محمد يسري:
لئن كان التاريخ هو أحد أضلاع مثلث الهوية (التاريخ- اللغة- الدين)، فقد كان من الطبيعي -والحال كذلك- أن يؤثر بشكل فعّال في الحاضر المُعاش في كافة المجتمعات الإنسانية على حد سواء. في المجتمعات العربية المعاصرة، يحضر التاريخ بشكل أكثر تأثيراً وفاعلية من خلال مجموعة كبيرة من الصور الذهنية الشائعة، والتي تقدم لنا سرديات مُتخيلة لما كان عليه أسلافنا في العصور الغابرة.
في الحقيقة، كان الارتباط المنعقد بين التاريخ العربي الإسلامي من جهة والدين الإسلامي من جهة أخرى، سبباً إضافياً في تكثيف الحضور التاريخي في الزمن الحاضر. بموجب ذلك الارتباط لعبت السرديات التاريخية الإسلامية أدواراً مهمة على مسرح الأحداث السياسية، والمجتمعية، والفكرية في البلدان العربية والإسلامية. نلقي الضوء في هذا المقال على بعض الآثار السلبية الناجمة عن شيوع التناول التراثي للتاريخ الإسلامي في الزمن الحاضر.
غياب التفسيرات العقلانية والموضوعية
تسبب التماهي بين الديني والتاريخي في الحالة الإسلامية في طرح حلول غير موضوعية، مبنية بالمقام الأول على النظرة الدينية المُتخيلة لماض طوباوي مجيد، مُحاط بهالة من هالات التقديس. اختارت مجتمعاتنا إرجاء الإجابة عن الكثير من الأسئلة الإشكالية العالقة، والتي تتعلق بالصعوبات الاقتصادية والأخلاقية والسياسية. ولجأت إلى التاريخ المقدس في محاولة للحصول على حلول لتلك المشكلات؛ على سبيل المثال تم الربط بين التمسك بالدين وقوة الدولة وصلاح حال المجتمع.
وردد التراثيون أن حال المجتمع لن ينصلح إلا بعد التزام النساء بارتداء الحجاب. كما أشاعوا أن الأزمات الاقتصادية الطاحنة التي تعاني منها المجتمعات الإسلامية لن تنقشع إلا بالعودة لصحيح الدين والالتزام الكامل بالشعائر الدينية وتطبيق الشريعة الإسلامية. في هذا السياق شاعت مجموعة من القصص التاريخية الزائفة -والتي حاول المرددون لها أن يثبتوا من خلالها أفكارهم ليس إلا- من أشهر تلك القصص أن الأندلس إنما سقطت بسبب قدوم زرياب إليها وانشغال الناس به ونسيانهم أمر دينهم.
للأسف تحولت تلك القصص التاريخية الزائفة إلى ما يشبه البديهيات، وتمكنت من فرض نفسها في بنية العقل الجمعي الشعبي المعاصر في المجتمعات العربية؛ الأمر الذي أدى بالتبعية إلى تغييب التفسيرات العقلانية والموضوعية من المشهد الثقافي بشكل كبير.
تبرير الاستبداد وإعطاء المسوغ الشرعي للديكتاتوريات المعاصرة
يمكن القول إن الأوضاع السياسية الصعبة التي تعيشها معظم البلدان العربية والإسلامية حالياً هي نتاج طبيعي للصور الذهنية النمطية المُتخيلة لعصور الخلافة الإسلامية الغابرة. رسم المؤرخون المسلمون القدامى في مؤلفاتهم صورة متعالية ومتجاوزة لصاحب السلطة. تحدثوا عن السلطان باعتباره ظل الله في الأرض، وأنه صاحب الكلمة العليا التي لا تُرد، والذي يملك الحكم النافذ الذي لا سبيل للاعتراض عليه أو لنقضه.
وأسهبوا في وصف شجاعته وقوته وبأسه، وكيف أنه نكل بالمخالفين واعتاد أن يبطش بهم على مرأى ومسمع من الجميع. بالمقابل، لم يول المؤرخون اهتماماً يُذكر بالشعوب والعوام، واعتادوا على تهميش المجتمع في السواد الأعظم من مؤلفاتهم. كان الخليفة/السلطان/الأمير/الحاكم إذاً هو محور التاريخ، وكأنه القطب الذي تدور الدنيا من حوله بلا اعتراض أو نقاش.
لم يكن المؤرخون المسلمون في طرحهم هذا نموذجاً شاذاً عن باقي المؤرخين المعروفين في العصور الوسطى. ولكن المشكلة الرئيسة أن نموذج "السلطان المستبد" الذي رسم مؤرخو الإسلام سلطته، قد تماهى بشكل ما مع الدين الإسلامي نفسه، خصوصاً بعدما أقر الفقه الإسلامي ما يُعرف باسم الحاكم المتغلب والذي يصل إلى كرسي السلطة بحد سيفه دونما اعتبار لرأي الأمة أو لحاكمية الشعب.
كل ذلك نتج عنه صورة ذهنية تؤيد حكم السلطة الديكتاتورية وتقدسها، وتهمش من أهمية التفاعل الديموقراطي معها باعتبار أن الشورى معلمة وليست ملزمة. استقرت تلك الصورة في الذهنية الجمعية الإسلامية القرن أوسطية. وانتقلت من جيل إلى آخر، حتى وصلت إلى عصرنا الحاضر. وقدمت المسوغ الشرعي والتبرير الفقهي لكافة صور الاستبداد المنتشرة في البلدان العربية.
من هنا، لم يكن من الغريب أن نجد أن الأغلبية الغالبة من العوام قد صاروا يبحثون عن المستبد العادل بدلاً من أن يسعوا خلف الديموقراطية والشورى. وفي هذا السياق انتشرت القصص -شبه الأسطورية- عن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، الذي كان يتفقد أحوال الناس فيجبر الضعيف، ويساعد المسكين، ويحنو على الفقير.
وتناقل الناس قصة زهد عمر بن عبد العزيز وأن عماله كانوا يخرجوا بأموال الزكاة والصدقات في الشوارع فلا يجدون فقيراً أو مسكيناً. كما شاع خبر الحملة التي شنها الخليفة المعتصم بالله على البيزنطيين لما عرف أن إحدى المسلمات نادت عند أسرها "وامعتصماه". وهكذا، لعب حضور التاريخ الإسلامي دوراً سلبياً في ميدان العمل السياسي المعاصر في مجتمعاتنا، عندما تسبب في شرعنة الاستبداد من خلال إعطائه صورة مثالية مقدسة.
إشعال الصراعات القديمة
تسبب حضور التاريخ العربي الإسلامي في المجتمعات العربية المعاصرة في إشعال العديد من الصراعات التراثية القديمة. لا يزال الصراع -حتى اللحظة- قائماً بين أهل السنة من جهة والشيعة من جهة أخرى، وبرغم مرور ما يزيد عن أربعة عشر قرناً على انتهاء عصر الفتنة والحرب الأهلية بين الصحابة، إلا أن أصداء تلك الخلافات لا تزال حاضرة ومؤثرة في الواقع المُعاش.
نظرة واحدة إلى المنطقة العربية ستثبت أن التاريخ لا يزال صاحب اليد الطولى في التأثير. عانت كل من العراق ولبنان واليمن وسوريا من خطر الحروب الأهلية القائمة على استدعاء الأطراف السياسية المستفيدة للسرديات التاريخية المذهبية، السنية كانت أم الشيعية. أيضاً وجدت الصراعات العرقية التي امتدت على مدار القرون.
هناك الإرث العدائي القديم بين العرب والفرس. يحتكم الطرفان إلى الأخبار التاريخية التي تدعم النظرة الاستعلائية لكل منهما. يرى الفرس أنهم أصحاب الحضارة الأرقى والأقدم وأن العرب ليسوا إلا شعوباً بدوية أقل تحضراً. على الجهة الأخرى يروج العرب لأنفسهم باعتبارهم أصحاب الدعوة الإسلامية، وأنهم الذين نشروا هذا الدين في ربوع بلاد فارس التي كانت تسير في طريق الضلال وتعبد النار ولا تعرف غير أباطيل المجوسية والوثنية.
يشتعل الصراع نفسه بين الفرس والأتراك. كما يشتعل بين الأتراك والكرد. في أقصى المغرب الإسلامي، سنجد أيضاً علامات هذا الصراع العرقي التاريخي بين العرب والأمازيغ. يحتكم الطرفان للتاريخ، فبينما يرى الأمازيغ أنهم أصحاب البلاد الأصليون وأن العرب مجرد حفنة من الغزاة الذين سرقوا خيرات بلادهم واستعمروها، فإن العرب يحتكموا لسردية تاريخية أخرى، تروج لهم باعتبارهم الفاتحين الذين نشروا نور الإسلام في تلك البلدان البربرية الوثنية. معنى ذلك أن التاريخ أصبح وسيلة بيد مختلف العناصر الفاعلة في الواقع المعاصر، وأن كل عنصر يستدعي السردية التي تمنحه الشرعية اللازمة لتحقيق مآربه. وهكذا استُخدم التاريخ كغطاء أيديولوجي لخدمة البرغماتية السياسية.
تصاعد النزعة الشوفينية
تسبب الحضور التاريخي -المقدس- في المجتمعات العربية المعاصرة في إنتاج سردية استعلائية/شوفينية إلى حد بعيد. أمام حالة الإخفاقات المتوالية التي عانى منها المسلمون/العرب في العصر الحديث، أنتجت المنظومات التراثية سردية مُتخيلة. تعمل تلك السردية على تمجيد الماضي من خلال إلقاء الضوء على بعض النقاط واقتطاعها من السياق التاريخي العام.
الضعف التي يعاني منها المسلمون عبر تكثيف الحديث عن المعارك الحربية التي انتصر فيها أسلافهم ومنها كل من القادسية واليرموك وملاذكرد وحطين وعين جالوت وموهاكس وغيرها. أما في ما يخص النواحي العلمية والفكرية، فقد تناسى التراثيون الوضع المتدهور للتعليم في البلدان العربية حالياً، وعملوا على الترويج للفكرة التي تزعم أن المسلمين هم أصحاب الحضارة التي نشرت النور في كافة أنحاء القارة الأوروبية في العصور الوسطى.
وتفاخروا بإرث العلماء الكبار من أمثال كل من ابن سينا، وابن الهيثم، وجابر بن حيان، وابن رشد، وابن طفيل، وغيرهم. وأشاعوا -أي التراثيون- أن هؤلاء العلماء هم الذين تسببوا في النهضة الأوروبية الكبرى التي يجني الغرب ثمارها حالياً. بموجب تلك النظرة صارت منتجات الحداثة الغربية التي يعيش العرب عليها، مجرد ردّ لدين قديم ليس إلا.
وصار بوسع شيوخ الزوايا والمساجد أن يتفاخروا بماض مجيد عظيم، كان المسلمون فيه أصحاب العلم وحملة مشاعل التنوير، وكانت اللغة العربية فيه هي اللغة الأكثر رقياً وانتشاراً في العالم المتقدم. كما كانت بغداد وقرطبة ودمشق والقاهرة أعظم المدن حضارةً وأكثرها رخاءً وتقدماً.
يمكن القول إن تلك الادعاءات -في حقيقتها- ليست سوى نوع من أنواع الاستجابة التفاعلية العكسية مع حالة الاضمحلال والتردي التي تعيشها البلدان العربية. تعكس نبرة الاستعلاء في الخطاب التراثي الإسلامي إقراراً ضمنياً بالخضوع والهزيمة. كما يُظهر الخطاب ملامح مرثية بكائية يتحسر أصحابها فيها على الماضي العظيم الذي تحول لحاضر بائس.
يتغافل التراثيون عن الكثير من الحقائق التاريخية التي تتعارض -بشكل صارخ- مع الأفكار التي يروجون لها؛ على سبيل المثال، لقي المسلمون القدامى العديد من الهزائم العسكرية كما حققوا الكثير من الانتصارات. كان حالهم كحال أي شعب/أمة؛ تنتصر أحياناً وتُهزم في أحيان أخرى. لم تتعلق نتيجة المعارك بالالتزام بالدين وبالشريعة، بل ارتبطت -بالمقام الأول- بمجموعة من المعايير الدنيوية البحتة والتي تعطي أهمية كبرى لقوة الجيش، وقوة العدو، وظروف المعركة، والإمدادات العسكرية، والتخطيط، وغير ذلك من الأمور التي اعتمدت عليها جيوش العصور الوسطى. من جهة أخرى، يتغافل التراثيون عن إكمال الحقيقة في ما يخص الحديث عن علماء المسلمين والأدوار التي اضطلعوا بها.
لا يذكر هؤلاء أن العلماء كانوا -في أغلبهم- من الفلاسفة أو الكيميائيين أو من معتنقي المذاهب غير السنية. ولا يذكرون أن الاعتقاد الإسلامي التقليدي يرى أن هؤلاء العلماء مجموعة من المبتدعين أو الهراطقة أو الزنادقة. وأنه كثيراً ما تعرض هؤلاء للنفي والسجن وحرق الكتب على يد الساسة والحكام بمباركة كاملة من الفقهاء التقليديين المعاصرين لهم. فبأي منطق إذاً يتباهى التراثيون بهؤلاء العلماء؟
النقطة الأخرى التي يتناساها التراثيون أن ما قام بها العلماء المسلمون كان -في حقيقته- حلقة في سلسلة طويلة متعددة الحلقات. اضطلع علماء المسلمون بدور مهم في المعرفة الإنسانية، ولكنهم لم يكونوا نموذجاً شاذاً أو متفرداً. أخذ هؤلاء العلماء الحكمة والعلم من كتب اليونانيين والسريان والفرس، وأعادوا التفكر فيها وصبغوها بصبغة زمنهم، فأضافوا إليها وحذفوا منها ونقحوها، ثم أعادوا تصديرها للقارة الأوروبية، فتلقفتها منهم وقام علماؤها بالأمر نفسه.
إعاقة النهضة المنشودة
أسهم الحضور الطاغي للتاريخ العربي الإسلامي في واقعنا المُعاش في إعاقة النهضة وإبطاء عجلة التحديث. سيطرت المفاهيم التاريخية التراثية على الوعي العربي المعاصر إلى حد بعيد؛ الأمر الذي تسبب بالتبعية في رفض العديد من المفاهيم المعاصرة. على سبيل المثال ساعد الحضور التاريخي -بشكله التراثي- في رفض شكل الدولة القومية الحديثة، وفي تهميش القانون، وغياب مفهوم المواطنة، واستبقاء مفهوم أهل الذمة.
تصاعد النزعة السلفية الماضوية والنظرة المؤامرتية
ساعد الحضور التاريخي على التمسك بالنظرة السلفية المحضة. ساد الاعتقاد بأن القرون الأولى هي قرون خيرية مثالية، وأن أفضل ما يمكن حدوثه أن نستعيد ذكريات ذلك الماضي المجيد. انعكس ذلك على رؤيتنا لذلك الماضي عندما اعتبرنا أنه ماض مقدس لا يقبل الخطأ. يظهر ذلك بشكل واضح في النظرة التراثية لحقبة الحرب الأهلية في صدر الإسلام، عندما تم إضفاء الصفة المقدسة عليها، مما أدى إلى تهميش الحس التاريخي في المجتمعات العربية. تم تفريغ السردية التاريخية من حمولتها الأبستيمولوجية المعرفية. وفُرغ الحدث التاريخي من مضمونه. ولم يعدّ بوسعنا الاستفادة به بعد تحول إلى سرديات حكائية تغلب عليها الصفة الوعظية.
من جهة أخرى، تسبب الحضور التاريخي -التراثي النزعة- في استشراء نظريات المؤامرة. تلك التي ترى أن ثمة جهة خارجية قد اضطلعت بالدور الأهم في تفجير الأوضاع وإثارة القلاقل بين المسلمين بعضهم بعضاً. ظهرت تلك الفكرة المؤامرتية منذ حُمل عبد الله بن سبأ المسؤولية عن إراقة دماء عشرات الآلاف من القتلى الذين راحوا ضحية للحروب التي دارت بين الصحابة وبعضهم بعضاً.
واستمرت تلك الفكرة قائمة حتى اللحظة من خلال الحديث عن دور الغرب في إثارة الثورات وإحداث الفتن في بلداننا الهادئة والمستقرة. تسببت تلك النظرة في تحويلنا من فاعلين إلى مفعول بهم، وسلبتنا الاعتقاد بأننا نمتلك القدرة على التأثير والتغيير. فانتقلنا من المتن إلى الهامش، وركنا إلى الزمن المُتخيل الذي لم يوجد قط إلا في سردياتنا الطوباوية التي هي إلى الأمنيات أقرب منها إلى الواقع.