحديث عن الإحسان للعبيد، ويتحدثون عن الأحاديث الصحيحة التي قالت إن العبد الذي يسعى لحريته كافر.
– وعندما يتوقفون عن إدانة العبودية الغربية لإفريقيا التي استمرت 400 سنة، ويتحدثون عن العبودية الإسلامية التي عانت منها إفريقيا وآسيا وجنوب أوروبا حوالي 1300 سنة.
– وعندما يتوقفون عن تداول صور أسواق العبيد في أوروبا وأمريكا، ويتداولون صور أسواق العبيد في مكة والمدينة والقاهرة ودمشق وبغداد والحديدة وصنعاء وكافة المدن الكبرى في العالم الإسلامي… الأسواق التي استمر بعضها حتى ستينات القرن الماضي.
– وعندما يتوقفون عن سرد حكايات تمرد العبيد في المستعمرات الأمريكية، ويتحدثون عن ثورة الزنج في العصر العباسي التي كشفت وحشية ولا إنسانية التعامل الإسلامي مع العبيد حتى صار الموت عندهم أفضل من الحياة.
– وعندما يكفون عن لعن الغرب بسبب سياسة الفصل العنصري التي استمرت حتى منتصف القرن العشرين، ويتحدثون عن رجال الدين المسلمين الذين لا زالوا يعتبرون العبودية حكما إلهيا مقدسا حتى اليوم ومن ألغاه فهو كافر.
– وعندما يتوقفون عن إدانة الغرب لتأخره في تحرير العبيد إلى القرن الثامن عشر، ويتحدثون عن تأخر العالم الاسلامي إلى منتصف القرن العشرين لإلغاء العبودية، على استحياء، في بعض القوانين.
سيصبح المسلمون قادرين على فتح نقاش مثمر حول العبودية والعنصرية والتبرؤ منها عندما يعرفون أن الدولة الإسلامية كانت صاحبة واحدة من أطول وأوسع ممارسات العبودية في التاريخ، استمرت 14 قرنا وطالت كل الاجناس وأغلب القارات.
ها هو العالم الغربي يعيد مراجعة ورفض تاريخه العنصري.
وها هي الشوارع تموج بالمتظاهرين الذين يزيلون من الشوارع تماثيل أشخاص كانوا من أبطالهم التاريخيين، لكنهم قرروا القطيعة معهم بسبب ماضيهم في تشجيع العبودية وممارستها.
فحطموا في أمريكا تماثيل جيفرسون ديفيز رئيس الولايات الجنوبية التي دافعت عن العبودية، وتمثال كولومبس مكتشف العالم الجديد… في بريطانيا، حطموا تماثيل إدوارد كولستون وروبرت ميلغان بسبب ماضيهم في تجارة العبيد رغم إنجازاتهم الأخرى. في بلجيكا، حطموا تماثيل الملك ليوبولد، أشهر ملوكهم بسبب مذابحه في الكونغو…
فهل نستفيد نحن العرب والمسلمين من هذه الحركة لنقطع صلتنا بالروايات المقدسة والممارسات العبودية والنصوص المدافعة عنها؟
ما هو موقفنا مثلا من مرويات السنة الصحيحة التي تقول إن العبد الذي يهرب من أجل استعادة حريته كافر؛ كما جاء في مسلم عن جرير: “أيما عبد أبق من مواليه فقد كفر حتى يرجع إليهم”؟ وفي رواية أخرى: “إذا أبَقَ العَبْدُ لَمْ تُقْبَلْ له صَلاةٌ”!!
وما هو موقفنا من ممارسات الصحابة الذي باعوا واشتروا في العبيد وأسروا واستعبدوا أحرارا في غزواتهم و”فتوحاتهم”؟
كيف نتعامل مثلا مع عمر ابن الخطاب الذي كان يضرب الجارية إذا تشبهت بالحرة، أو علي بن أبي طالب الذي كان لديه 15 جارية يتمتع بهن وعشرات العبيد لخدمته؟
نعم… هم كانوا أبناء زمنهم… لكن، ألا يعني تقديسهم تقديس هذه الممارسات وشرعنتها والتمهيد لعودتها؟
وماذا عن الخلفاء والسلاطين الذين نعظمهم والذين استكثروا من الجواري والعبيد حتى أن بعضهم امتلك 3000 جارية للمتعة ولا زلنا نعلم أولادنا في المدارس سيرته!
ثم، ما موقفنا نحن من ضميرنا التاريخي عندما نعرف أننا رفضنا تحريم العبودية وتأخرنا عن الاعتراف بخطأ العبودية مائة سنة أو أكثر بعد تحريم الغرب لها؟
وما موقفنا من الشريعة التي لا زالت ترى أن العبودية حكم دائم لا ينتهي حتى ولو علقنا أحكامه اليوم للضرورة؟
لقد قرر الغرب أن يحاكم ماضيه بمعايير اليوم، ولم يقل إن العبودية كانت مقبولة في ذلك الحين وإن من مارسوها يظلون عظماء ومقدسين.
فما هو موقفنا في هذه اللحظة التاريخية في الحرب ضد العنصرية وجذورها؟