حسين عبدالحسين:
أعلنت وزارة الداخلية الفرنسية عزمها حلّ جمعيتي "متحدون ضد الإسلاموفوبيا في فرنسا" و"مدينة البركة"، بعدما قام إرهابيون إسلاميون فرنسيون بقتل أستاذ مدرسة كان استعرض رسومات يعتبرها الإسلاميون مسيئة لرسولهم.
وللقراء من غير المطلعين على الفارق في التسميات، كلمة إسلاميين تعني من يستخدمون الدين الإسلامي كبرنامج سياسي ينجم غالبا عنه العنف، فيما تسمية مسلمين تعني المؤمنين بالدين الإسلامي كمنظومة روحانية للعبادة.
قصة "الإسلام السياسي" بدأت في العام 1798 مع رسو سفن الفرنسي نابليون بونابارت على شواطئ مصر، وقيامه وجيشه باجتياحها وإقامته بعثات اكتشاف علمي فيها. التفوق الذي رآه مسلمو مصر والمشرق دفعهم إلى التأمل في تأخر عالم المسلمين عن أوروبا المسيحية، ومع حلول العام 1850، علت أصوات المسلمين المطالبين بالتغيير للحاق بركب الحضارة، وتصدّر تلك الأصوات رجلا الدين جمال الدين الأفغاني والمصري محمد عبده.
احتار مفكرو "النهضة العربية" في كيفية الإصلاح: هل يتطلب الحل إصلاح النصوص الإسلامية أم إصلاح المسلمين؟ تطور فكر النهضة في اتجاهين، واحد نقدي تجديدي، من أمثال طه حسين، سعى لثورة داخل الإسلام على طراز الإصلاح والتنوير في أوروبا، وآخر محافظ من أمثال رشيد رضا وحسن البنا، ثم سيد قطب، رأى أن الحل يكمن في العودة إلى ماض ٍذهبي ـ متخيل في الغالب ـ أي زمن الخلفاء الراشدين.
لاحقا، استهوت عسكر العرب فكرة فصل الدين عن الدولة، إذ هي أعطت جنرالات الانقلابات شرعية قومية غير دينية لم تكن معتادة في دول المسلمين. وعزز صعود النازية والفاشية في أوروبا، وبعدها طغيان الشيوعية في الاتحاد السوفياتي، ارتباط الدولة المدنية العربية بالدكتاتورية. أما المؤسسة الدينية غير الرسمية، فحوّلت المساجد إلى منابر ضد الجنرالات ودولهم المدنية، وتحول أئمة المساجد إلى قادة ثوريين، وتجلى التحام الإسلام بالثورة في إيران، التي مزج إسلاميوها الشيعة بين إمامهم الحسين، المقتول في كربلاء، والشيوعي الأرجنتيني الفنزويلي تشي غيفارا، المقتول في بوليفيا.
ودخل الصراع بين العسكر والإسلاميين الحلبة الدولية، فاصطف العسكر خلف موسكو، ودعمت واشنطن الإسلاميين ضد الشيوعية الملحدة، إلى أن انهارت الشيوعية، فأدار "الإسلام السياسي" عدوانه ضد أميركا والغرب لاعتقاده أنه نجح في تدمير قوة عظمى واحدة، ومضى في طريقه لتدمير القوة العظمى المتبقية.
حوّلت هذه الحروب الدين الإسلامي والمسلمين إلى ضحية المواجهة بين العسكر و"الإسلام السياسي"، من ناحية، وبعد ذلك بين "الإسلام السياسي" والغرب، من ناحية ثانية. وأسبغ "الإسلام السياسي" صورة عنفية غير صحيح على الدين الإسلامي، وتحولت النصوص التي يستند اليها الإرهابيون الإسلاميون في عنفهم إلى شأن عالمي، وأقنعت الكثيرين في الغرب والعالم أن مشكلة المسلمين هي نصوصهم ودينهم وتعاليمهم، وهذا غير صحيح، والدليل أنه على مدى القرون الأربعة عشر الماضية، أي منذ ظهور الإسلام، مرت قرون كثيرة تعايش فيها المسلمون مع اليهود والمسيحيين بود ووئام، على رغم من أن النصوص بقيت نفسها على مدى الألفية والنصف.
طبعا هذا لا يعني أن تاريخ المسلمين خال من العنف، إذ على العكس من ذلك، لطالما حمّل بعض المسلمين نصوصهم ما لا تحتمله، وشنوا حروبا دموية، غالبا ضد بعضهم البعض، فحروب المسلمين الأهلية أكثر من أن تحصى، إلى أن قامت الدول القومية المدنية، فخرج الدين الإسلامي من حلبة الصراعات السياسية، إلى أن أعاده الإسلاميون.
قام الإسلام في أساسه على الهداية، واعتبر نفسه دينا عالميا لكل البشر، لا للمسلمين وحدهم، وقال كتاب المسلمين إن عيسى المسيح بشّر بنبي بعده اسمه أحمد، وبشر يسوع المسيح في الإنجيل بالفارقليط مخلّصا بعده، واعتبر المسلمون نبيهم فارقليطا. والخلاص هنا هو خلاص روحي وعبادة توحيدية، لا دولة وسبايا وأمراء وفكرا قرسطويا معاديا للحرية والإنسانية.
في التقليد الإسلامي، محمد ليس رسولا للمسلمين وحدهم، بل للبشرية أجمع، وهذا يعني أن من يؤمن به ورسالته يؤمن، ومن لا يؤمن به، حسابه يوم الحساب. لكن الإسلاميين الإرهابيين نصبوا أنفسهم ذراع العدالة الإلهية، فراحوا يقتلون من يكفر، ويفرضون الدين عنوة، مستندين إلى آية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه حولها فقه واجتهاد واختلاف، وهي لا تعني في أي وجه من وجوهها استخدام العنف أو الإكراه، حتى في المجتمعات ذات الغالبية السكانية الإسلامية.
"الجمهورية الإسلامية" الشيعية في إيران، أكبر راعية للإرهاب في العالم، و"الدولة الإسلامية" الدموية في العراق، وبعدها "في العراق والشام"، وقبلها "الإمارة الإسلامية" طاغية أفغانستان، كلها ثمرة اجتهادات وفقه لا إجماع عليه، وهي ناجمة عن فكر غيبي سطحي، يقدم غطاء دينيا كاذبا لعنف العصابات، ويصوّره جهادا في سبيل الإسلام، فيما المسلمون ودينهم منه براء.
لم يشهد التاريخ على دولة إسلامية واحدة ناجحة أو مفيدة للمسلمين. حتى الخلافة "الذهبية" الراشدية شهدت اغتيال ثلاثة من خلفائها الأربعة، وبدأت بحروب ردة بين العرب وانتهت بحرب أهلية بين المسلمين.
هذا الفشل المزمن للإسلام السياسي دفع المسلمين إلى الفرار من دولهم إلى دول العالم التي فتحت أبوابها لهم، وبدلا من أن يكافئ بعض المسلمين هذه الدول بالتآخي مع سكانها والتساوي معهم في المواطنية، أقاموا "دويلات إسلامية" أسموها جمعيات، واستنبطوا عداوات وهمية مع نظرائهم في الوطن، من قبيل "إسلاموفوبيا"، وراحوا يمارسون عنفا لطّخ صورة المسلمين جميعا.
اليوم، يعرف المسلمون أنه مشتبه بهم في كل مطار في العالم، والسبب هو قيام الإسلاميين باستغلال ثقة أمن المطارات لقتل وتفجير الأبرياء. ويعرف المسلمون أن غير المسلمين ينظرون إليهم على أنهم برابرة يعادون الحرية، وتسودهم العصبية، وأن شرّهم مستطير.
في كل واحدة من هجمات الإسلاميين يموت أبرياء، مسلمون وغير مسلمين، وفي كل واحدة من هجمات الإسلاميين يضعون فيها المسلمين ودينهم في قفص الاتهام بالعنف والبربرية. الإسلاميون هم أعداء المسلمين.